ليلة الكارثة – من عالم آخر
لم يخطر ببالي يومًا أن الحياة قد تنقلب رأسًا على عقب بلحظة واحدة. بعد سنوات من الانتظار الطويل والدموع، أكرمنا الله أخيرًا بزياد. لم يكن مجرد طفل، بل كان رمزًا لأمل طالما تعلقنا به، ومعجزة رأيت فيها نورًا بعد ظلام دام طويلًا. زياد كان شمسًا أشرقت في حياتنا لتمنحها معنى جديدًا.
البداية
مرت السنة الأولى من عمر زياد كنسيم صيفي دافئ، سريعًا لكنه مليء بالبهجة. كانت كل لحظة معه غارقة في الضحك والفرح. طفل صغير مفعم بالطاقة والبراءة، يملأ المنزل حبًا وحياة. كنت أعمل بلا كلل لتأمين حياة كريمة له، بينما كانت زوجتي تغدقه حبًا ورعاية وكأنه امتداد لروحها. كنا عائلة صغيرة مليئة بالسعادة.
لكن السعادة، كما يقولون، لا تدوم طويلًا.
ليلة الكارثة
في تلك الليلة، عدت إلى المنزل متأخرًا كعادتي، منهكًا من يوم طويل وشاق في العمل. كل ما أردته هو سماع ضحكة زياد المبهجة التي كانت تزيل عني كل تعب. وعندما فتحت الباب، استقبلتني رائحة غاز خانقة.
تجمدت في مكاني، وشعرت برهبة غريبة، وكأن شيئًا سيئًا ينتظرني. ناديت بصوت عالٍ: “منى! منى!” لكن لم يأتني أي رد.
ركضت نحو المطبخ، وهناك وجدتها ممدة على الأرض، بلا حركة. هرعت إلى غرفة زياد لأجده مستلقيًا في سريره الصغير، وجهه شاحب وكأنه بلا حياة. في تلك اللحظة، اجتاحني شعور بالرعب لم أعرفه من قبل.
أخذتهما على الفور إلى المستشفى، وكانت كل دقيقة في الطريق كأنها دهر. حاول الأطباء إنقاذ زياد، لكنهم أعلنوا وفاته بعد محاولات مضنية. أما منى، فقد نجت، لكنها في تلك الليلة فقدت جزءًا كبيرًا من روحها.
الصدمة
الحياة بعد الحادثة لم تعد كما كانت. منى، التي كانت تتعلق بزياد كما تتعلق الروح بالجسد، أصبحت شاردة وكأنها تعيش في عالم بعيد. لم تعبر عن حزنها بالصراخ أو البكاء، بل بصمت غريب يلفه الغموض.
بدأت ألاحظ تصرفات غريبة منها. كانت تستيقظ كل ليلة بهدوء وتخرج من الغرفة. في البداية، ظننت أنها تبحث عن بعض الوقت لنفسها، لكن الأمر تكرر بصورة مقلقة.
في إحدى الليالي، سألتها: “منى، بتروحي فين كل ليلة؟”
نظرت إلي بعينين شاردتين وقالت: “زياد بيصحى، بيعيط. بروح أهدّيه وأرجعه ينام.”
شعرت بقشعريرة تسري في جسدي، وقلت بصوت متهدج: “منى… زياد مش موجود.”
قاطعتني بسرعة: “مش موجود فين؟ هو هناك في أوضته، أنت بس مش سامع.”
الأصوات
بدأت ألاحظ أمورًا غريبة في البيت. في الليالي الهادئة، كنت أسمع خطوات صغيرة في الممر، أو صوت باب يُفتح ويُغلق برفق، وأحيانًا ضحكة طفولية تُشبه ضحكة زياد. كنت أقنع نفسي بأن ما أسمعه مجرد أوهام نابعة من حزني العميق.
لكن بالنسبة لمنى، الأمر كان مختلفًا تمامًا. هي لم تكن تشك للحظة أن زياد ما زال هنا.
ذات ليلة، قررت أن أتحقق مما يجري. تبعتها بينما تغادر الغرفة. رأيتها تدخل غرفة زياد التي لم أجرؤ على دخولها منذ الحادثة. جلست على الأرض بجانب سريره الفارغ وبدأت تغني له الأغنية التي كانت دائمًا تهدهده بها.
وقفت هناك في صمت، وشعرت بالرعب يتسلل إلى قلبي عندما سمعت ضحكة طفولية خافتة تنبعث من الغرفة.
محاولة الفهم
في صباح اليوم التالي، لجأت إلى طبيب نفسي وشرحت له ما يحدث. أخبرني أن منى تعاني من صدمة شديدة، وأنها بحاجة ماسة إلى علاج نفسي. لكنه لم ينفِ إمكانية وجود شيء آخر خارج إطار التفسير العقلي.
لجأت أيضًا إلى شيخ معروف بحكمته وسألته عن هذه الظواهر. قال لي بهدوء: “الأرواح أحيانًا تظل معلقة في هذا العالم، خاصة إذا كانت مرتبطة بحب أو حزن عميق. ربما روح زياد ما زالت هنا.”
شعرت بخليط من الخوف والفضول. هل من الممكن أن زياد لم يغادرنا بعد؟
اللحظة الحاسمة
في الليلة التالية، قررت مواجهة الأمر. انتظرت حتى منتصف الليل، وعندما نهضت منى، تبعتها. دخلت الغرفة ورأيتها تجلس بجانب السرير تتحدث بهدوء: “زياد، ماما هنا. ما تخافش، أنا معاك.”
شعرت فجأة ببرودة شديدة تملأ الغرفة. وسمعت صوتًا خافتًا يقول: “بابا، متسبنيش.”
تجمدت في مكاني وبدأت دموعي تنهمر. لم أعرف حينها إن كنت أعيش وهمًا صنعه حزني أم أنني أمام حقيقة تفوق الإدراك.
منذ تلك الليلة، لم تعد الأمور كما كانت. ما زلت أسمع أصواتًا خافتة في البيت، وأحيانًا أشعر بلمسة صغيرة على كتفي. منى تحسنت قليلًا مع مرور الوقت، لكنها لم تنسَ زياد أبدًا.
ربما لم يغادر زياد عالمنا بعد، وربما لن يغادر أبدًا.