قصص

قصه منارة بورسعيد

“القصة مستوحاة من أحداث حقيقية”
جالك في يوم إحساس إنك مش هتبقى زي باقي الناس؟ ليك مستقبل عظيم، مش هتبقى مجرد ساقية بتلف وترجع مكانها من غير ما تقف، حياتك مش هتبقى روتينية، مش مملة زي حياة ناس كتير حواليك؟
أهو ده كان حالي طول الوقت، دايمًا كان عندي إحساس قوي إن في عالم عظيم مستنيني، عالم تاني مختلف، مش هفكر فيه في فلوس، مش هتبقى مشكلة أصلًا، مفيش المشاكل اللي بتنغص حياة البشر الشقيانين في العالم بتاعنا…
أنا مش انطوائي، على العكس تمامًا، اجتماعي، وزي ما بيقولوا كده “حبوب” أو بمعنى أصح ده اللي الناس فاكراه…
ببان كده، ببان حد سهل تتعرف عليه وتندمج معاه، سهل أكون صديق لأي حد بقابله، لكن الحقيقة اللي أنا بس عارفها إني عامل سور عالي محدش بيتخطاه، مبنى مخفي جوايا، شباكه مضلم بحيث محدش يقدر يشوف اللي جواه، محظور، مينفعش! من الآخر مكنش عندي صديق قريب بأتمنه على أسراري وحياتي الشخصية…
بس ده اتغير إلى حد ما لما دخلت الجامعة….
اتعرفت على ولد وبنت، احنا التلاتة برغم الاختلافات الواضحة طلعنا شبه بعض أوي، شبه بعض لدرجة مرع.بة…
يعني أنا مثلًا كنت معروف في الدفعة كلها، كل الناس بتحبني، لازم أسلم على أي حد بقابله وطول الوقت بهزر وبتكلم، شاب اجتماعي، قال يعني وكده…
“وئام” كانت لابسة نضارة، لمة شعرها الطويل الدهبي بتوكة على شكل كحكة كده متكروتة، كإنها بتنزل كل يوم مستعجلة من بيتها، وليها هدف واحد، هو حضور المحاضرات والتركيز فيها والتسجيل ورا الدكاترة، ودي يتقال عليها “نرداية” أو “دحيحة” زي ما الكتاب قال…
أما “راغب” فكان الشاب الوسيم الغامض، ملامحه مميزة، شعره إسود فاحم وعنيه غامقة ولونه أبيض، ساعات بيبقى شاحب، لأ وكمان إيه، يلبسلي اسود في اسود ويركب موتوسيكل وييجي بيه الجامعة كل يوم، شاب خط.ر مفيش كلام، كان كلامه قليل ونبرته واطية أوي، وكتير بيلبس نضارة الشمس حتى جوه المدرج، اللي خياله واسع شوية ممكن كان يقول عليه “مصاص د.ماء”، وفعلًا طلع عليه لقب “فام.بير فنون” بما إننا كنا في فنون جميلة وكده، تركيبته كانت مختلفة تمامًا عن “وئام”، “وئام” جد أوي ومنط.وية وخجولة وملهاش في الهزار ولا الاجتماعيات، هو كان شاب خ.طير، تحسه من عص.ابات حواري شيكاغو!
وأكيد أكيد أنا كنت ابان مختلف تمامًا عن الاتنين، ومرة في التانية جمعتنا مناسبات مختلفة، دروس بره الجامعة، بنش واحد، قعدات مراجعة جماعية قبل الامتحانات، مشاريع، المهم إننا مع الأيام اكتشفنا الشبه المرع.ب اللي ما بينا، ما بين الشاب الاسمراني أبو ضحكة حلوة اللي هو أنا (زي ما الناس يعني كانت بتوصفني) والدحيحة وفامبير فنون، اكتشفنا إننا كلنا عندنا نفس الإحساس، إننا هنعمل حاجة عظيمة، حاجة الناس كلها تتكلم عنها، وإننا بنستتفه أغلب العقول اللي بنتعامل معاها، وملناش صبر على السطحية ولا النكد وجلد الذات والبكاء على الأطلال، زي ما معندناش صبر على التحوير والكدب والناس اللي بتعمل صحاب عشان مصالح والسلام، لكن في نفس الوقت متصالحين تمامًا مع فكرة المصالح، أهم حاجة الوضوح، اللي يبقى عايز مصلحة يقول من غير لف ودوران ولعب دور الصديق الحميم، هي الدنيا أصلًا مصالح، وكلنا محتاجين لبعض، كمان كان عندنا نسبة من النرج.سية وحب الذات والذكاء الحاد…
كل واحد فينا شاف في التاني كنز، إننا ممكن نساعد ونكمل بعض، نشيل بعض على الأكتاف عشان نوصل للقمة، ونجحنا في ده نجاح ساحق، الدليل على كده إننا في أول ترم جبنا تقديرات مش بطالة لكن من ساعة ما قربنا اوي من بعض وبقينا نساعد بعض في المشاريع والمذاكرة، بقينا أول 3 في الدفعة، لما حد فينا بيخيب كان بيجيب جيد جدًا، وبكده الدنيا اتحددت ووضحت، احنا التلاتة بقينا دايمًا مع بعض، مش بننفصل أبدًا، وإن كنت لسه حبيب الكل، لكن بشكل سطحي من غير ما حد يعرف عني حاجة إلا “وئام” و”راغب” نسبيًا يعني، هم أقرب اتنين ليا مش في الجامعة بس، في العالم ده…
وفاتت السنين، واتخرجنا…
كان نفسنا نعمل أي مشروع مع بعض، يكون لينا الشركة بتاعتنا، كل واحد بالتلت، لكن طبعًا ده مكنش هيحصل علطول، محتاجين تخطيط كويس ورأس مال، فاشتغلنا موظفين في شركة واحدة، مع الأيام كنا بننشغل أكتر وأكتر، حياتنا تقريبًا بقت شغل وبس، لحد ما في يوم لقينا “وئام” داخلة علينا وبتقول بتحمس:
-ما تيجو ناخد إجازة!
رديت عليها:
=وهو بالساهل كده، وهيسبونا احنا التلاتة ناخد إجازة مرة واحدة، وهنعمل إيه بيها؟
-يا عم واحدة واحدة عليا، اه هيسيبونا، احنا بقالنا سنة شغالين ومحدش قدم على إجازة، حتى لما كنا بنعيا كنا بنييجي على نفسنا ونحضر ونشتغل زي الحمار المعذب في إيد مكاري مبيرحمش، حقنا…نجرب نقدم على إجازة، محدش هيقولنا حاجة، بالنسبة بقى لنعمل إيه بيها، فاحنا بقالنا كتير مطلعناش طلعات رسم، فاكرين الطلعات دي؟
رد عليها “راغب”:
-اه طبعًا، لما كنا بننقي مكان رايق أو أثري وناخد عدة الرسم والاستاندات بتاعتنا ونطلع على هناك ونقعد بالساعات نرسم المشهد قدامنا ونقارن رسوماتنا ببعض، طلعات الاستجمام دي، شباب بقى ماحنا كنا شباب..
-اتكلم على نفسك، أنا لسه شباب، ورأيي إننا نجدد شبابنا، نروح مكان جديد مروحناهوش قبل كده، ونرسم…
بصراحة أنا مكنتش متحمس للفكرة في البداية، طلعة رسم إيه، احنا بقالنا كتير معملناش كده، وبقى كل اللي شاغل بالي الشغل والتارجت والديد لاين وشوية الراحة اللي في آخر اليوم، ده في الأيام يعني اللي فيها راحة، بس بعد ما رجعت البيت وركزت كده لقيت إني بقيت النموذج اللي بكر.هه، واللي كنت واخد عهد على نفسي إني مش هكونه، الترس والطاحونة والساقية اللي مش بتبطل حركة في نفس المكان!
كلمت الاتنين مكالمة مشتركة واتفقنا تاني يوم نقدم على الاجازة….
وقدمنا على الطلب واتقبل، خمس أيام بحالهم غير يومين الاجازة المعتادين، وبما إن الفكرة كانت فكرة “وئام” من الأول فأنا و”راغب” وكلناها في مهمة اختيار المكان اللي هنروحه…
وشها كان مشرق وهي بتقول:
-منارة بورسعيد القديمة…
قلت:
=منارة إيه وبورسعيد إيه، إحنا في عز الشتا، ممكن يبقى في نوه والجو مش مستقر و..
-ده الجو المثالي! الدنيا رايقة ومفيش هناك زحمة ومحدش بيزور المنارة، هنبقى إحنا لوحدنا، وأسعار الأوتيلات عشان مش موسم هتبقى معقولة أوي، بورسعيد كلها والمنارة بالذات هتبقى بتاعتنا إحنا وبس، والمنظر هناك رهيب…
واستكمالًا لتحدي نفسي وإطار الموظف المطحون اللي بقيت فيه وافقت، واتحمست أكتر لما شفت صور للمنارة دي…
المنارة اتبنت سنة 1869 وفضلت شغالة لأكتر من 100 سنة، بس هو ده اللي كنت أعرفه عنها، باقي المعلومات كانت عند “وئام”، ومكنتش متخيل إني هبقى مهتم بتاريخ المنارة ولا أي معلومات عنها، المهم بالنسبة لي المنظر اللي بتطل عليه…
حضرت شنطة سفري وكراستي والاستاند بتاعي واخدت بعضي واتكلنا على الله…
صحيح سر تفوقنا احنا التلاتة إننا كنا دايمًا بنساعد بعض، بس ده ميمنعش إن كان ما بينا منافسة دايمًا، كل واحد عايز يبقى الأحسن، بالذات في موضوع الرسم ده، اللي كان بره المناهج والدراسة والمشاريع، الفرصة اللي كل حد بيسعى يثبت فيها إنه أحسن واحد، الفن اللي من غير قيود وقواعد، بيعتمد بس على الخيال والابتكار وإيد الرسام…
ودي كان نيتي، كنت هرسم أحسن منظر من المنارة…
طبعًا أول يوم لينا في بورسعيد كان ضايع، أكلنا واتجولنا في المدينة ومهوبناش ناحية المنارة وقررنا نتحرك تاني يوم من بدري…
كل واحد طلع من أوضته على المعاد اللي اتفقنا عليه بالظبط ومعانا العدة بتاعتنا، فطرنا واتكلنا على الله…
كان في عربية مستنيانا، كله ترتيب “وئام”، السواق كان راجل ضلم كده وكشري، كإنه مكنش طايقنا وبيقطم في الكلام، واكتشفت إنه مش مجرد سواق، ده كان دليل أو مرشد محلي مدي على موظف، متعرفلوش، وده لإنه مش مجرد وصلنا لقدام المنارة، ده كمان نزل معانا ومشي قدامنا وطلعنا كلنا مع بعض…
الصراحة أنا مكنتش أتخيل!
إيه الجمال ده؟؟ اه الجو كان برد وكانت في رياح كمان ومطر خفيف والموج مكنش هادي والشمس وجودها كان بسيط بس المنظر كان رهيب أو يمكن كل اللي قلته هو اللي خلى المنظر رهيب…
لو كنت أعرف مكنتش جادلت مع “وئام” ولا ثانية وأظن ده برضه اللي كان بيدور جوه “راغب”…
-الموقع ده بقى أثري فبقولكم أهو تخلوا بالكم أوي، يا ريت متهوبوش ناحية حاجة ومتلمسوش حاجة، تاخدوا قعدتكم وتتكلوا على الله…
فقت على صوت الراجل المز.عج ، حقيقي أنا مش فاهم هو متوقع مننا نعمل إيه في المنارة، إيه الفوضى اللي ممكن تتعمل؟
لكن ممكن يكون عنده حق، المكان أثري وواضح إنه من المعالم المهمة…
طمنناه إننا هنحافظ على المكان زي ما قال وهو مشي وسابنا…
احنا التلاتة بس اللي كنا في المنارة، معرفش ده بسبب إن المنارة عامة مش تريند، محدش بييجي في باله يزورها، ولا عشان مكناش في موسم الأجازات والصيف؟ ما علينا، دي حاجة أنا كنت مبسوط بيها…
فردنا الإستاندات وكل واحد وقف قدام بتاعته وحطينا الورق عليها…
-تعرفوا إن المنارة دي من سنة 1900 وهي مش شغالة بانتظام؟
“وئام” رمت جملتها وسكتت..
“راغب” بصلها أوي وقال:
-شوقنا أكتر شوقنا!
-كده كده المنارات في وقتنا مبقاش ليها فايدة زي زمان، بس المنارة دي بالذات أحوالها كانت عجيبة، أوقات كده تشتغل وأوقات لأ…
“راغب” قال لها بعصبية:
-أنا شايف يا “وئام” إنك تبطلي كلام، مش عايزين نتشتت، وبصراحة مش متحمس خالص أسمع تاريخ المنارة…
بصيت ل”راغب” بخب.ث وقلت:
=لأ، أنا بالعكس شايف إن قصة المنارة هتساعدنا في الرسم، هتخلينا نشوف المنظر قدامنا بشكل أعمق من روح الأحداث اللي حصلت فيها…
اللي قلته ده طبعًا كان كيد في “راغب” و”وئام” ما صدقت…
-المنارة كان دايمًا فيها عمال، مش واحد لوحده، اتنين على الأقل بيقعدوا فيها ويشغلوها من بعد ما الشمس تغيب، أوقات كانت بتبقى مناوبات، واحد يصحى وواحد ينام وأوقات تانية بيسهروا مع بعض، والمنارة مكنتش مكتب أو مصلحة الواحد يخلص فيها شغله وبعدين يمشي، لأ دي كانت المكان اللي العامل بيعيش ويموت فيه…الواحد مش عارف إيه السر، ليه عمال المنارة عادة مش بيبقى ليهم حياة براها وبيختاروا يعيشوا فيها مع إن مش مطلوب منهم يترهبنوا، مش من متطلبات الوظيفة يعني إنهم يعيشوا فيها وميبقاش ليهم حياة تانية، مهو يأما نوعية الشغل بتجذب النوع ده من البشر، محبي العزلة وزاهدين الدنيا يأما دي مجرد صدف، الله أعلم، المهم إن الأمور كانت روتينية، العامل بيعمل نفس الشغل كل ليلة لحد ما ييجي أجله ويتبدل بواحد تاني وهكذا، لحد شهر ديسمبر سنة 1900، في الوقت ده كان في 3 عمال بيشتغلوا مع بعض، كانوا من أنجح العمال اللي عدوا على تاريخ المنارة وكانوا منسجمين جدًا مع بعض، هم كانوا شباب، الكبير فيهم في الاربعينات ومع ذلك كانوا زي الأخوات أو الأصحاب اللي عدى بيهم الزمن وولادهم وأحبابهم بعدت ما بينهم المسافات واتلموا وبقوا ونس لبعض، مفيش ليلة عدت من غير ما نور المنارة ينور البحر على مسافة بعيدة، والوضع استمر على كده سنين، من وقت ما آخر واحد فيهم اتعين وبقوا فريق، وجت ليلة البحر ضلم ومكنش حتى في نور للقمر يهدي بيه السفن!
وده مكنش بس غريب، كان مستحيل…
منطقيًا كده مش ممكن يحصل، زي لو الشمس في يوم مطلعتش…
العمال مشغلوش المنارة….
المسؤولين عن المنارة عرفوا بالموضوع وبعتوا 2 موظفين تاني يوم الصبح يحققوا مع العمال ويعرفوا منهم إيه اللي حصل للمنارة…
سألتها:
=هاه والموظفين لقوا إيه؟
-ملقوش حد!
=إزاي يعني، العمال راحوا فين؟
-العمال اختفوا ولحد النهارده محدش عرف حصل لهم إيه…
“راغب” ساب الفرشة من إيديه وسألها:
-هو إيه ده اللي لحد النهارده، هم العمال مكنوش متغيبين عن شغلهم، مزوغين يعني؟
-لأ مكنوش متغيبين عن الشغل، ال3 عمال اختفوا من على وجه الأرض، مرجعوش بيوتهم ولا اتشافوا في الأماكن اللي بيترددوا عليها ولا في بورسعيد كلها، اختفوا…
دخلت أنا وسط كلامهم وقلت:
=هو كان في عهدة معاهم؟ فلوس، أي حاجة قيمة؟
-اه، قصدك يعني يكونوا سر.قوا العهدة وهربوا، لأ مكنش في عهدة، كان في صندوق عدة، لكن الصندوق كان موجود، وكل حاجة تانية خاصة بيهم كانت موجودة…
معرفش، بعد اللي قالته “وئام” لقيتني تلقائيًا بمد إيدي على درجة أغمق من اللي كنت هرسم بيها البحر!
“راغب” سأل:
-وبعدين، حصل إيه؟
=ولا حاجة، خلصت الحدوتة، من ساعتها والناس بقت خايفة تشتغل في المنارة، مبقاش في رجالة بتقدم على الشغل لفترة والناس بقت تخا.ف تهوب من المنارة والمنطقة حواليها، وبعد شوية حتى لما جم عمال مكملوش شهر ومشيوا والمنارة فضلت على ده الحال شوية يقعد فيها عمال وشوية تبقى مهجورة، وكل العمال اللي جم من بعدها مصمدوش لوقت كبير وقالوا يا فكيك، عشان كده الشغل مكنش فيها منتظم…
أنا بقيت أسمعهم بس، بسمع ومركز أوي في اللي بيتقال ومركز في نفس الوقت مع الرسم، ملامحي بعد ما كانت مرتخية بقت جامدة، الابتسامة اختفت من على وشي، حواجبي قربوا من بعض، وعيني ثبتت ما بين الورقة وبين المنظر وراها…
-تعرفوا إيه أغرب حاجة في الموضوع؟
-ده غير إن 3 رجالة اختفوا في نفس الوقت وملاقولهمش أثر؟
-اه يا “راغب”، غير كده…سراير العمال التلاتة مكنتش مترتبة، وجواكيتهم متعلقة…
-اه، فكي ألغازك يا حجة…
-دي مش من عادتهم، مش ممكن كانوا يقوموا ويسيبوا فرشهم مش مترتب، كانوا عاملين زي ظباط الجيش المنضبطين، مش بس بيرتبوا سرايرهم، كمان دايمًا شكلهم كان مهندم، لبسهم نضيف ومكوي، زي طبيعة شغلهم اللي عايزه انضباط ونظام، بالنسبة بقى للبلاطي اللي الموظفين لقوها متعلقة فده برضه مش منطقي لإن الجو كان برد جدًا، شبه الوقت اللي احنا فيه ده والدنيا كانت بتمطر كتير، ممكن تعدي أيام من غير مطر، بس متوقع تمطر في أي لحظة، لكن أغرب حاجة بقى…الساعات!
-ساعات؟
-اه، الساعات في المنارة، أربع ساعات، منهم ساعتين متعلقين في الحيط في أماكن مختلفة، وساعتين من اللي بيتعلقوا في جيوب البناطيل لقوها في سراير العمال، ساعات شخصية، الساعات كلها واقفة وفي نفس المعاد!
=8 وربع؟
الاتنين بصولي باستغراب و”وئام” قالت:
-عرفت منين؟ مفيش ذكر للميعاد في القصة، حسب ما وصلتلي يعني…
رفعت عيني وبراسي شاورت على الساعة في الحيطة قدامنا، الساعة كانت واقفة على 8 وربع!
إيه السذاجة والسطحية بتاعتي دي؟؟ ما طبيعي الساعة تكون واقفة، ده مكان أثري مبقاش مكان شغل، المنارة بطلت تشتغل من زمان، أكيد القائمين عليها مش هيهتموا يغيروا البطارية بتاعة الساعة، وأكيد أكيد الساعة مش هتكون واقفة من ساعتها، إيه واقفة من 122 سنة؟؟
رجعت تاني بصيت للورقة وكملت رسم، وفضلت مكمل حتى بعد ما سمعت الصوت، اللي سمعه برضه “راغب” و”وئام”، صوت حاجة وقعت على الأرضية الخشب!
“راغب” قال:
-إيه ده؟
“وئام” ردت بسؤال:
-وقع منين؟ من الدور اللي فوقينا؟
وارد، في شوية هوا حلوين كافين يحركوا الحاجات من مكانها، ده اللي فكرت فيه بس فضلت ساكت، معلقتش…
“يتبع”
“الجزء الثاني”
إحنا التلاتة متحركناش من مكاننا لثواني، كإن كل واحد مستني التاني ياخد الخطوة الجريئة ويروح يشوف اللي وقع، لحد ما “وئام” اتحركت..مشيت ببطء لحد ما وصلت للي وقع، رفعته…كان دفتر تخين مترب..
=إيه ده يا “وئام”؟
-شكلها كده كراسة.
=ما واضح إنها كراسة، كراسة إيه؟ حاجة تبع المتحف، فيها مفرداته مثلًا، وصف للمنارة والأنتيكات اللي فيها؟
-وأنا هعرف يا “ألفي” من الغلاف بتاعها مثلًا؟ زي المسلسلات اللي فيها الممثل بيمسك شوية ورق وبمجرد النظر بيقول “الورق والمستندات دول فيهم كلا خطير جدًا”!
بصتلها بصة ثاقبة من بعيد فيها كل الإهانات الممكنة على تريقتها ليا، وهي هربت من عتابي بفتحها للدفتر…
بدأت تقرا اللي مكتوب:
“المنارة مختلفة! الأجواء هنا غير في أي مكان تاني لدرجة إني اتشجعت ابدأ أكتب عنها وعن إحساسي بيها واليوميات بتاعتي وأنا عمر ما خطرت الفكرة في بالي، عمر ما كان ليا جورنال أكتب فيه يومياتي، أهو ده تأثير المنارة والجزيرة اللي عليها….
“راغب” قال:
-إيه الكلام الغريب ده، مين اللي كتبه؟
أنا كان في بالي كذه سؤال على تعليق لكن سكتت وفضلت مكمل في الرسمة بمنتهى الجدية..
“وئام” قالت وهي بتقلب في الصفحات:
-معرفش، بس اللغة قديمة شوية ومن منظر الدفتر واضح إنه قديم أوي فعلًا.
كملت قراية:
“الناس اللي عايشة قريب من الجزيرة لما عرفوا إني العامل الجديد نظراتهم وردود أفعالهم كانت مري.بة، مش فاهم، أنا مش أول عامل في المنارة، ده جه قبلي كتير، فضلوا يقولولي “حاول متبعدش عن زميلك، خصوصًا بعد نص الليل، ومتنزلش من المنارة مهما حصل ومهما سمعت وكلام من ده…”
“وأديني قابلت “جرجس”، العامل اللي هشتغل معاه، “جرجس” مبقالوش كتير لوحده، دايمًا بيبقى في أكتر من عامل، اللي كان معاه اتوفى من كام أسبوع بس، وده يفسر الكسرة والحزن اللي باينين في وشه…”
“هو بشوش وحاول يحسسني إنه مرحب بيا، لكنه هادي زيادة عن اللزوم والحزن باين أوي عليه، أصل المكان ده..كل حاجة فيه مختلفة، حتى طبيعة الناس اللي بتشتغل في المنارة، واضح إن اللي بيقعد مش بيسيبها إلا لقبره وده أكيد بيخلق روابط عميقة ما بين العمال اللي بيشتغلوا مع بعض، يا ترى هيبقى في نفس الصلة القوية ما بيني وبين “جرجس”؟…
-ثواني كده، هو ده دفتر عامل من اللي كانوا بيشتغلوا في المنارة؟
-أكيد يا “راغب”، دانت نبيه أوي..
-يا ستي إهدي عليا، مش عارف، أنا عندي إحساس قوي إن الدفتر ده ممكن يكون بتاع حد من…
عيون “وئام” فتحت على الآخر، بان عليها التحمس، وفي نفس الوقت كان في ابتسامة سخرية على وشها…
-حد من العمال اللي اختفوا وملقوش ج.ثثهم؟
بص الناحية التانية ومردش عشان فهم إنها بتتريق…
وهي وجهتلي الكلام:
-أنت إيه رأيك يا “ألفي”؟ تفتكر الدفتر أو الجرنال زي ما بيقول الكاتب بتاع واحد من العمال إياهم؟
قلت بجدية مختلفة تمامًا عن نبرتها الخفيفة:
=هنعرف لما تقري أكتر..
-وهي هتقعد تقرا في الدفتر اليوم كله؟ هو ده اللي هنعمله في المنارة؟
قطعت رسمي وبصيت لراغب وقلتله:
=أنا وأنت وهي عارفين إن هو ده اللي هيحصل…اليوم لسه في أوله وهنفضل لحد ما نعرف كل اللي في الدفتر..
“راغب” ملامحه بقت جامدة، كنت قادر أميز إن المود بتاعه اختلف، كإنه أدرك إن اللي بقوله صح، مكناش هنستريح غير لما نعرف قصة الدفتر ده كلها…
“وئام” كملت:
“برغم هدوء “جرجس” ورزانته وحزنه اللي متأكد إنه ضايف على هدوئه هدوء زيادة إلا إننا كل يوم علاقتنا بتبقى قوية أكتر، شوية بشوية، اكتشفت إنه أكبر مني ب 12 سنة بس، لكن اللي يشوفنا ويقعد معانا يحس إن الفرق ما بينا أكتر بكتير، ودي حاجة بتخليني أحترمه أوي، راجل له هيبة برغم هدوءه وسماحة وشه وطبعه الحنون الطيب، بحس إنه بيخاف عليا وبيوجهني كإني أخوه الصغير أو حتى ابنه… مش بيبخل عليا بأي معلومة، لكن إمبارح أول مرة ميجاوبنيش على سؤال، أنا صحيت بدري أوي برغم إني كنت سهران لساعة متأخرة، وقفت اتفرج على البحر من الشباك وساعتها سمعت…
سمعت صوت غُنى ناعم أوي، اشبه بالهمهمات، لكن مكنتش شايف مصدر الصوت، الواضح إن مكنش في غيرنا أنا و”جرجس” على الجزيرة!
لما صحى “جرجس” بعد الضهر بشوية حكتله عن اللي سمعته وسألته عن الصوت، مردش! تجاهلني واتكلم في حاجات تانية، كإني مسألتش أصلًا، مهو لو كان قال لي معرفش، مسمعتش الصوت، أو إني بيتهيألي كنت هصدقه، لكن إنه ميجاوبش دي حاجة مريبة!
وساعتها ظهر “أنور”! لقينا اللي بيدخل علينا الأوضة في المنارة، احنا الاتنين محسناش بحركته، ولا سمعناه بيطلع على السلم، واضح كده إننا الاتنين سرحنا، موضوع الغُنى شغلنا أو بمعنى أصح شغلني أنا، مين “أنور” بقى؟ “أنور” يبقى العامل الجديد اللي هينضم لينا، شاب صغير في العشرينات، شكله كده جديد عالشغل، متهيألي دي أول مهنة ليه، شكله كان ملخبط ومتوتر أوي، الحمد لله إن في اتنين هيساعدوه، أكيد مش هنسيبه محتاس، وزي ما “جرجس” بيعمل معايا هتصرف بنفس الإسلوب معاه، هو…ممكن يكون نفسه صاحب الصوت؟ يكون جه الصبح ورجع في كلامه وبعدين جه تاني مثلًا وهو اللي كان بيغني؟ لكن أنا مرضتش اسأله، نفرض إن الإجابة كانت لأ، هرجع تاني اتشغل وأقول يا ترى مين…”
“تعدي الأيام وأنسى مسألة الهمهمة دي نهائي واتشغل في المنارة والشغل والصداقات الجديدة، لكن حصل حاجة النهارده…اتفاجأنا باللي بينادي تحت المنارة علينا، مش باسمائنا، واحد بعلو حسه بيزعق ويقول :”يا هلا الله يا اللي هنا”، قمت مفزوع وبصيت مالشباك لقيت واحد بعجلة، نزل منها وهو شايل أكياس في إيده، أكياس بيضة بياض ناصع، “لبن”! بدأت أزعق :”انت يا راجل قلقت نومي، إنت متعرفش إننا بنسهر في المنارة”… لقيت “جرجس” قام ومسكني من هدومي مسكة خفيفة، وبعدين بص من الشباك اللي جنبي وقال :”أنت فين يا راجل، تغيب عني بالشهور؟، عاجبك كده اضطر انزل البلد كل فترة وأجيب اللبن بنفسي ويرجع يحمض ومتهناش بيه كله؟
بياع اللبن رد: “معلش بقى يا عم “جرجس”، قلت أجرب حظي في شغلانات تانية، أحسن انت عارف، العيشة صعبة، لكن منفعش بقى ورجعت تاني لمرجوعي”
-ماشي يا خويا هات كيسين وبقولك، بكره تجيبلي معاك شاي وهحاسبك..
“جرجس” فهمني إن عم “حسن” كان بيجيب اللبن كل يوم الصبح وكمان أي حاجة “جرجس” والعامل القديم الله يرحمه كان بيطلبها بالمرة بدل ما يروحوا بنفسهم للعمار ويشتروا اللي ناقص عندهم…
“حسن” طلعلنا في أوضة نومنا وسلم أكياس اللبن ل”جرجس” وبصلي وقال:
-أنت جديد هنا، إيه اللي جابك؟!
إيه اللي جابني؟ إيه السؤال الغريب ده، استنيته يكمل كلامه… قال إن الجزيرة مهجورة وده عشان الناس مش بترتاح تيجي، ولسه كان هيكمل “جرجس” قاطعه وقال له يروح لحاله…كان باين جدًا إن “جرجس” مكنش عايزه يكمل اللي عنده وده طبعًا خلى فضولي يزيد، سألت جرجس ليه الناس مش بترتاح تيجي الجزيرة أو حواليها، فعلًا من النادر إني ألاقي حد معدي بالقرب منا، قال إن “حسن” بيهلفط في الكلام وإني مخدش على اللي بيقوله..هو الصراحة “حسن” ده باين عليه غلبان فعلًا، في إمكانياته وعقله، بياكل الكلام كده ومش بيعرف يعبر كويس ولبسه مش بس بسيط لكن مبهدل وطالع من بعضه وشعره منكوش من تحت الطاقية وشكله أصلًا مكنش غاسل وشه…
“راغب” قاطع “وئام” وقال:
-أموت وأعرف الدفتر وقع منين وإزاي..
“وئام” قالت وهي بتقرب مني:
-أنا اللي هم.وت وأعرفه إزاي يا “ألفي” قادر تكمل رسم عادي مع اللي بقراه ده؟؟
اتنفضت وحركت الستاند، مكنتش عايزها تشوف الرسمة، مش قبل ما أخلصها…
-سيبيه ده متمكن، طول عمره مالتي تاسك، يقدر يعمل كل حاجة في نفس الوقت..
“وئام” قلبت الصفحة وكملت:
“ودي كانت بداية الأحداث الغريبة، بقيت أقوم كتير على صوت الغُنى الهادي قرب المنارة، ده غير الضلال اللي بشوفها من وقت للتاني، اشخاص بيظهروا بليل بس وزي ما يكونوا بيحسوا إني براقبهم من شباك المنارة، وقتها بيجروا بسرعة وبيختفوا! هل دول ناس بجد؟ مين؟ مين دول اللي بييجوا بس بليل وبيتجولوا في الجزيرة؟ ولا تلاقيني اتأثرت بكلام “حسن” وبقى يتهيألي حاجات، معقول؟ الحياة دي تأثر على دماغ الواحد بالشكل ده؟ بس أنا قررت المرة الجاية اللي “حسن” ييجي فيها أحاول أجرجره في الكلام وأعرف منه أكتر عن الجزيرة…
“كنت في حالة استعداد، مش نايم نوم عميق وكل شوية أقلق وأفتح عنيا، وده عشان كنت عايز استفرد بحسن لما يظهر من غير ما “جرجس” أو “أنور” يصحوا، وصحيت مع أول زعيق ل”حسن”، أول ما قال “اللبااان”، اتنفضت وطليت مالشباك وشاورتله عشان يسكت وبإيدي فهمته إني نازل له بنفسي وإنه ميطلعش، نزلت بسرعة وفي نفس الوقت بحركة خفيفة جدًا عشان يفضلوا نايمين…”حسن” لما شافني قال:
-إيه يا أستاذ “جوهر” ليه نزلت بنفسك؟ ما أنا بطلع اللبن كل يوم؟
قلتله بتوتر إن “جرجس” و”أنور” تعبانين وهم اللي سهروا طول الليل وأنا اللي نمت فمش عايز أقلقهم، إنما “حسن” ده برغم بساطته ودماغه الخفيفة فهم إني مش دوغري، رسم على وشه ابتسامة لئ.يمة وحرك راسه من فوق لتحت، وأنا باخد منه اللبن سألته عن الجزيرة وليه الناس مش بتحب تيجي، رد:
-أهو يا استاذ “جوهر”، زي مانت شايف، مفيش أكل عيش هنا ولا عمار، الأرض اللي ورا الجزيرة فاضية، لا سكن ولا محلات ولا أسواق، هييجوا يعملوا إيه؟
كان بيماطل، قاصد يغيظني، كنت متأكد إن اللي عنده أكتر من كده…
قلتله يبطل حركاته دي ويتكلم عدل…
ضحك وبعدين قال:
-أصل المكان هنا مش ملك البشر! بخلاف يعني موظفين المنارة، الناس العادية ملهاش مكان هنا، الجزيرة زحمة يا أستاذ “جوهر”، مليانة عف.اريت!
المفروض كنت اضحك على كلامه أو أقول له إنه بيخرف، لكني سكت واستنيت يكمل، وده عشان أنا تقريبًا كنت عارف، مستني بس اللي يأكدلي، أنا نفسي شفت الضلال اللي بتظهر بليل وسمعت الهمهة والصفير برغم إن مفيش بني آدمين…
كمل وقال:
-في المناسبات القليلة اللي الناس عدت فيها جنب المنارة شافوا عف.اريت شكلهم يشبه البشر لكن برضه مختلفين، وشوشهم منورة، مش باين عليهم الهم والحزن بتوعنا، ولبسهم مختلف مش زي لبسنا، لبس كاشف شوية، أصواتهم واطية وناعمة، بيغنوا ويصفروا ويتكلموا بأصوات رقيقة، ده غير بقى العجل بتاعهم…
كمان؟ هي حصلت؟ العفاريت عندهم عجل؟ لولا إني شفت بنفسي وسمعت شوية من اللي قاله كان زماني أديته بالشلوت وقلتله يغور من هنا…
-ايوه يا أستاذ “جوهر” هي عجل، بس برضه مش شبه العجلة بتاعتي دي، عجل حديد وكبير وبيتحرك بسرعة وبيطلع من تحتيه نار، العجل الحديد ده هو اللي بينقلهم من وقت للتاني من الجزيرة وليها…
لا كده كتير أوي، شكرته وقلتله يتكل على الله، كفاية عليه كده…أنا ممكن يكون ليا تفسير، في حاجات حقيقية في اللي الناس قالتها، أساس صح، الأشب.اح اللي بشوفها، والناس كالعادة في القصص اللي زي دي زودت من خيالها كتير، خلتهم بقى يشبهوا البشر وقال ليهم ملامح مش عارف إيه ولبس إيه ومعاهم عجل حديد مدور بيهبط مالسما وبيروح وييجي بسرعة، بس ده لا يمنع إن الأساس مر.عب، أنا عايش في جزيرة مع أش.باح! يا ترى هيفضلوا زي ما هم، ليهم عالمهم ولينا عالمنا ولا هيرزلوا علينا؟
………………………………….
-يا نهار أبيض، ده بيقول كان بيشوف أشباح والناس اللي جت الجزيرة كمان شافوهم؟
-جرى إيه يا “وئام”، إنتي خاي.فة ولا إيه؟ وأنا اللي طول عمري بقول عليكي راجل…
-وهم الرجالة مبيخافوش، معملولين من فولاذ…
=ششششششش!
الاتنين بصولي باستغراب، قلتلهم:
=عايز أركز!
-تركز في إيه يا “ألفي” وهو القراية كانت مخليك يعني مركز؟
=اه يا “راغب”، أنا عايز بس اسمع القصة كلها، ومش بتشغلني عن الرسم، بالعكس الرسمة محتاجاها..
كإني بقول لوغارتيمات، الاتنين مكنوش فاهمنني، يعني إيه القصة هتخدم الرسمة؟
-طيب تمام، هكمل، بس يا جماعة، افرضوا إن الكلام اللي جوه الدفتر حقيقي، إن في أشب.اح حوالين المنارة؟ يعني، إحنا موقفنا إيه؟ أنا معنديش فوبيا من الج.ن والأش.باح والكلام ده، لكن في احتمال كبير يكون اللي جوه الدفتر صح واحنا داخلين على الضهر، أنا شايفة إننا ناخد بعضنا كمان شوية ونمشي ونكمل رسم وقراية بكره، ولا إنتوا إيه رأيكم؟
رديت عليها بنبرة جامدة:
=لأ، هنكمل النهارده!
بصتلي بعتاب، مكنتش فاهمة ليه أنا موقفي جد أوي كده، ومع ذلك كملت من غير تحقيق:
“أنا قررت أواجه “جرجس”، أصل الموضوع زاد أوي، الضلال كترت وفي لقطات، وتحت نور المنارة قدرت أشوف بوضوح، شفت مجموعة منهم، شكلهم فعلًا كان شبه البني آدمين! لكن كانوا مختلفين، بشرتهم فيها نضارة وروقان، وأزيائهم عجيبة كإنهم عارضين وعارضات أزياء من اللي بيلبسوا هدوم تلفت الأنظار ومش للاستخدام العملي! ومعاهم شفت أشباح تانيين مش شبه البني آدمين ولا ليهم علاقة بيهم، بشرتهم شبه الحديد، معندهمش شعر وعنيهم واسعة وقصيرين جدًا، الاش.باح اللي شبه البشر بيتعاملوا مع الأش.باح التانية بأريحية كإن ما بينهم لغة مشتركة…
وفعلًا واجهته وفي وجود “أنور” اللي أكد على كلامي! هو كمان بيسمع صوت ناعم بيغني في أوقات مختلفة وملوش مصدر وبيشوف أطياف، وهنا “جرجس” انهار واعترف…قال إنه مكنش عايز يحكيلنا لنطفش من المنارة ونستقيل، وإن الأش.باح دول هو متعايش معاهم من زمان زيه زي العمال القدام، عمرهم ما أذوا حد ولا حاولوا يتواصلوا معاهم، هو اتعود عليهم واعتبرهم زيهم زي السمك في البحر وزي الرملة والمنارة نفسها، كيانات موجودة، لكن في حالهم زي الجماد ومكنش في داعي يحكيلنا ويخوفنا من غير داعي وبعدين مفيش أي إثارة في الموضوع، مش قصة أمنا الغولة يعني اللي هتخ.طف الناس وتعمل فيهم عمايل! بصراحة أنا مستغرب هدوئه ده ووصفه لموضوع الأش.باح، يعني إيه مفيش إثارة؟ طبيعي يعني نشوف أشكال غريبة زي دي ونعيش مع أطياف على نفس الأرض؟؟”
“يتبع”
“الجزء الثالث والأخير”
“اتضح إن “جرجس” عنده حق! أيوه أنا كمان زيه بدأت اتعايش مع الأشب.اح اللي بشوفها، اتعودت على الغُنى اللي بسمعه وهمساتهم وحضورهم، وده لإن الموضوع مش بيتطور عن كده، أكيد هم برضه مدركين بوجودنا زي ما احنا مدركين بيهم ومع ذلك في حالهم مش بيحاولوا يتواصلوا معانا ولا يعملوا فقرات، بقوا جزء من الجزيرة، زيهم زي كل حاجة تانية…
……………………………..
“حسن مجاش! مش بس النهارده، مجاش إمبارح ولا اليوم اللي قبله، روحت بنفسي اسأل عليه عرفت إنه مفقود بقاله 3 أيام، مراته منهارة، مش بس عشان ده جوزها وأبو عيالها، عشان هو العائل الوحيد، الولاد لسه صغيرين مش بيشتغلوا وهي لا حول ليها ولا قوة، هي باينة بس محدش بيتجرأ يقولها، “حسن” أكيد م.ات! الغريبة بقى إن مراته قالت إن آخر مرة شافته فيها كان طالع الشغل الصبح بدري كعادته وفي من الناس قالوا إنهم شافوه رايح في سكة المنارة لكن إحنا مشوفناهوش يومها! “حسن” موصلش عندنا، مجاش الجزيرة، يكون حصل له إيه بس؟
……………………………..
“فات شهر على غياب “حسن” وخلاص كلنا فقدنا الأمل في إنه يرجع أو يكون عايش، هو ليه عم مقتدر، بعد ما غاب صعب عليه حال مراته وولاده وقرر يتكفل بيهم، صحيح أنا كنت حاسس بملل وإن اليوم بيتكرر وحياتي عاملة زي الميه الراكدة، لكن مش دي الحركة اللي كنت عايزها، حقيقي غيابه قهرني، أنا مش بس حزين على “حسن” أنا كمان…خايف…لأول مرة من سنتين، من وقت ما جيت المنارة أحس بخوف، الأشب.اح رجعت بالنسبة لي أشب.اح! بعد ما كنت بعتبرهم مش موجودين بقيت أبصلهم بطريقة مختلفة، مرات “حسن” والناس أجمعوا على إنه كان جي على هنا، ماذا لو…لو وصل وموصلش! لو وصل الجزيرة بس ملحقش يوصل للمنارة، حاجة اصطدته قبل ما ييجي، شبح مثلًا؟
وفجأة بقيت أخاف في المناوبة اللي ببقى فيها لوحدي، بحاول بكل الطرق اقنع حد فيهم يفضل صاحي معايا أو على الأقل بقعد أاخرهم في النوم على قد ما أقدر، بشغلهم بالرغي الفاضي..
……………………………..
“الليلة اللي فاتت حصل اللي كنت خاي.ف منه، تغيير!
تغيير في النمط المعتاد، واحد من الأشب.اح بصلي من تحت المنارة، كان قريب نسبيًا وكنت قادر اشوفه بوضوح بسبب نور المنارة، المرة دي مكنش هايم كعادتهم ولا في كيان تاني معاه، اتلفت وبص للكابينة اللي كنت فيها، وفضل على حاله كده، مركز معايا، لحد ما أنا اتحركت واديته ضهري وغمضت عيني، فضلت أقرا في آيات، ثبتت على مكاني وقت كبير وبعدين اتلفت ومكنش موجود
برغم الصلة العاطفية ما بيني وبين المنارة، لكن بدأت أحس إنها ممكن تغدر بيا وإنها مش مسالمة زي ما هي باينة!
……………………………..
“احنا التلاتة كنا نايمين، كان قرب الفجر، غرق.انين في النوم ولا على بالنا، وطلعت من أعماق نومي على فزع، اتنفضت من مكاني لما حد جنبي نطق وقال “أنور”!
……………………………..
في نفس الوقت ده سمعت حد بيهمس “أنور” ومن النظرات وحركة “وئام” و”راغب” العصبية استنتجت إن هم كمان سمعوا الإسم!
“راغب” قال:
-إ…ححنا لازم نمشي دلوقتي، العصر فات، والدنيا هتليل علينا، وأكيد أنا مش بهلوس، إنتوا سمعتوا نفس اللي أنا سمعته؟
“وئام” ردت:
-يالا فورًا!
أنا قلت بهدوء:
=متتعبوش نفسكم، مظنش إننا هنخرج دلوقتي.
جرعة الفز.ع زادت عندهم بعد تعليقي والموضوع قلب، مبقاش تهريج أبدًا..
لموا حاجاتهم بسرعة ونزلوا على السلالم وأنا واقف مكاني مبتحركش، سمعت صوت باب المنارة بيقفل لوحده لما وصلوله وكان قدامهم خطوة بس ويخرجوا!
سمعتهم بيزعقوا وبيندهوني وأنا فضلت ثابت مش برد، مكمل رسم، “راغب” قال بصوت عالي:
-في شباك كبير نقدر نخرج منه، يا “ألفي” أنت بتعمل إيه عندك، انزل حالًا..
ولا حياة لمن تنادي، تجاهلته…
وبرضه الشباك اللي بيقولوا عليه قفل بعن.ف مرة واحدة، عشان نتحبس إحنا التلاتة في المنارة…
طلعوا وهم مش قادرين ياخدوا نفسهم… “وئام” ضيقت عنيها وقالتلي:
-التفسير الوحيد لتصرفاتك المريبة هو إنك حسيت من فترة إن في حاجة مش مظبوطة في المنارة من المذكرات في الدفتر، إنت حسيت إن المكان مسكون وإننا مش هنقدر نخرج بسهولة، صح؟
=الرسمة والقصة لازم يخلصوا!
-لاااا، ده تهريج، هو إيه أصله ده؟
بعد ما “راغب” قال جملته طلع موبايله وطلب حد…قلت وأنا مندمج في الرسم:
=مش هيرد عليك، الراجل اللي جابنا مش هيرد ولا حد غيره، مش هتعرف توصل لحد!
وفعلًا ملقاش شبكة، وبكده بقينا رسميًا معزولين عن العالم…
-أنا عايزه أفهم إنت إزاي هادي كده؟
=هيفيد بإيه الهلع، سمعتوا الصوت اللي من شوية؟
-إيه هو إنت إسطوانة مشروخة ولا عقلك بيستوعب الأحداث متأخر، أيوه يا “ألفي” سمعنا ودي كانت بداية نوبة الهلع..
=مخدتش بالك يا “راغب” إن الصوت مكنش جي بس من جوه الأوضة ولا المنارة؟ من براها كمان، كإنه في كل حته…
-هو إحنا ناقصينك أنت كمان، حرام عليك.
=إهدي يا “وئام” وكملي قراية.
-قراية إيه اللي عايزني أكملها؟
=بقولك كملي، إنتي مش عايزه تخرجي من هنا؟
هزت راسها بتأكد ده وبعدين كملت:
“غريبة إن أنا اللي صحيت مش “أنور” اللي اتندى عليه، ليه هو بالذات اللي اتقال إسمه؟ وده معناه إيه؟ يكون “أنور” في خطر؟ أقول له ولا بلاش؟ بلاش أخوفه من غير داعي، كفاية حالة اله.لع اللي أنا عايشها ليل نهار، مش هدخله في جح.يمي هو كمان.
……………………………..
“صحيت على دوشة، في عدد من الناس كانوا متجمعين تحت المنارة! إيه اللي رماهم علينا دول؟؟ نزلت على ملى وشي أنا و”جرجس” و”أنور” ولقينا الناس بتضحك وتعيط وتصرخ، جايين يبلغونا خبر، “حسن” رجع! “حسن” رجع بعد غياب أكتر من سنة، كلنا طبعًا كنا عايزين نجري عليه ونشوف الحكاية بس مكنش ينفع نسيب المنارة فاضية، “جرجس” قعد وقال إنه هيروح يشوفه تاني يوم وأنا و”أنور” اللي روحنا على المدينة… كنت شايفه قدامي، بشحمه ولحمه، لكن مش مصدق، إزاي رجع؟ إيه حصل له؟ كان فين؟؟ قلتله إني عايز أقعد معاه لوحدنا، وهو فهم طبعًا إني عايز أعرف، مشى الزحمة اللي عنده بما فيهم “أنور” اللي مصدق يلف في المدينة بعد ما اتطمن عليه قبل ما نرجع المنفى تاني…
اللي قدامي كان “حسن” بس كان مختلف! “حسن” مبقاش ياكل الكلام ولا يتفتف وهو بيتكلم، وقفته بقت مستقيمة مفيش الأتب اللي كان موجود، بشرته خالية من الحبوب وافتح، جسمه مفرود وكلامه قليل ورزين جدًا، كإنه راح اتعلم في فرنسا ورجع، اتبدل، ده “حسن” ومش “حسن”…
سألته إيه اللي حصل له وكان فين الفترة اللي فاتت، رد وقال:
-ما بلاش يا “جوهر”..
قلتله ليه بلاش أنا عايز أعرف…كمل وقال:
-عشان مش هتفهم، ممكن متصدقنيش، ده أكيد مش هتصدقني..
أصريت إنه يحكي، فشرط عليا إن اللي يقوله ميطلعش برانا، وعدته، فبدأ يحكي:
-كنت جاي عليكوا، وصلت الجزيرة، كنت شايف المنارة قدامي وبعدين لقيت أضواء ساطعة، بصيت لإتجاه الضوء لقيت عجلة ضخمة مدورة لونها لون الرماد بيخرج من تحتها نار… الباب اتفتح وخرج مخلوقات، كانوا قصيرين ولونهم نفس لون العجلة الكبيرة وعنيهم واسعين بيرمشوا من اليمين للشمال وبعدهم نزلوا ناس عاديين، بس مش عاديين، لابسين هدوم ضيقة أوي كاشفة تفاصيل جسمهم، ونادوني باسمي وشاورولي على العجلة عشان أدخل فيها، كنت هم.وت من الر.عب ومع ذلك لقيت نفسي بمشي في اتجاهها وبدخل جواها…الجو كان برد أوي جوا، وكل حاجة بيضة، بيضة زي قشطة الحليب، الحيطان والأرضيات، عرفت إن العجلة اتحركت من المنظر بره الشباك، الأرض كانت بتتحرك، وده معناه إن إحنا اللي مشينا، لولا كده مكنتش هعرف، وده لإن السرعة كانت رهيبة لدرجة متحسش بالحركة، كإننا واقفين محلك سر، وبعد مدة مش كبيرة وصلنا…
نزلت من العجلة الحديد مع اللي كانوا معايا، شفت أرض براح، تل كله خضرة، ومن بعيد كان في مباني طويلة أوي قرب السحاب، كنت عمال اتلفت زي اللي اتهبش في عقله، كل حاجة غريبة، حتى الطيور، في منها المألوف ومنها اللي مشفتوش قبل كده…سألتهم:
-أنتوا جن وش.ياطين؟
ضحكوا ، وقبل ما يردوا ثبتوا حاجة في ودني وقالوا:
-إحنا بني آدمين زيك متقلقش، الأرض واسعة، واسعة أوي يا “حسن” وفي منها اللي مخفي عنكم، بالنسبة لكم إحنا في الجوف، لكن الموضوع نسبي، عشان في الجوف في جوف تاني، طبقات وطبقات وسدود من جبال، وجزر في وسط البحور، وبحور مخفية عن عيونكم وخرايطكم..
فهمت إن السلك اللي علقوه في ودني وظيفته يترجم لغتهم لإنهم مش بيتكلموا زينا، مش عربي يعني…سألتهم لو كان كلامهم حقيقي إزاي محجوبين، بالتقدم اللي وصلوله في البلاد البعيدة، الفرنجة وغيرهم، واحد رد عليا:
-عشان إحنا متقدمين جدًا عنكم يا “حسن”، التكنولوجيا اللي وصلنالها مخليانا في مستوى تاني غيركم، غير حتى أكتر الدول المتقدمة عندكم، وإحنا بمزاجنا اللي مش سامحين بإن أرضنا تتكشف، عشان لو ده حصل هيصيبنا التخلف بتاعكم، لو العوالم اندمجت والأراضي اتفتحت على بعض السلام بتاعنا هيتهدد، أول تصرف هتعملوه هو إنكم هتغزونا بأسلحتكم وثقافتكم وهيبقى في ح.رب رهيبة ممكن تدمر الكوكب كله، تصدق إننا هنا معندناش فلوس، مفيش العملة والكلام ده، وصلنا لمرحلة من السلام والاكتفاء لدرجة إن كل واحد بياخد كفايته من أي حاجة عايزها بدون مقابل، مش محتاجين…
سألتهم ليه جابوني معاهم، قالوا إنهم من وقت للتاني بيختاروا ناس مننا، من سكان سطح الأرض وبيجيبوهم يعيشوا معاهم، من باب العمل الخيري، عشان يرحموهم من شقاء الحياة الصعبة بتاعتنا، والاختيار وقع عليا المرة دي…
“طبعًا كلام “حسن” ده كان بره المنطق، عقلي مكنش قادر يستوعبه، بس في حقيقة تانية مينفعش أنكرها، “حسن” اللي كنت بكلمه غير “حسن” اللي اختفى من أكتر من سنة، لا طريقة كلامه ولا تفكيره ولا ثقافته ولا هيئته، نسخة محسنة ميات المرات منه! حكالي بعد كده إنه اندمج معاهم، ومع الأيام حب بنت منهم واتجوزها وكمان خلف منها، واستئذنهم من وقت للتاني يرجع تاني لأهله القدام يتطمن عليهم ويقعد كام يوم بعدين يرجع…سألته عن الكائنات التانية، الرماديين، قال إن سكان الجوف قالوا إنهم وصلوا لوسايل اتصال متقدمة جدًا لدرجة إنهم من سنين قدروا يوصلوا لحضارات تانية بره الأرض، حضارة الرماديين، ومنهم اللي بيزوروا أراضيهم واللي تقريبًا شبه عايشين معاهم وبيساعدوهم في المشاريع العلمية والتكنولوجية…
……………………………
“حسن” اختفى!
من تاني اختفى، لكن المرة دي أنا مش متفاجأ مهو قال لي إنه هيرجع تاني… أقول إيه بس، مش مصدق اللي بكتبه، هيرجع تاني جوف الأرض مع أهله الجداد…
……………………………
“حسن” رجع، زي ما قال برضه، أهو بعد فترة رجع يتطمن على مراته وولاده ويقضي معاهم كام يوم، وعلى فكرة مشاهدتنا إحنا التلاتة للكيانات ولا البني آدمين غريبي الأطوار كترت، بقوا يظهروا كل ليلة، وبأعداد كبيرة، مش عارف، حاسس كده إن ده ليه معنى، في حاجة هتحصل…
……………………………
“حسن” اختفى، المرة دي مرجعش، بقالوا كتير، وأظن، عندي إحساس قوي إنه مش هيرجع تاني، خلاص هيستقر في…أيًا كان المكان اللي هو فيه…
……………………………
“بقوا ينادونا بأسمائنا، بيهمسوا بيها، أصواتهم مختلفة… كإن الصوت بيبقى في كل مكان، كإنها… مش سحر، دي أداة بتبث الصوت في الهوا، عشان كده بنحس إنه جوه المنارة وبراها، ليه بيندهونا بأسمائنا؟ ليه بيظهروا كتير؟”
……………………………
“3 أيام، الرياح شغالة والنوة، كل يوم الرياح بتبقى أقوى من اللي قبلها….”
=محصلش!
“راغب” و”وئام” بصولي في ذهول، مستنيين تفسير لكلمتي ولإني زعقت وأنا بقولها… كملت وقلت:
=محصلش، مكنش في رياح ولا نوة وفقًا للأرصاد، الجزيرة بس هي اللي كان فيها رياح، عشان كده لما جم ولقوا الجاكتات ولقوا كمان صحن فول وأرغفة عيش متلمستش استغربوا…
“وئام” عنيها وقعت تاني على الدفتر وقبل ما تقرا، أنا قلت:
“الرياح النهارده قوية أوي، كل حاجة بتتهز، حاسس إن المنارة هتنخلع من مكانها، لكن المصدر…المصدر متهيألي الطبق ولا العجلة الرمادي، لأ، دول أكتر من واحدة، أنا مر.عوب، مرعوب، مش عايز أم.وت، مش عايز أم.وت”
ده بالظبط اللي كان مكتوب في الدفتر، عرفت إزاي؟ عشان عيني وقعت عليه قبل ما نختفي إحنا التلاتة وقريت اللي فيه، قريت مذكرات “جوهر”، الكلمات اتحفرت في ذهني من ساعتها، من سنة 1900…
كانوا بيترعشوا، بعد ما كانوا مرعوبين من المنارة، بقوا مرعوبين مني أنا…
بصتلهم وابتسمت بهدوء وقلت:
-على فكرة مفيش عف.اريت، مش هم اللي قفلوا الأبواب والشبابيك، دي طاقة، نفس الطاقة اللي وقفت الساعات كلها في نفس التوقيت، طاقة سكان الجوف، قولولي إنتوا شفتوا أهلي قبل كده؟ وريتكم بيتي أو حد من قرايبي؟ ركزوا كده، تعرفوا بجد حاجة عني؟…من ساعة ما دخلت المنارة وأنا حاسس إنها مألوفة بالنسبة لي وإني عندي رغبة أرسم المشهد، أرسم الجزيرة بناء على الأحداث اللي حضرتها، في فجوة كبيرة كانت في ذاكرتي، كل اللي أعرفه إني دخلت كلية فنون واتعرفت عليكم، كل اللي كنت بردده في دماغي الرسم ومستقبل ليه علاقة بيه كإني متبرمج على كده، معرفش فين أهلي ولا جيت منين، مش بفتكر بروح وابات فين، وده لإني “ألفي سيد محسن أنور”، أنا “أنور” عامل من العمال اللي اختفوا، أكيد أنا طلبت منهم كده، من سكان الجوف، وخضعت لنوع من التكنولوجيا مسحت ذاكرتي بشكل مؤقت، أنا اللي طلبت أتبرمج على حياة ممتعة لسنين، الدراسة والصحبة والفن والرسم، ودلوقتي افتكرت كل حاجة، أنا كمان، زيي زي “حسن” بقيت من سكان الجوف، وبسبب تقدمهم العلمي والطبي قادرين نعيش كتير ، بنكبر بس بالبطيء…
لفيت الرسمة ليهم، كان فيها طبق مدور طافي على الأرض تحتيه شعلات حمرة، نار خارجة منه، وراه بحر فيه فجوة كإن الطبق لسه خارج منه، في رياح جامدة وده واضح من قصاري الصبار المايلة كإنها هتتخلع من مكانها جنب المنارة وقدام الطبق تلاتة واقفين باين عليهم الخوف وبيتهزوا جامد من الرياح عنيهم متعلقة على الطبق، مشل.ولين…
باب المنارة اتفتح، طلبت من “راغب” و”وئام” يغمضوا عنيهم وأنا نزلت، مشيت للطبق اللي هبط من السما ودخلت جوه بعد ما الباب اتفتحلي، أما هم فأكيد أول حاجة لفتت انتباههم بعد ما فتحوا عيونهم هي الساعات في اياديهم والموبايل واللي وقفت كلها عند نفس المعاد، من خضتهم نسيوا يسألوني عن الحياة في جوف الأرض، عن الشغل والمواصلات والحيوانات والأكل والعقائد، لكن مش فارقة، كده كده مكنتش هجاوبهم، في الآخر ده سر، سر بيضمن بقائنا، سر لو طلع هيبقى في ح.رب شرسة ما بين العوالم، ما بين الأراضي…
“تمت”
#منارة_بورسعيد
#ياسمين_رحمي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى