وانا قاعد لوحدي في بيتنا بعد ما امي واختي راحوا لابويا المستشفى، سمعت صوت خبط على الباب.. ولما قومت وفتحت، عرفت إن اللي بيخبط عم رمضان.. رحبت بيه ودخلته، وبعد ما قعدنا سوا في الصالة، سألته..
-منور ياعم رمضان، تشرب ايه؟.. معلش بقى، هعملك انا عشان الحاجة واختي عند ابويا في المستشفى.
-لا يارضوان ياابني، ماتتعبش نفسك، انا كنت جايلك في كلمتين وماشي على طول.
-اؤمرني ياعم رمضان!
-المصنع.
-ماله المصنع؟.. انت مش واقف فيه مكان ابويا لحد ما يقوم بالسلامة من الغيبوبة!
-واقف ياابني وبحاول امشي الدنيا على قد ما اقدر، بس والدك الحاج عامر ربنا يشفيه، من وقت ما وقع وجاتله الجلطة والغيبوبة، من وقتها والعمال بيدلعوا.. والدلع ده ساعات بقدر عليه وساعات لا.. وبصراحة كده، انا حاسس إن بيوتنا هتتخرب ووراها المصنع اللي احتمال كبير يتقفل.
-يتقفل!.. للدرجة دي؟
-واكتر كمان.. اصل احنا مطلوب مننا طلبية بنطلونات لشركة من شركات الأمن المعروفة، ووالدك كان ماضي عقد ومتفق على معاد للتسليم.
-وامتى معاد التسليم ده؟!
-بعد بكرة.
-طب وفين المشكلة.. ما تسلم انت البنطلونات.
-والله!.. وهو يعني ياابني لو الشغل خلصان، كنت هجيلك ليه؟.. احنا في مصيبة، الشغل لسه ماخلصش والمفروض نسلم بعد بكرة وناخد بقية فلوسنا، ولو ماسلمناش، ساعتها هنبقى مضطرين ندفع الشرط الجزائي.
-شرط جزائي ايه؟.. هو الشغل لو ما اتسلمش في معاده بندفع فلوس؟
-ايوه ياابني.. ومش بس كده، احنا كمان بنعمل الشغل وبنسلمه في خلال شهر من غير مكسبنا.
-حلو.. ولما هو ايوه ياابني وانت عارف كل الكلام ده، ما خلتش العمال يخلصوه في معاده ليه؟
-ما انا حاولت.. والله العظيم حاولت يارضوان، بس الصنايعية والعمال عاوزين كبير… عاوزين حد يقف على دماغهم زي النحلة، حد يكون صاحب المال وشخصيته قوية.
-طب وانا ايه المطلوب مني؟
-المطلوب منك انك تنزل مصنع ابوك وتدوره لحد ما يقوم بالسلامة والطلبية تتسلم في معادها، وغير كده كمان، مندوب الشركة جاي بعد بكرة ولازم صاحب المصنع يقعد معاه.
لما عم رمضان قالي كده، سرحت وفكرت في كلامه، وبعد سكوت دام لدقايق، بصيتله بجدية وقولتله..
-وانا افهم ايه انا في شغل المصنع!… انا طول عمري مركز في دراستي وجامعتي، ده حتى ابويا طول الوقت وهو باعدني عن المصنع خالص ومخليك انت دراعه اليمين.
-ده كان زمان.. كل الكلام ده كان ممكن يبقى عادي لو ابوك موجود، إنما دلوقتي هو في غيبوبة وياعالم هيفوق منها امتى، وياعالم كمان لو فاق منها، هيقدر ينزل ويباشر الشغل ولا لأ.. وعشان كده انا جايلك النهاردة.. انزل يارضوان وشوف مصنع ابوك وباشر الشغل فيه، ده مالك ومال والدتك واختك، ومن قبلكوا كمان مال ابوك العيان.. وصدقني ياابني، وجودك في المصنع دلوقتي وقعادك في المكتب مكان ابوك، هيفرق كتير اوي في الشغل، وهيخلي الصنايعية والعمال يشوفوا شغلهم من غير دلع وتضيع وقت.
سكتت.. ماكنتش عارف اقوله ايه، انا بقيت عامل زي اللي بيلعب شطرنج واتزنق.. يا يسلم ويعلن الهزيمة، يا يعافر ويقوم يقف في وش الدنيا اللي بتلاعبه.
ولأني بني أدم عِندي وشخصيتي قوية، ما استسلمتش، انا اه سني صغير لأني في تانية جامعة، وكمان عمري في حياتي ما نزلت شغل ولا اتمرمطت.. لكن لأ، يا واكل قوتي يا ناوي على موتي… انا هنزل وهبقى قد المسؤولية اللي الظروف حطتني فيها.
اتشجعت وقومت وقفت وبصيتله بتحدي..
-ماشي ياعم رمضان.. انا هدخل اغير وانزل معاك، بس بالله عليك ما تسيبني لوحدي، انا ماعرفش حاجة في اي حاجة، وانت هتبقى دليلي الوحيد في المصنع.
-ماتقلقش.. انت زي ابني وابوك خيره مغرقني، اقف انت بس وانا هبقى في ضهرك، وكل حاجة غلط بتحصل هقولك تمنعها، واي حاجة صح هدلك عليها، وبعدين انت كل المطلوب منك الشخصية، لازم يبقالك شخصية وسط العمال والصنايعية، وحتى مع الناس اللي بيتعاملوا معانا.. انت لازم تثبتلهم إن الحاج عامر خلف راجل بحق وحقيق.
-حاضر ياعم رمضان.. حاضر، اوعدك إني هبقى قد المسؤولية.
وبعد ما خلص الكلام بيني وبين عم رمضان، دخلت غيرت هدومي واتصلت بامي وقولتلها على اللي حصل، وردها عليا كان متوقع.. كلامها كان قريب من كلامي مع نفسي وكلام عم رمضان معايا.. هي كمان كانت شايفة إني لازم انزل واباشر الشغل في مصنع ابويا، وقد كان.
نزلت المصنع مع عم رمضان وابتديت اباشر الشغل، وفعلًا.. هو كان معاه حق، الصنايعية والمشرفين والعمال العاديين، كانوا بيتدلعوا.. والدلع ده ابتدا يقل شوية بشوية لما لقوني شخص جد، مابهزرش مع حد، كل كلامي معاهم كان عن الشغل والطلبيات وبس، والحمد لله، بعد مرور يوم والتاني، كل اللي بيشتغلوا في المصنع عرفوا انا مين كويس، احترموني وبقوا بيسمعوا كلامي رغم اني أصغر منهم كلهم، ومع نهاية اليوم التاني، قعدت مع عم رمضان في مكتب ابويا اللي مكانه في أخر المصنع.. قعدنا سوا واحنا قافلين الباب علينا، وبعد سكوت دام لفترة قصيرة، بص لي رمضان وبص لصورة ابويا اللي متعلقة فوقي وقالي..
-ربنا يديله الصحة ويقومه بالسلامة، خلف راجل.. صدق المثل والله، إبن الأسطى بشمهندس.
-الله يعزك ياعم رمضان.. بس احنا دلوقتي لسه في نفس المشكلة، احنا كل اللي خلصناه هو تلتين البضاعة المطلوبة وبس، والتلت اللي فاضل، لسه باقي عليه كام يوم، وزي ما انت عارف… معاد التسليم بكرة.
بص لي بحزن وقالي..
-وايه العمل ياابني؟!
-العمل عمل ربنا بقى… انا مش هروح.. مش هروح وهفضل بايت في المصنع لحد ما المندوب يجي ويشوفنا شغالين، وأكيد هو لما يعرف الظروف اللي احنا فيها، وكمان لما اقعد واتكلم معاه، هيعذرنا وهياخد البضاعة الموجودة وهيصبر عالباقي.
بص لي بفخر وقام وقف..
-اللي تشوفه ياريس.. انا معاك بقلبي، ولو على البيات، فانا زيي زيك وزي بقية العمال.. انا مش همشي وهخرج اقف معاهم، ودلوقتي.. حاول انت ريح شوية في المكتب لغاية الصبح، اه.. ما انت لازم تريحلك شوية عشان تبقى فايق لما المندوب يجي.
-ماشي ياعم رمضان، بس انا برضه هحاول ما انامش كتير.. كام ساعة كده وهقوم اكمل متابعة مع العمال.
-الله يقويك ويعينك.. استأذن انا.
بعد ما قالي كده، سابني عم رمضان وخرج، اما انا.. فقومت هديت نور أوضة المكتب، وجيبت كرسي وفردت رجليا عليه، وريحت على كرسي المكتب.
بصيت قصادي وسرحت لثواني وميلت براسي، من كتر تعب اليوم واليوم اللي قبله، غصب عني ابتديت اروح في النوم..
(بقى انت ياض ياابن امبارح، بتسرقني انا؟!.. بتستغفلني وبتدخل المكتب من ورايا، وفاكر اني مش هعرف!.. ماشي ياعم الحرامي، اهي الكاميرات المتدارية جابتك واديني شوفتك.. واقسملك بالله ياابراهيم ما هسيبك)
فتحت عيني على صوت ابويا وهو بيقول الكلام الغريب ده!.. واول ما فتحت عيني وقومت وقفت، شوفت حاجة غريبة اوي!
انا لسه في المكتب، لكن كان في حبل متعلق في جنش موجود في السقف، والحبل ده كان مربوط او متعلق فيه شخص من رجله، شخص ماعرفوش، لكن اللي اعرفه كويس هو ابويا اللي كان واقف جنب الشخص المتعلق ده، وكمان عم رمضان اللي كان واقف جنبه جنبه اتنين من الصنايعية، وماسكين الطرف التاني من الحبل!
المنظر الغريب اللي شوفته قصادي خلاني بلمت، ماكنتش فاهم ايه اللي بيحصل ولا حتى الناس دي كلها جت هنا ازاي؟.. انا حرفيًا ماكنتش فاهم ولا قادر احدد.. هل انا نايم بجد ولا اللي قصادي ده حقيقي!.. لكن صدمتي والسكوت ماداموش كتير، وده لإن الشاب اللي متعلق وجه كلامه لابويا لما قال له..
-هو انت بعد الخصومات اللي بتخصمهالي دي كلها، كنت عاوزني اعمل ايه يعني، انا بجري على مراتي وامي واخواتي البنات، انت ايه ياأخي.. ايه.. مافيش قلبك ذرة رحمة؟!
لما الشاب المتعلق خلص كلامه، رد عليه عم رمضان..
-وده مبرر يعني عشان تسرق!.. ما كل العمال والصنايعية بيتخصملهم، ماحدش منهم يعني فكر يسرق ولا يمد إيده؟!
رد عليه الشاب بغيظ وب غل..
-ماحدش ظروفه زي ظروفي، وبعدين انت بتطبله اوي كده ليه، ده مشغلك عنده مرمطون.
اتدخل ابويا في الوقت ده وقال له بزعيق..
وبكل قوته، ابتدا ابويا يضربه برجله، اتألم الشاب وفضل يشتم في ابويا، وكل ما كان بيشتم ويزعق اكتر.. كان ابويا بيضربه اكتر واكتر.. واستمر الوضع ده لفترة قصيرة، او بالتحديد يعني لحد ما اتدخل عم رمضان وحاش ابويا عنه..
-خلااص.. خلاص ياحاج عامر، انا هتصل بالبوليس وكده كده هو متصور وهو بيسرق، يعني القضية لابساه لابساه.
زق ابويا عم رمضان ورد عليه بعصبية..
-انت اتجننت يارمضان ولا ايه؟.. بوليس ايه.. هو انا اكتع ولا عويل!.. الكلب ده لازم يتعلم الأدب.
بص له عم رمضان باستغراب، وكإن نظراته بتسأل ابويا.. هتعلمه الأدب ازاي؟.. واللي حصل إن الجواب جاله على طول، الرد ماتأخرش، ده ابويا في لحظة بص للصنايعية الواقفين وماسكين الحبل من الناحية التانية وقالهم بزعيق..
-شدوا الحبل.. شدوه جامد.. ارفعوه على قد ما تقدروا.
وفعلًا.. الصنايعية شدوا الحبل على قد ما قدروا والشاب اترفع مسافة عن الأرض، ولما عملوا كده، ابويا بص للشاب وقال للي واقفين بصوت عالي..
-سيبوا الحبل مرة واحدة.. بقولكوا سيبوه.
اتخضوا من صوت ابويا وسابوا الحبل، عشان في ساعتها الشاب ده يقع على دماغه ويتألم بعلو صوته.
بص له ابويا وقرب منه وقاله بغضب وهو واقع على الأرض..
-عشان تتعلم ازاي تتكلم بأدب مع ولي نعمتك.
رفع الشاب عينيه وبص لابويا ورد عليه بتعب..
-منك لله.. ربنا ينتقم منك دنيا وأخرة.
بعد ما الشاب دعى دعواته دي، بص ابويا للصنايعية من تاني وقالهم بنبرة أمر..
-شدوا الحبل.
مسكوا الصنايعية الحبل وشدوه، وزي المرة اللي قبلها، بعد ما شدوه ورفعوا الشاب عن الأرض، قالهم ابويا يسيبوه.. وبرضه سابوه عشان يقع الشاب ده على دماغه، وللمرة التانية دعى الشاب المتعلق على ابويا.. ونفس اللي حصل في المرتين اللي قبل كده، حصل في المرة التالتة، لكن المرة دي بقى الشاب لما وقع على دماغه، سكت خالص!
اتخض عم رمضان وقرب منه وهو واقع على الأرض وحاول يفوقه..
-ياابراهيم.. انت ياض ياابراهيم فوق..
قال كده وبص للاتنين الواقفين وبعد كده بص لابويا..
-الواد شكله مات ياحاج.
يتبع
(ده الجزء الأول من قصة ميت حي.. )
ميت حي
٢
مسكوا الصنايعية الحبل وشدوه، وزي المرة اللي قبلها، بعد ما شدوه ورفعوا الشاب عن الأرض، قالهم ابويا يسيبوه.. وبرضه سابوه عشان يقع الشاب ده على دماغه، وللمرة التانية دعى الشاب المتعلق على ابويا.. ونفس اللي حصل في المرتين اللي قبل كده، حصل في المرة التالتة، لكن المرة دي بقى الشاب لما وقع على دماغه، سكت خالص!
اتخض عم رمضان وقرب منه وهو واقع على الأرض وحاول يفوقه..
-ياابراهيم.. انت ياض ياابراهيم فوق..
قال كده وبص للاتنين الواقفين وبعد كده بص لابويا..
-الواد شكله مات ياحاج.
ملامح ابويا ظهر عليه التوتر، كان باين عليه القلق والارتباك، لكنه حاول يداريهم لما بص قصاده بلا مبالاه وقال لرمضان..
-يلا في داهية.. كلب وراح.
قرب واحد من الاتنين اللي واقفين لابراهيم، حط إيده على رقبته وقاس نبضه، وبعد ما عمل كده بص لابويا وقال له..
-لا ياحاج.. الواد ماماتش، نبضه لسه شغال.
قام رمضان وقف وطلع تليفونه المحمول..
-انا هتصل بالأسعاف.
قرب منه ابويا وخد منه التليفون بسرعة…
-اسعاف ايه اللي هتتصل بيها، احنا مش ناقصين سين وجيم.
اتدخل ساعتها الشاب التاني وقال لابويا..
-ما احنا لازم نلحقه ياحاج، ولو على السين والجيم، فسهلة.. احنا نقول إنه اتزحلق وهو نازل على سلم الحمام.. السلم طويل واللي هيقع من عليه وارد يقع على رقبته ويجراله اللي جرى لابراهيم.
بص رمضان للي قال كده وقال له..
-طب وأهله؟!
وقتها رد عليه ابويا..
-هنقولهم نفس الكلام.. او اقولك، احنا نوديه المستشفى ونفضل جنبه لحد ما يفوق، واول ما يفوق وقبل حتى ما يفكر يتكلم، نلحقه احنا ونقوله إننا خلاص مش هنبلغ، وده في مقابل إنه يسكت… يلا.. يلا ياابني انت وهو شيلوه معايا على عربيتي، انا هوديه المستشفى بنفسي عشان ماحدش يحس بحاجة.
ومع نهاية كلام ابويا، سمعت زنة غريبة في راسي، ومعاها حسيت بصداع رهيب.. صداع من شدته كنت شايف الدنيا من حواليا بتتهز، ومرة واحدة.. الصداع راح والهزة سكتت وظهر هو قدامي، ابراهيم.. كان واقف قصاد المكتب بالظبط، كان واقف ساكت، مابيتكلمش!
مَيل راسه ناحية اليمين وهو بيبص لي.. في اللحظة دي لقيت نفسي بسأله بتلقائية..
-وبعدين؟!.. جرالك ايه؟!
فضل ساكت.. ماردش عليا، فاضطريت اكرر سؤالي بس بشكل تاني..
لف جسمه وراح ناحية الباب، وقبل ما يخرج من باب المكتب لف راسه وبص لي..
-امي.. مراتي.. اخواتي.. امي.. مراتي.. اخواتي.
وفضل يكرر في التلات كلمات دول ورا بعض، لحد ما مرة واحدة جه جري ناحيتي ومسكني من رقبتي…
-امي.. مراتي.. اخواتي… امي.. مراتي.. اخواتي..
حاولت ابعده عني او اشيل ايده من على رقبتي، بس ماعرفتش، القوة اللي كان ماسكني بيها خلتني ماقدرتش لا ابعده عني، ولا حتى افلت نفسي منه، انا كل اللي قدرت اعمله اني استسلمتله وهو بيموتتي…
-رضوان.. يارضوان.. قوم ياابني المندوب على وصول.
اول ما فَتحت عيني، لقيت قصادي عم رمضان!… اتعدلت في مكاني وزيحت أثار النوم من على وشي وبصيت حواليا باستغراب..
-هو ايه اللي حصل؟.. انا.. انا.. انا جيت هنا ازاي؟!
-يعني ايه جيت هنا ازاي!.. انا ياابني سايبك نايم من بالليل ومارضتش اخش اصحيك، قولت إنك تعبان ومحتاج ترتاح عشان تبقى فايق لما تقعد مع المندوب.
بصيت لرمضان وغصب عني لقيت نفسي بسأله..
-طب وابراهيم… ابراهيم جراله ايه؟
-ابراهيم!.. ابراهيم مين؟!.. انت كنت بتحلم ولا ايه؟!
-مش عارف… مش عارف اذا كنت بحلم ولا اللي شوفته ده كان حقيقي وحصل، بس في الحالتين انا مصدق.
-مصدق ايه؟!
-مصدق اللي حصل لابراهيم.. ابراهيم الحرامي ياعم رمضان، انا شوفتك وانت واقف معاهم وهو كان متعلق في حبل… اهو..
شاورت على سقف المكتب..
-الجَنش اللي اتعلق فيه الحبل اهو.. اللي شوفته كان حقيقي، ايوه.. ابراهيم مات وعفريته ظهرلي عشان اروح لأهله.. ابويا قتله وانت كنت شاهد.
سكت عم رمضان، مابقاش عارف يرد!.. لكن انا بقى ماسكتش، انا قومت من مكاني وسألته بعصبية..
-ماتسكتش.. قولي… فهمني… او عالأقل عرفني اهله فين؟!
لف عم رمضان وقعد على كرسي من الكرسيين اللي قصاد المكتب..
-انا ماعرفش اللي انت شوفته ده شوفته ازاي، بس ابراهيم ماماتش، ابراهيم لسه عايش.. ولو عاوزني اخدك واوديك لحد عنده هعمل كده، بس قبل ده كله بقى ممكن تفوق كده وتستعد عشان مندوب شركة الأمن جاي.
-عايش!
-اه عايش.. عايش وقاعد في بيته مع أهله.
قعدت في مكاني وبصيت لرمضان بضيق..
-طب انا عايز اعرف حكايته.
-حاضر.. هحكيلك كل حاجة، بس بعد ما تخلص الاجتماع مع المندوب، ودلوقتي.. قوم يلا اغسل وشك واجهز.
لما قالي كده، سمعت كلامه.. قومت غسلت وشي واستعديت، وبعد حوالي عشر دقايق كان مندوب شركة الأمن جه، والحمد لله لما قعدت معاه وشرحتله ظروف ابويا وفهمته اللي بيحصل، الراجل خد الشغل اللي خلص واداني نص الفلوس، وقالي إنه هيديني النص التاني بعد ما اسلمه التلت اللي فاضل من الشغل.. والحمد لله، الاجتماع خلص على خير والدنيا مشيت تمام.. وبعد الاجتماع خلص واتفقت مع المندوب على معاد تسليم الشغل اللي فاضل، قعدت مع رمضان في المكتب وسألته..
-اهو.. اديني خلصت اجتماع مع المندوب وربنا سترها، وأظن إن بعد اسبوع بالظبط، الموضوع كله هيكون خلصان.
ابتسم رمضان وقالي..
-والله انا ما مصدق، ازاي قدرت تقنع الراجل إنه ياخد الشغل الخلصان ويصبر اسبوع على الشغل اللي فاضل، لا وكمان قدرت تاخد منه نص الفلوس.
-انا ماعملتش حاجة، كلها تدابير ربنا، وكمان الراجل يشكر بصراحة، اول ما عرف الظروف اللي انا فيها عذرني وقالي إنه مش هيجي عليا ولا هيستغل تعب ابويا… لكن صدقني، انا كل ده مايهمنيش دلوقتي، انا كل اللي يهمني هو.
-هو مين؟!
-ابراهيم ياعم رمضان.. ابراهيم الحرامي اللي شوفتكوا في الحلم وانتوا بتضربوه.
اتعصب عم رمضان وقالي..
-ماتجمعش.. انا ماضربتش حد، ده ابوك الله يسامحه هو اللي خلى اتنين من الصنايعية يرفعوه ويهبدوه عالأرض وهو متعلق، إنما انا.. انا ماكنتش موافق على اللي حصل وكنت عاوز ابلغ البوليس.
-وهو ايه اللي حصل؟.. احكيلي الموضوع من الأول.
-ماشي.. هحكيلك.. احنا كان عندنا صنايعي اسمه ابراهيم، الواد ده كان غلبان وتملي كان باين عليه الفقر والغلب، بس الحق يتقال.. الواد كان صنايعي وايده تتلف في حرير، إنما الشطارة في الصنعة مش كل حاجة، هو زي ما كان شاطر في شغله، فبرضه كان كسلان في مواعيده، واوقات كتير كان بيجي الشعل متأخر، وعشان كده بقى ابوك كان بيخصمله كتير، وبسبب الخصومات دي وكمان بسبب ظروفه المنيلة، الواد استغل إن المكتب فاضي وقت ما ابوك راح يسلم طلبية، وفي الوقت اللي ماحدش واخد باله منه، اتسحب ابراهيم ودخل، فتح الدرج بتاع المكتب وسرق فلوس وخرج.. غبي، كان فاكر إن ماحدش هيعرف لأن المكتب مافيهوش كاميرات، لكن الحقيقة غير كده.. ابوك حاطط كاميرات في أماكن مخفية في المكتب… يعني، كاميرا ورا البرواز بتاعه، وكاميرا جوة الخزنة المقفولة، وبسبب الكاميرات دي، ابوك عرف إن ابراهيم سرقه وهو مش وجود.. ولما عرف، ماتكلمش، ده سابه لحد اخر اليوم، وبعد ما الصنايعية معظمهم مشيوا، جابني انا واتنين شداد منهم ابوك كان بيآمن لهم، وكمان جاب معانا ابراهيم.. في الأول ماكناش عارفين هو عايزنا في ايه، بس لما دخلنا وشوفنا الحبل المتعلق في الجنش، وابوك ورالنا الفيديوهات بتاعت ابراهيم، عرفنا…
قاطعته لما وصل لحد هنا…
-اه.. وانتوا بقى روحتوا معلقينه من رجليه في الحبل ورفعتوه مرة والتانية والتالتة لحد ما مات.
-ياابني قولتلك ماتجمعش، انا ماعملتش حاجة، ابوك والصنايعية هم اللي عملوا، وبعدين ما انا قولتلك، ابراهيم ماماتش، احنا خدناه المستشفى وابوك كان ناوي يراضيه لما يفوق، بس الواد لما فاق، ماكنش بيتكلم.. الدكاترة قالوا إن الوقعة اللي وقعها، واللي بالمناسبة يعني قولنالهم إنه وقعها وهو نازل الحمام… قالوا إنها اتسببت له في تربنة، يعني دماغه اتلحست، اتجنن، وكمان فقد النطق، ومن يومها وهو قاعد في بيته ومابيخرجش.
-طب وابويا اداله او ادا لأهله تعويض عن اللي حصل؟!
هز رمضان راسه بالنفي..
-لا.. ده ابوك ماصدق إن الواد اتجنن واتخرس.
لما وصلنا لحد هنا في الكلام، قومت وقفت وانا بقول لعم رمضان..
-انا عاوز اروح لابراهيم ده حالًا.
قام رمضان وهز لي راسه بالموافقة..
-حاضر ياابني.. انا عارف بيته.
خرجنا من المصنع انا ورمضان وروحنا لبيت ابراهيم، بيت بسيط في منطقة شعبية، لا.. بيت ايه، دي أوضة.. أوضة عايش فيها ابراهيم ومراته اللي شايلاه، وكمان امه واخواته البنات.
لما دخلت عليه وسلمت على أهله وعرفتهم بنفسي، في الأول ماكنوش طايقينني لأني ابن صاحب المصنع اللي وقع فيه ابراهيم، وطبعًا كانوا زعلانين عشان ابويا ماداهمش حتى تعويض عن الواقعة، ولا بقى بيسأل عليهم.. بس بعد ما قعدت معاهم وفهمتهم اني جاي اعوضهم واقف جنبهم، رحبوا بيا وخلوني اقعد مع ابراهيم.. كان هو هو ابراهيم اللي انا شوفته في الحلم، بس شكله متغير، وشه ظاهر عليه الحزن والتعب، ساكت، عينيه مليانة دموع.. قربت منه وطبطبت عليه، وبكل هدوء قربت من ودنه وسألته بصوت واطي..
-انت خلتني اشوف اللي جرالك عشان اجي وادي لأهلك فلوس؟
بص لي وهز دماغه بحركة معاناها اه، ابتسمت وقربت منه وسألته سؤال تاني..
-طب هو انت عملت كده ازاي؟!
ماردش عليا، لا هز راسه بأه او لأ.. ساعتها عرفت إن دي حاجة مالهاش تفسير، زيها زي حاجات كتير لو فكرت لها في تفسير هتجنن، وبرضه مش هوصل لحاجة، وعشان كده قربت منه للمرة الأخيرة وقولتله..
-واديني جيت ياابراهيم وهعوضك وهعوض أهلك.. انا هديهم شهرية زي اللي كنت بتاخدها وانت شغال، ومن غير أي خصومات، بس كل اللي انا طالبه منك إنك تسامح ابويا.. انا عارف انك مابتتكلمش، بس لو مسامحه هز راسك بأه.
ماهزش راسه، ماتحركش، كأنه مش عارف او مش قادر يسامح ابويا.. وقبل ما اقرب منه واسأله أي سؤال تاني، فجأة تليفوني رن.. كانت امي اللي بتبلغني إن.. إن ابويا مات!
ايوه.. والدي اتوفى، ومن بعد الدفنة والعزا والحداد، مسكت انا المصنع وبقيت بباشر الشغل، وفي نفس الوقت كنت بحضر محاضراتي وبذاكر.. بس الأهم من الشغل والمحاضرات هي المعاملة، معاملتي مع التجار ومندوبين الشركات اللي بنعملهم شغل.. انا معاملتي معاهم كانت مبنية على الود والاحترام المتبادل، وكمان معاملتي مع العمال والصنايعية، كانت معاملة أساسها الاحترام والالتزام والمحبة، والحمد لله.. المصنع اشتغل اكتر والمندوب بتاع شركة الأمن استلم شغله واداني بقية الفلوس، وكمان طلب مني طلبيات تانية، والطلبيات دي الحمد لله جه منها مكسب كويس اوي.. اما ابراهيم بقى، ف ماسيبتهوش، انا أخدته ووديته لدكاترة وبقيت بصرف على مراته وامه واخواته وكأنه شغال بالظبط، واهو.. بقى بيتعالج شوية بشوية، هو أينعم مارجعش زي الأول ولسه برضه ساكت، بس الدكاترة بيقولوا إنه على المدى البعيد هيخف، وحقيقي انا بدعيله كل ليلة قبل ما انام إنه يخف، لأنه لو خف وسامح ابويا، هكون مرتاح اكتر واكتر.. ايوه هكون مرتاح، هو ابراهيم سرق اه ومافيش مبرر للسرقة، بس برضه ابويا افترى عليه، وكعادته وبطبعه الصعب، رفض يسلمه للبوليس وقرر يعاقبه هو بنفسه، مع إن المفروض يعني كان يسلمه هو للبوليس او يعمل معاه أي حاجة غير اللي اتعمل.. بس اهو، ده كان نصيب ابراهيم، تمام زي ما كان نصيبي إني اشوف اللي جراله واروحله واساعده هو وأهله.. وفي النهاية حابب اقول حاجة أخيرة، القصة دي حصلت معايا بجد، وسواء صدقتها ولا لأ.. فده مايهمنيش، انا مش بحكيلك عشان تصدق او عشان تدور معايا على تفسير للي شوفته في الحلم، ولا حتى عشان تقولي ابراهيم وراهولي ازاي.. انا تمام.. تمام ومرتاح جدًا لأني عملت اللي يرضي ضميري واللي يريح روح ابويا بعد ما مات.. بس انا بحكيلك عشان تتعلم حاجة مهمة اوي اتعلمتها انا قبلك من بعد اللي حصلي، صديقي.. لو انت في مكان سُلطة او قوة وفي إيدك تتحكم في ناس شغالة تحت إيدك، خد بالك وانت بتتعامل معاهم، عاملهم بما يرضي الله وافتكر دايمًا إنك مهما كنت قوي، فأكيد.. أكيد فيه اللي اقوى منك.