منبع الشر القصة مستوحاة من أحداث حقيقية
“+18”
=لو مكنتش عايش هنا، كنت هبقى حابب أعيش فين…ممممم…سؤال حلو، أظن في الصحرا…
-إشمعنى الصحرا؟
=صحرا مفيهاش غير مصادر نادرة للحياة، عقارب، جمل هنا أو حصان هناك، تجمع صغير للميه كل شوية مقداره بيقل والميه بتجف، والمصدر الوحيد ليها هي المطرة اللي بتنزل كام مرة في السنة، مفيش أي مباني تحجب الرؤية والكل يبقى مكشوف للكل، اللي عايز يستخبى يدفن نفسه تحت الرملة الصفرا اللي بتلمع زي الدهب وكل ما يلمسها بإيده المجردة تحرقه..
-إشمعنى الصحرا يا “عمار”؟
=أنتي مسمعتنيش ولا إيه؟ عشان كل اللي قلته..
-بس دي مش حياة.
=حضرتك مش المفروض دكتورة أو اخصائية نفسية؟ مش من أساسيات علم النفس إن مش كل نفسية زي التانية؟ ولا كل عقل زي التاني؟ أنا مثلًا بالنسبة لي الصحرا بكل الخصايص اللي قلتها حياة، أجمل حياة، بشوف الورود مخيفة والأشواك مريحة، الخضرة مزعجة والصحرا والجفاف ملاذ آمن، الصداقة نفاق وخدعة والصيد واقع ورغبة مدفونة جوانا كلنا ومتعة.
-طيب إحكيلي.
=يوم الحادثة؟
-لأ، من قبل كده، من الأول الخالص، من أول ما وعيت للدنيا.
=متكلمتش مع حد، كنت متأكد إن محدش هيستوعب، بس أنا كنت عارف، كنت عارف إن في حاجة مش مظبوطة، إني مش متناسق ومتسق مع اللي حواليا، وكل مدى كنت بتأكد أكتر.. مكنتش كملت ال6 سنين وكان عندي جارة صغيرة، تقريبًا في نفس السن، بالنسبة لي كانت مستفزة، مستفزة جدًا، شخصيتها الرقيقة وطريقة كلامها، وابتسامتها اللي علطول على وشها، وترحيبها بأي شخص تقابله، تعرفه أو متعرفوش، وتحمسها المبالغ فيه لأي حاجة، مثلًا لما بابا إدالها مصاصة من المصاصات اللي كان جايبهالي أنا وأختي، اتنططت وضحكت وراحت بايساه ف خده. ومبدئيًا كده الحاجة دي كانت بتاعتي أنا، مش من حقه يدي حاجة كان جايبهالي لحد تاني من غير ما يرجعلي الأول.
-ولو رجعلك كنت هتوافق؟
=لأ مكنتش هوافق، الناس في الدنيا كلها متقسمة شريحتين، جزء بيدي وجزء بياخد، أنا من اللي بياخد، اللي يستحق، وكده كده باخد اللي عايزه برضا اللي قدامي أو من غير رضاه.. المهم نرجع للبنت إياها، أكتر حاجة كانت بتستفزني فيها، أكتر من كل اللي قلته هو تعاطفها مع الكائنات الأضعف، الحيوانات…
-وده يستفزك ليه؟
=عشان الحيوانات مطوعة لينا، دورها خدمتنا وبس، واللي بيتعاطف معاها بيضعف، بيبقى شخص مهزوز، مش صاحب قرار ، شخص عالة على المجتمع والبشرية كلها..
-معلش يا “عمار” هو أنت كنت غضبان منها من غير ما تدرك السبب ولا كنت مستوعب للي بتقوله وأنت في السن الصغير ده؟
=مش بالتعمق ده طبعًا بس الأساس كان موجود.. فضلت مستحملها يوم واتنين وتلاتة وشهور لحد ما قررت إني لازم أتصرف، أبقى إيجابي….كان لازم أساعدها، أخليها تنشف شوية، تتحول لشخصية قوية، وده مكنش هيحصل غير لما أزيح العنصر اللي مخليها ضعيفة، وف رأيي ده كان الكلب… كلب قذر كده إتصاحبت عليه، كلب شارع، شِبه اتبنته من ساعة ولادته، أمه تقريبًا اتخلت عنه أو حاجة زي كده، المهم إنه كان لوحده لما “حبيبة” لقته جنب مدخل العمارة ومن وقتها وهي بتنزل له الأكل والشرب، وشوية شوية رجليه خدت على العمارة، بقى يطلع من نفسه لعتبة بابها ويلاقي الأكل والشرب محطوطين ليه في أطباق جابتها مخصوص علشانه. فضلت أراقب بصمت المشهد، كل يوم ف نفس المعاد بفتح الباب فتحة صغيرة وبتفرج عليها وهي بتخرج الوجبة المعتادة بتاعة الصبح وبعدين تدخل بيتها تاني وتخرج وهي شايلة شنطتها وتستعد للنزول عشان تركب أتوبيس المدرسة. كنت بفضل أتابعها لحد ما تدخل الأسانسير وتنزل، كل ده وهي مش حاسه بيا، ولا حد من أهلي واخدين بالهم وبعدين بفضل واقف لحد ما أحس بحركة الكلب وأراقبه وهو طالع متحمس وبيهز ديله. وفضلت على كده حبه، لحد اليوم ده…
قمت من النوم في الوقت المعتاد، اتحركت بهدوء زي كل يوم عشان محدش ياخد باله مني أو يفوق، أصلي كنت بصحى ف معاد بدري عن اللي المفروض أصحى فيه، قبل ما المنبه يرن بحبة وقت، ولو حد كان صحى ف أي يوم من الأيام اللي قبل كده كان هيستغرب من سبب صحياني وحركتي لوحدي، وأكيد مكنتش هسيب حد يخرب عليا خطتي. اتحركت ناحية الباب زي كل يوم، فتحته بحذر وراقبت من روا نضارتي البنت وهي بتحط الأطباق، الأبيض والأزرق، طلع قبل ما تمشي وتروح المدرسة. هي راقبته وهو بياكل، كانت مبسوطة، مبتسمة ووشها رايق، كانت ف حالة سلام رهيبة، حطت إيدها على راسه وطبطبت عليه، مكنش مجرد تعاطف، ده بقى حب، شفت ده ف نظراتها ليه. الموضوع تعدى فعل الخير واتحول لتعلق بالمخلوق القذر ومشاعر عميقة، أنانية!
-أنانية؟
=اه، أنانية، هم مش بيقولوا في المثل “أعمل الخير وارميه البحر” ده تفسيره إيه ف رأيك؟
-يعني الواحد يعمل الخير من غير حسابات، من غير ما يستنى مقابل، من غير ما يشوف الخير ده رايح لمين، من غير ما يحقق، يعني بغض النظر الشخص اللي هيعمل معاه الخير يستحق أو ميستحقش، حتى لو ظروفه صعبة لكن مش طيب مثلًا أو يكون بيدعي الغُلب أو يكون ليه تاريخ مش ولا بد، يعني حاجات من دي.
=صح، متفق معاكي ف كل اللي قلتيه وهزود عليه، الخير الخالص اللي من غير مقابل صاحبه بيبقى عابر سبيل، بيعمل الخير ويلف ويدي ضهره للأرض اللي حط فيها خيره ويمشي يكمل طريقه، لا بيراقب الأرض ولا بيتابع أخبارها ولا بيشوف خيره وصل لفين وهل البذرة اللي زرعها كبرت ولا لأ. فاهماني؟
-تقريبًا، بس عايزه أسمع برضه منك.
=”حبيبة” لو كانت بنت كيوت وكويسة بجد وبتحب الخير وكده، كانت فضلت تحط الأكل في الشارع، قدام العمارة أو بعيد عنها شوية من غير ما تستنى الكلب ييجي، أو لو شافته تمشي وتسيبه علطول لإنها المفروض أدت رسالتها وعملت الخير اللي عايزاه، لكنها شوية وغيرت مكان الأكل، وبدل ما كانت بتحطه في أكياس أو أطباق فلين، اشترت أطباق بلاستيك نضيفة وحلوة وحطت فيها الأكل والميه وبقت تستنى تشوف الكلب وأوقات تقعد معاه وتمد إيدها وتلمسه. بقى في مقابل للخير يا دكتور، بقى في انتظار لشكر، أي تعبير عن الامتنان، وده اتمثل في هزة ديل الكلب والحب ف عيونه ونظراته ليها، وبقى يديها شعور بالنشوة، حب للذات، نرجسية، ده غير بقى إنها ضحكت على الكلب المسكين، أقنعته إنها بتعمل كل ده من منطلق تعاطفها معاه، إن الأمر متعلق بيه هو، والحقيقة إنه متعلق بيها، لإنها انتظرت صداقة، علاقة طويلة الأمد، حب وعطاء من ناحيته، أنانية دي ولا مش أنانية؟
-وأنت عملت إيه مع الكلب؟
=المرة دي بالذات، قعدتها طولت أوي معاه، حاجة مستفزة بصراحة، كنت حاسس بدمي بيغلي ف عروقي، مش فاهم هي موراهاش مدرسة ومواعيد ولا إيه؟ لكن عرفت بعد كده إن كان عندها رحلة يوميها، حبكت! المهم إنها أخيرًا غارت والكلب بقى لوحده….في اللقطة الأخيرة قبل ما تمشي، إدت للأسانسير ضهرها وفضلت تبص على الكلب وهو يبصلها كإنهم اتنين حبيبة. لقطة مؤثرة جدًا الصراحة…
فتحت الباب عالآخر، جريت ناحية الكلب، شلت الأطباق من قدامه، من تحت بوقه. رفع راسه وبصلي باستغراب. مشيت ناحية السلم وأنا شايل طبق الأكل وهو مشي ورايا، عينه كانت متثبته على الطبق، كإنه مسلوب الإرادة، نزلنا دورين، حطيت الطبق على الأرض بعد ما اتأكدت إن مفيش حد في الممر أو حركة قرب أبواب الشقق. الكلب مخدش باله إننا بعدنا عن المكان المعتاد بتاعه، ولا فرق معاه، حط راسه جوه الطبق عشان يكمل اكل، كل اللي كان فارق معاه إنه يكمل أكل..
ودي كانت اللحظة اللي خرجت فيها من جيبي حبل غسيل كنت سرقته من البلكونة عندنا، لفيته حوالين رقبة الكلب…
“عيني طرفت، دي كانت أول حركة أعملها، أول حركة تفلت مني وتترجم الرعب اللي جوايا منه، من الشاب اللي يدوبك عنده 18 سنة، الرعب موجود من قبل ما يدخل المصحة عندنا، من وقت ما عرفت باللي عمله وبإنه جي يتشخص هنا وبإن الاختيار وقع عليا عشان أشخصه. المفروض إن عدى عليا كتير، لكن اللي عمله واللي بيحكيه حاجة تانية، دي مش مجرد أفعال وجرايم بشعة، ده نموذج للشر الخالص”
-إيه يا دكتور؟ أكمل ولا إيه؟
=كمل، إنت وقفت ليه أصلًا؟
“ضحك ضحكة خفيفة وهو مثبت عينه عليا، كإنه عايز يقول لي “قفشتك” عينك طرفت وسامع دقات قلبك من هنا”
=لفيت الحبل بهدوء، بهدوء جدًا حتى إن الكلب الصغير كان فاكر إني بلاعبه، فاكرني زي “حبيبة”، متخيل إن الصنف كله واحد، المخلوقات دي اللي عندها إيدين ورجلين وبتلبس قمصان وبناطيل وفساتين وبِدل مخلوقات طيبة ومتقفة كلها إنها تأكله وتهتم بيه.. صوت المسكين غفلق، عينيه جحظت وهو بيتخنق، كان مصدوم، أظن الألم كان نفسي أكتر منه جسدي، مش فاهم اللي بيحصل ومش فاهم بيحصل ليه، ليه أنا بعمل فيه كده؟ مقدرش يصرخ. يمكن لو كنت استخدمت القوة من البداية، لو كنت برقتله أو هشيته كان هيحس بالخطر أو إني عدوه ومش حابب وجوده، لكني وبرغم إن دي كانت تجربتي الأولى أدركت أن التسرع مش حلو وإني لازم أغير جلدي عشان الهدف ميقراش اللي جوايا، أنا اللي أقراه الأول وأقدر عايز يشوفني إزاي وأصدرله الصورة اللي هتريحه وبعدين أعمل حركتي. وبس… شوية وعينه بدأت تثبت في اتجاه معين، مش عارف هتصدقيني لو قلتلك إني حسيت بيها وهي بتتسحب؟
-هي إيه دي؟
=روحه. في حاجة زي هبة هوا، أو طاقة حسيت بيها جنبي، وبعدين اختفت. كانت لحظة عظيمة. لكن النشوة الحقيقية كانت في اللي حصل بعد كده، لما رجعت اتسللت تاني للبيت وأبويا وأمي معندهمش فكرة عن اللي عملته، نايمين، غايبين تمامًا، وبعدين…. الجو اتبدل في ثواني، صرخة هزت العمارة كلها.. في جارة لقت الكلب وشافت الحبل المربوط حوالين رقبته ووشه الأزرق زرقة البحر، صراخها، كان أجمل صوت سمعته ف حياتي والخضة اللي اتخضتها، تلاقيها كانت مفزوعة، مش بس من المنظر اللي شافته لكن أن في حد مريض مطلوق في العمارة، حد عنده ميول عنيفة وممكن يأذي أي حد، ممكن يأذيها هي شخصيًا، الخطر مش بعيد عن حد، وكنت مستني بفارغ الصبر لما “حبيبة” البت المستفزة الأمورة دلوعة العمارة تشوف أو تعرف عن اللي حصل لحيوانها الأليف. أبصلها ف عنيها وأقول لها “هاه، فين الكلب، الكلب نفعك ف حاجة دلوقتي؟”
“كنت بعمل أني بكمل كتابة، لكن الحقيقة إني كنت وقفت كتابة من فترة، كنت بس بشخبط في الكراسة اللي ماسكاها ف إيدي ودافنة راسي جواها عشان أستخبى منه ومن نظراته اللي عاملة زي السيوف”
-وبعدين؟ لما باباك ومامتك قاموا على صويت الجارة، إيه اللي حصل بعد كده؟
=محصلش.
-إيه مقاموش؟ إنت مش لسه قايل الصرخة هزت العمارة كلها، معقولة مصحيوش؟
=لأ، كل ده محصلش، هو حصل ف دماغي، كل السيناريو بتفاصيله دار ف خيالي أنا، لكن مش في الحقيقة.
“أكيد أخد باله من جسمي اللي هبط، كإني أخيرًا قدرت أخد نفسي وقبل كده كنت متشنجة ونفسي محبوس”
-يعني مقتلتش الكلب؟
=أهو إنتي عملتي نفس الحاجة.
-قصدك إيه؟
=سرحتي بخيالك، رسمتي صورة للكلب ف ذهنك، واتعودتي عليه واتعلقتي بيه، جسمتيه وحولتيه لحاجة مادية حقيقية، والدليل على كده إنك فرحتي لما طلع عايش وإني مقتلتوش، مظنش الفرحة دي متعلقة بيا أنا، مظنش إنك متعاطفة معايا أو فرحانة إني معملتش التصرف الوحش ده.
-كمل يا “عمار”، بطل تحلل فيا.
=مقدرتش أعملها، بعد المراقبة لوقت كبير وبعد التخطيط لكل تفصيلة والنية المبيتة، اتراجعت، خفت، طلعت ووقفت قدام الكلب بعد ما “حبيبة” مشيت، بصتله بصة باردة، وفجأة جسمي كله صابته رعشة كإن جتلي حمة، والكلب رفع راسه وبصل لي بريبة، فتح بوقه وسنانه بقت تجز ف بعضيها، بدأ يخرج أصوات، كإنه مش معجب بيا، قاريني وعارف بنيتي أو على الأقل إني مش صديق ليه، شوية وكان هيهاجمني لولا إني جريت على شقتنا وقفلت ورايا الباب. خفت! مش على الكلب، خفت على نفسي، لا يعمل فيا حاجة وكمان اتقفش والجيران يأذوني لما يعرفوا كنت ناوي على إيه. وبعد ما اتراجعت حسيت بغضب شديد، إني جبان وسلبي وضعيف، الغضب اللي كنت حاسس بيه قبل كده ولا حاجة بالنسبة للي حسيته لما ماقدرتش أموته. وعاهدت نفسي إن ده مش هيتكرر تاني، ممكن أاجل، أقعد سنين حتى قبل ما أعمل تصرف زي ده لكن يوم ما أنوي هنفذ…
“مردتش عليه، فضلت دافنة راسي جوه الكراسة… بعد صمت دام لحبة وقت قال:
=تعرفي لو كان ده حصل، لو كنت قتلت الكلب ورجعت البيت من غير ما حد يدرى وكل حاجة مشيت زي اللي تخيلته كان هيجرى إيه بعد كده؟
بعد شوية الباب كان هيخبط، في الغالب مش هكون لسه نزلت للمدرسة. أبويا وأمي كان هيجروا عليه الاتنين وده عشان هم أعصابهم متوترة من وقت ما سمعوا الصرخة بتاعة الجارة ومش فاهمين إيه اللي بيحصل بالظبط. والرعب اللي على وشهم هيزيد لما يلاقوا اللي بيخبط مش شخص واحد، دول تجمع، عدد كبير من الجيران واقفين متحفزين على عتبة الباب ومعاهم البواب كمان…
واحد فيهم، نقول مثلًا البواب كان هيمد إيده بالحبل اللي خنق الكلب.
وهيقول:
-الحبل من شقة من الشقق، ده تقديرنا، ممكن تتأكدوا إذا كان من عندكم!
بابا كان هيتصدم من السؤال والنظرة اللي في عيون الجيران. هو واضح إننا مش المقصودين يعني، مش إحنا بس اللي اتسألنا عن الحبل، واضح إنهم لفوا الشقق شقة شقة وبيحققوا مع الناس كلها، بس برضه، الفكرة نفسها، حتى لو الكل مشكوك فيه فمش ممكن حد مننا يكون سبب في أيًا كان اللي حصل، اللي الواضح إنه شنيع. أما أمي فمكنتش هتبقى مصدومة بنفس القدر، مش عشان لمحتني وأنا واقف براقب من الطرقة البعيدة ما بين الأوض ومغطي نفسي بالستاير، لكن عشان هي أكتر واحدة عارفاني ومدركة للبركان اللي جوايا، متعرفش طبعًا كل كل حاجة بالدقة، متعرفش المخططات اللي في دماغي واللي ناوي عليه، بس مدركة إني مختلف، ردود أفعالي وبصاتي وتصرفاتي، زي مثلًا إني برغم هدوئي الواضح للكل، لما بيتحطلي في طبق الأكل بتاعي كميات زيادة برغم إني قلت مش عايز بزيح الطبق بطريقة عنيفة، وزي لما حد يقع أو يتعور قدامي عيني بيبقى فيها لمعة ووشي بينور وببقى مبسوط، كل ده بيبان ليها حتى لو ملامحي فضلت جامدة ومتحركتش.
بعد ما هتحرك راسها من ناحيتي لناحية الجيران الواقفين كانت هتلتزم الصمت لحد ما بابا يأمرها بعصبية تروح للبلكونة وتشيك على حبال الغسيل المتعلقة أو اللي محطوطة في الكيس البلاستيك واللي لسه مستُخدمتش.
هتمسمع الكلام وهتروح للبلكونة، هتبص على الحبال المتعلقة ومش هتلاقيها طبعًا ناقصة، أصلي مكنتش هكلف خاطري واشب واقطع حبل منهم يعني. وبإيدين بيترعشوا هتفتح الكيس البلاستيك من غير ما تبص جواه، وهتعرف من غير ما تبص، من حركة إيديها جوه الكيس هتعرف. هتاخد بالها إن في حبل ناقص. هتنهار في اللحظة دي، مش هتبقى عارفة تقف عدل، لكن في ثواني هتسيطر على نفسها وتخرج بكل ثقة من البلكونة وتمشي بخُطى ثابتة لحد الباب عشان أبويا والجيران ميعرفوش اللي فيها وهتقول إن الحبال كاملة وإن ولادها “أنا وأختي” عيال زي الفل ومتربيين أحسن تربية ومش ممكن يؤذوا مخلوق وده لإنها سمعتهم بيحكوا لبابا عن الكلب المقتول وهي في طريقها للبلكونة. الجيران برغم ثباتها الانفعالي الفار هيلعب في عبهم وهيطلبوا إنهم يشوفونا أنا وأختي ويتكلموا معانا. بابا هيتعصب ويعلي صوته عليهم، اللي هو إنتوا إزاي تشككوا فينا وإزاي تعملوا مناقشة مريضة زي دي مع أطفال الكبير فيهم عنده 6 سنين؟ هتقولولهم في كلب اتقتل واتلف حوالين رقبته حبل؟ وكمان شاكين فيكوا؟
هيمشوا زي ما مشوا من كل الشقق من غير أي نتيجة أو دليل على الفاعل، والسر هيتدفن مع الكلب الجربان.
-ده مش بس اتخيلت سيناريو القتل بالتفصيل، ده أنت كمان تخيلت الأحداث اللي ف ديله، وإيه بقى اللي أكدلك إن ده هيكون رد فعل أبوك وأمك؟
=اللي حصل في السنين اللي بعد كده ولحد بدايات مراهقتي، مش نفس السيناريو بالظبط لكن مواقف كتير شبهه. قلتلك إني مكنتش هسمح بفشل تاني، وفعلًا أي كائن استهدفته بعد كده قدرت عليه. صحيح فات سنتين كاملين قبل ما أنفذ، بس مش مشكلة، متأخر أحسن من مافيش. مش كلاب بس، ده كلاب وقطط وضفادع وفيران وعصافير مخبوطة عالأرض أو واقفة سرحانة بتتأمل في الملكوت، وحاجات شبهم كده، مخلوقات بريئة صغيرة في الحجم متتوقعش القدر اللي مفيش مفر منه، متتوقعنيش….
“يتبع”
“الجزء الثاني والأخير”
“كحيت وبوقي مقفول، الكحة دي اللي بتوحي بتوتر، إن في موضوع حساس أو شائك على وشك إنه يتفتح.. بعدين قلت:
-كان في شوية كلام منتور هنا وهناك عن حوادث اختفاء لأطفال رُضع أو اكبر شوية في حضانة كانت قريبة من البيت الأولاني، البيت بتاع والدك ووالدتك وكمان طفلين في المحيط بتاعكم، ف عمارات قريبة منكم.
=تفتكري أنا كان ليا علاقة بالكلام ده؟
-قلتلك بطل تحلل فيا وتشخصن الجلسة يا “عمار”؟
=الله! حميت يا دكتور؟! شايف عواطف وحاسس بسخونة، أثرت عليكي ولا إيه؟
-بلاش كلام فاضي. جاوب على قد السؤال.
=إنتي مسألتنيش!
-اتكلم يا “عمار” كان ليك علاقة بحوادث الاختفاء؟
=اختفاء الحيوانات ولا الأطفال؟
-كله…
=أكيد أنا مش مسؤول عن حوادث الاختفاء في البلد كلها، هو عشان كام طالب على كام مدرس هتشيلوني جرايم الخطف والقتل بتاعة البلد كلها؟؟
-لا داحنا مش هنخلص بقى، من الواضح إنك مش عايز تديني إجابة، بتتهرب، ماشي يا سيدي اتكلم في اللي عايز تتكلم فيه.
=عمري ما فرحت بوجودها، من ساعة ما جت وأنا حاسس إنها لعنة وحلت عليا، شاركتني مساحتي واهتمام اللي حواليا بيا، زاحمتني في منطقتي الخاصة.
-هي مين دي؟
=أختي الصغيرة “لبنى”. أول ما شفتها، لما روحت المستشفى مع جدتي ودخلت عليها هي وماما الأوضة…
-معلش هقاطعك، هو مش إنتوا ما بينكم سنتين باين؟
=اه…
-وإزاي يعني فاكر أول لقاء ما بينكم، عندك ذكريات للوقت ده؟
=ايوه.
-أيوه إيه؟! أنت كان عندك سنتين، فاكر إزاي؟
=عشان أنا عارف نفسي كويس، كل الحكاية إني تخيلت لما روحت شوفتها، الأحاسيس اللي تدفقت عليا لما عيني وقعت عليها.. هم قالولي إني روحت مع جدتي والباقي متأكد منه، حتى لو مفيش ذكرى حية وفعلية عن اللي حصل.
-تمام تمام كمل…
=ماما كانت لسه نايمة، تعبانة جدًا عشان الولادة مكنتش سهلة.. وهم دخلوني وسابوني لوحدي مع البيبي، على أساس دي لحظة أخوية وحاجة جميلة وكده. أول ما شفتها جاتلي رغبة غريبة، رغبة إني عايز أكسر الوش الصغير ده، عايزها تبطل عياط، تسكت، تسكت خالص. بصيت للمخده بصة سريعة، قلت يا سلام لو كنت أقدر أمسكها وأحطها على وشها واضغط واضغط لحد ما صوتها ونفسها يروحوا.
-لاااا، كده كتير أوي!
“حطيت الكراسة جنبي، وشلت النضارة من على وشي وبصتله بتحدي، استفزازي منه طغى على الخوف اللي كنت حاساه قبل كده”
-مستحيل وأنت لسه طفل بريء عندك سنتين متعرفش الكوسة من كوز الدرة تكون فكرت بالشكل ده، على الأقل مكنتش عارف يعني إيه الخنق بالمخده، مش ممكن تكون الفكرة دي جت ف بالك، أنك تشيل المخده وتضغط بيها على وش أختك.. أنت مدمن كدب يا “عمار”.
=لأ، أكيد تقييمي ليكي مش غلط، مش معقول أكون غلطت لما قدرت إنك دكتورة شاطرة، ينفع تشخصيني بالسطحية دي؟ إني مدمن كدب، فكري بشكل أعمق يا دكتور.
“عيني زاغت، اتحركت في كل الاتجاهات، معقول اللي قالوا هو يكون سبب كل الإدراك اللي جالي مرة واحدة، افكاري اترتبت وزي ما يكون في طبقات اتشالت من عليه وبقيت قادرة اشوفه بشكل أوضح بكتير”
-كل حاجة بدأت بكدبة، استوديوهات وهمية فيها مشاهد وسيناريوهات عشان تتحول بعد كده لحقيقة، حولت كدبك لحقايق، نقلت خيالك لساحة الواقع.
=عفاااارم علييييكي. ………اللي فاكره كويس ودي ذكريات واقعية تمامًا إني كتت بستنى الوقت اللي ببقى فيه لوحدي معاها، وأول مرة قدرت فيها أعمل اللي عايزه كان بعد ما تمت السنتين، ضميت صوابعي وقرصتها بأقصى قوة عندي ف رجليها، الألم كان رهيب لإني أنا شخصيًا اتوجعت من ضمة صوابعي ف لحمها، صرخت بصوت رهيب لدرجة إن ماما جت تجري من المطبخ للأوضة وشافت الاحمرار اللي على جلدها… وقفت متسمرة، بصتلي بخوف وبعدين شالتها ومكلمتنيش لا ساعتها ولا بعدها، مفتحتش معايا سيرة اللي حصل، ودي كانت البداية….
مرة مثلًا اعمل كإني خبطت في كوباية الشاي السخنة ووقعت مني على “لبنى” غصب عني ويجيلها حروق تفضل معاها شهور وشهور، ده غير الضرب اللي كنت بضربه ليها على أساس إننا بنلعب لعبة المصارعين والكدمات اللي كنت بسببهالها ف كل حته ف جسمها ومش بس كده، دي مكنتش بتشتكي عشان اقتنعت إنها كانت مجرد ألعاب وأنها ببساطة خسرت ف كل دور…
الموضوع اتطور من مجرد إيذاء بدني مباشر لمرحلة تانية من المتعة.. كنت تميت ال11 سنة…
كعادتها فضلت تلعب في الشارع مع صحابها قرب العمارة وتقضي معاهم الساعات المعتادة واللي مسموح لها بيها.. كنت قاعد في البلكونة، سرحان في اللاشيء لحد ما عيني وقعت عليها.. الكائنة دي، اللي عمري ما حبتها ولا تقبلتها ، اللي عاملة زي الأشغال الشاقة في سجن بيتي، كل اللي بعمله فيها ولا حاجة بالنسبة للعذاب اللي بدوقه منها، عذاب وجودها في حد ذاته. وساعتها جاتلي الفكرة….
مشيت لحد ما بابا وماما كانوا قاعدين.. وقفت جنبهم وحطيت وشي في الأرض. فضلت ساكت حبة وقت لحد ما لاحظوا وجودي. مبقوش بيضحكوا زي الأول وفي النهاية بطلوا ضحك تمامًا. بابا سألني عن اللي فيا. قلتله إني عايز أتكلم معاه لوحدنا. بصوا لبعض ف خوف. وبابا قام ودخلنا احنا الاتنين أوضتي وقفلنا على نفسنا الباب. قلتله إني شفت حاجة إمبارح. سألني إيه الحاجة دي. قلتله إني كنت نازل على سلم العمارة وسمعت صوت، حركة تحت السلم، في الفراغ أو الطرقة الفاضية المدارية وإني جالي فضول فقربت وشفت شاب مراهق ف سني ومعاه أختي “لبنى” وإني مكنتش ناوي أتكلم بس معرفتش أعمل إيه، وإني قلقان أوي عليها لإنها في الغالب مش فاهمة اللي بيحصل، مش مدركة إن ده عيب وحرام وإن الموضوع ممكن يتطور عن كده، وإني كمان لا زعقتلها ولا حتى عاتبتها. أول ما شافوني الولد جري وهي فضلت متنحة فيا، صدرها بيعلى ويهبط من الخوف ومن ساعتها وإحنا متكلمناش في الموضوع، وادعينا إن مفيش حاجة حصلت وتاني يوم، اللي هو يوميها اليوم مشي عادي ولا كإن، نزلت في نفس معاد لعبها، ويا عالم ممكن بعد شوية يكون في لقاء غرامي تاني بينها وبين الولد…
راقبت وشه وهو بيتلون، الاحمرار بيزحف عليه وصوابعه اتكورت ف كفه وسنانه جزت ف بعض.
جري للبلكونة ونده عليها بزعيق. “لبنى” اتفزعت من زعيقه. افتكرت إن في مصيبة حصلت، وهي فعلًا كانت مصيبة، بس مصيبة متعلقة بيها هي، المسكينة الغبية. دقيقتين بالظيط وكانت في البيت ولقت بابا وماما وأنا من وراه مستنينها. شدها وجرها لأوضتها ودخل معاها وقفل الباب. سمعت الحزام وهو بينزل عليها من غير فواصل، وصراخها العالي، كإن الضربات بتشق جلدها من الألم، كانت ف وسط الصرخات بتسأل : “عملت إيه؟”. ماما كانت متخشبة قدامي على عتبة باب الأوضة. فجأة اتلفتت ليا وعنيها مغطياها الدموع، عاتبتني بنظراتها وكلمتني كمان، كانت بتقول من غير ما تنطق إنها قفشاني، عارفه بالظبط اللي عملته، عارفة إن “لبنى” بريئة ومفيش أي حاجة من اللي قلتها حصلت. ومع ذلك معملتش حاجة، مدخلتش عليهم الأوضة وحاشت عن “لبنى”، مقالتش لبابا لا ف وقتها ولا بعد كده إني كدبت واختلقت القصة كلها ومفاتحتنيش ف الموضوع، عدته زي ما عدت كل اللي فات وكل اللي هييجي بعد كده.
تاني يوم في حاجة اختلفت، حسيت بتغيير، تغيير فيا وف الأجواء حواليا كإني داخل على مرحلة جديدة. مشيت للمراية وبصيت لنفسي، مكنتش لوحدي! كان في حاجة جنبي، ضل، ضل ملازمني شفته ف المراية، لكن لما بصيت جنبي ملقتهوش، بس أنا كنت متأكد من وجوده..
-وإيه الضل ده ف رأيك؟
=مش عارف، مقدرش اقولك بالظبط هو إيه، ممكن نقول عليه وجود، كيان بيحرسني، بيدعمني وبيحرص إني أكمل ف مسيرتي من غير ما اتأذي .
“فرد جسمه للمرة الأولى. وبص في السقف. اترسمت ابتسامة على وشه وملامحه ارتخت كإنه حاسس بسلام نفسي رهيب وهو بيفتكر الموقف واللي صاب اخته وبعدين قال”
=طبعًا مشافتش الشارع بعد كده، مبقاش مسموح بفكرة نزولها وسرمحتها مع صحباتها دي تاني، النزول والطلوع بقى معانا وبس. لكن الأهم إنها اتكسرت، عنيها بقت دايمًا في الأرض ولما بتلتقي بعيونه كنت بشوف رعشة ف جسمها وذعر على وشها. هي كانت متأكده إني ورا العلقة اللي خدتها وإني دبرت مسرحية كاملة، وده خلاها تخاف مني اكتر من خوفها من بابا، أدركت قدراتي وإنها عايشة وبتتنفس بس عشان أنا لسه سامحلها بده..
-أنت عمال تلمحلي من أول الجلسة إن مامتك كانت عارفة باللي بتعمله وباللي جواك، هي فعلًا كانت عارفه بكل ال…
=البشاعات؟ الفظائع؟ الجرايم؟ قولي قولي متتكسفيش.
-هقول حاجة تانية، ملاحظة جانبية بعدين هنرجع لمرجوعنا. من طريقة كلامك واسلوبك واضح جدًا إن مثقف وسابق سنك بكتير، ليه مستغلتش ده بشكل مختلف، كان ممكن تبقى نموذج تاني تمامًا..
=كان ممكن أبقى ألفريد نوبل مثلًا؟ كريستوفر كولمبوس؟ ركن الدين بيبرس؟
-ليه لأ؟
=ألفريد نوبل قبل ما يخصص جزء كبير من ثروته عشان تقديم جوايز مالية لأصحاب الاختراعات والمجالات اللي بتفيد البشرية، وصل لاختراع هايل كان سبب ف موت ملايين البشر ومن وقتها ولحد دلوقتي ، “الديناميت”، وكريستوفر كولومبوس اللي لقى القارة الضخمة اللي بتحتوي على الأمريكتين، عالم جديد بحاله، أرض غنية، اتسبب ف موت أكتر من 120 مليون هندي أحمر، عشان العالم القديم مرضاش يتعايش مع العالم الجديد، كان عايز الأرض الجديدة خالصة ليه بكل ثرواتها، أما بقى ركن الدين بيبرس فقبل ما يحكم مصر ومصر تشوف إزدهار كبير في عصره قتل صديقه الصدوق سيف الدين قطز. مش بقولك عالم كله نفاق، يمكن عندك علم بتاريخهم الإسود لكن كل اللي جه ف بالك لما ذكرت أسمائهم هي انجازاتهم والخير اللي قدموه للبشرية اللي ف ضهره جرايم وبشاعات، زي الشمس كده اللي لولاها مكناش هنشوف القمر ولا هنعرف شكله، نور الشمس هو السبب ف ضوء القمر، الشر اللي عملوه هو السبب الحقيقي لمجدهم وخروجهم للنور.
=يعني قتلت زمايلك في المدرسة والمدرسين عشان فلسفة أنت مؤمن بيها..
“نزل رجله على الأرض فجأة بعد ما كان ممدد. بصل لي شوية وبعدين قال:”
= ف يوم بابا رجع من عند جدتي أم أمي لوحده ودي كانت حاجة مش متوقعة. المفروض التلاتة راحوا مع بعض، لكن هو لسبب ما قرر يسيبهم ويرجع لوحده والنتيجة هي إنه شايف حاجة المفروض مكنش يشوفها…
كنت مشغل الغسالة بس مش على هدوم، جواها كانت قطة اصطدتها من سلم العمارة…
“للمرة التانية طرفت وعضيت بسناني على شفايفي اللي تحت، مكنتش عارفه إزاي هتخطى اللي سمعته من الولد ده، ده غير الحادثة البشعة اللي جابته هناك في المستشفى اللي بشتغل فيها”
=بصي، هو إنتي ردود أفعالك واضحة بالنسبة لي أوي، لكن الخبر الحلو إنك مش مدركة نفسك، مش مدركة إن برغم إن لغة جسمك فاضحة توترك، لكن برضه معاها اتجرأتي، بقيتي تبصيلي ف عيني مش بتهربي زي أول الجلسة وبتتحديني ومش خايقة مني زي الأول.. نرجع لقصتي…
بابا شاف المنظر، شاف القطة وهي بتتعذب جوه الغسالة وشافني وانا واقف قدامها وبراقبها، متهزتش لثانية، هو اللي كان المفروض يخاف مش أنا، رجع بضهره وهو بيبص لي بذعر، رجله مكنتش شايلاه، مشي وسابلي الشقة كلها، تخيلي؟
سمعته وهو بيتكلم مع ماما بعد كده. قال لها:
-الولد لازم يتعالج!
سألته “يتعالج من إيه؟” قالها تبطل تلف وتدور وإنها فاهمة كويس قصده وفكرها بكمية الحيوانات اللي لاقاها مقتولة قريب من العمارة وإنه بشكل عفوي كان بيدفنهم بنفسه وبسرعة لإن حاسس إن الموضوع مش بعيد عنه، وإنه لازم يداري على الجرايم دي ، ده غير الأطفال اللي اختفوا من المنطقة، وإنه مع الوقت شاف ليا تصرفات وردود أفعال عنيفة وباردة ف نفس الوقت ، أوصافي تطابقت ف رأيه مع أوصاف السيكوباتيين لإنهم بيجمعوا ما بين انعدام الشعور والسلوك المعادي للمجتمع.
هي صوتها علي وانفجرت فيه، قالت إن إبنها زي الفل وإنه أحسن ولد وإنه متربي أحسن تربية وليه مستقبل باهر عشان هو ذكي بزيادة ويمكن ذكائه ده اللي مخليه مميز ومنطوي ومختلف عن الأطفال الباقيين. قالها إني مش مميز بطريقة كويسة، إن عندي مشاكل خطيرة في السلوك.
دخلت أوضتي وهم لسه بيتجادلوا، فتحت النور الضعيف، اللمبة السهراية وبصيت في المراية. لقيته، الضل إياه كان واقف جنبي بالظبط، ابتسمت لحد ما سناني كلها بقت باينة وسمعت صوت ضحكة خفيفة مش أنا مصدرها..
رجعت تاني لقدام أوضتهم ولزقت ودني في الباب…
أمي قررت إني مش مريض ولا حاجة وإني ملبوس!
في جن شرير ملازمني وهو المسؤول عن كافى تصرفاني لإن معنديش القدرة على أي تصرف شرير وبكده أكون محتاج شيخ يصرف الجن مش دكتور…ده كان أهونلها من إنها تعترف إني مريض…
روحنا لشيخ واتنين وتلاتة، كلهم أجمعوا على رأي واحد “مفيش جني ولا حاجة”، “لا كائن خارق ملازمني ولا لعنة صايباني”… والأخير قال لماما “إبنك محتاج علاج نفسي، عينه مرعبة وجواه طاقة سلبية كبيرة، لازم يتشخص ويتعالج ، يمكن كمان يكون محتاج أدوية”
شيوخ آخر زمن، قال إيه الشيخ بيحولني لدكتور نفسي…
ماما خرجت شايطة من عنده وبطلت توديني لشيوخ ومودتنيش لدكاتره عشان أنا زي الفل وميصحش يتقال عليا بتعالج في عيادة أو مصحة نفسية..
لما بقى عندي 15 سنة المرض اشتد على أبويا، هو كان بقاله فترة مريض وكان بيرفض إنه يروح يكشف ، كان عنده اعتقاد إنه هيخف لوحده، جسمه كان بيضعف وفي آلام ف بطنه وكان بيسخن كتير، ممكن نقول قضاء وقدر وممكن الضعف التدريجي كان بسبب، يمكن مقصود…
-مقصود إزاي يعني؟
=يعني هنفترض، مجرد افتراض إن في سم فيران في المطبخ وإن في حد كان بيحط منه كميات قليلة أوي ف كوبايات الشاي بتاعته عشان كده مماتش مرة وحده، الضعف كان تدريج، ويمكن كل ده خيال جامح ومات بأسباب طبيعية! المهم إنه ف ليلة صحى ماما وخلاها تنده أختي، والاتنين اتجمعوا حواليه، رفع كفه ومرره على خد “لبنى” وبصلها بحب ومسك إيد أمي، تخيلي مندهنيش! في اللحظات الأخيرة بتاعته استدعاهم هم وسابني أنا، تفتكري ده معناه إيه؟
“بصيت للأرض ف تأثر وقلت”
-أنا آسفة، أكيد ده أثر فيك.
“ضحك ضحكة عالية، وبعدين حرك راسه بالنفي وقال”
=شكلي هغير رأيي فيكي، بجد أنت متخيلة إني اتأثرت؟
“بعد ما كنت حاسة للحظات بالشفقة عليه رجعت تاني أتغاظ منه وأكرهه”
كمل وقال:
=بعديها بسنة واحدة والدتي حصلته، سبحان الله نفس الأعراض بالظبط. المرة دي اللي كانت معاها هي جدتي، مامتها. مكنتش عارفه تتكلم بس كانت عايزه تقول حاجة. أنا كنت واقف على عتبة باب الأوضة، حاطط إيديا وره ضهري براقبها من غير ما عيني ترمش. أخيرًا قدرت تتحرك وتتكلم، فردت دراعها وبصباعها شاورت عليا وقالت لجدتي:
-خدي بالك منه!
جدتي كانت منهارة في العياط وبتطمنها إنها هتاخد بالها مني، مفهمتش! مفهمتش إن ماما مكنش قصدها إنها تهتم بيا، دي كانت بتحذرها مني.
بعد ما أمي اتكلت اتنقلنا أنا و”لبنى” لبيت جدتي وعشنا معاها 3 سنين. كنت حاسس إني لازم أتطور، لازم شكلي يبقى لايق على شخصيتي واللي جوايا، سبت شعري، مقصتوش ، وبقيت اسيبه من غير ما ألمه ومن غير ما أسرحه، اشتريت كحل وبقيت أكحل عيني علطول، طول الوقت بقيت أشغل موسيقى بلاك ميتال، وبكده أخيرًا اتحررت من سجن المظاهر الكذابة، بقيت متصالح مع شكلي ومش بداري شخصيتي زي زمان. بعبر عن أفكاري ف كل مناسبة، بزق زمايلي في المدرسة من على السلالم لما ألاقي حد فيهم موجود لوحده ، بضرب أي حد يستفزني بأي طريقة، كلامه ، آرائه، تصرفاته، مبقتش أخاف من حد ولا حاجة. بس كانت لسه في حاجة ناقصة، زي نوبل اللي عجبك ده كان لازم أعمل حاجة تخلدني، قطعة فنية بتاعتي لوحدي وإسمي يبقى ملازم ليها ولذكراها وضلي اللي بشوفه لما ببص في المراية يبقى فخور بيا بسببها.
الموضوع فضل ف دماغي لأسابيع، وكان معايا مسدس بابا اللي كان لسه فيه الرصاص، أصله زي ما أنتي عارفه كان عميد في الشرطة وأنا بقى عن طريق اتصالاتي وتواصلي مع ناس من النت…
-أنهي نت؟
“ضحك بخبث وفرد ضهره وبعدين رد:”
=لأ يبقى أنا كده كنت صح، إنتي موهوبة يا دكتور، فعلًا مكنش النت المعتاد ، النت إياه، المستخبي، المهم إني قدرت أشتري بندقية، مدفع رشاش الماني.
وف يوم قررت أنفذ…
دخلت من البوابة زي كل يوم، عديت على فصلي، وقفت أنقل نظري ما بين اللي قاعدين وبعدين قلتلهم : “ده آخر يوم ليكم في الدنيا” وخرجت الأسلحة وبدأت اضرب بشكل عشوائي، كل اللي كانوا في الفصل ماتوا. فخرجت وكملت على اللي كانوا يجروا زي الناس في لعبة جيه تي إيه كده…
-لعبة؟ إنت كنت شايفهم شخصيات ف لعبة؟
=ممممم، آه، كنت حاسس إني موجود جوه لعبة ، مش هم بس، أنا كمان شخصية ف لعبة…
بس يا ستي والعساكر والظباط اللي جم مقتلونيش، قبضوا عليا ولقيت نفسي هنا، في مستشفى الأمراض العقلية، قال إيه عايزين يتاكدوا من سلامتي العقلية والنفسية قبل المحاكمة.
-أنت مش خايف مالموت يا “عمار”؟
=قصدك عشان تشخيصي هيبقى إني كنت واعي وأنا برتكب الجرايم وهتعدم؟ لأ.
-ممكن أسالك سؤال بره التشخيص والرسميات؟
=يا دكتور إحنا بقينا صحاب، طبعًا!
-تفتكر لو كنت روحت لدكتور من زمان وأخدت أدوية، مكنتش هتعمل اللي عملته؟ كان في حاجة هتختلف؟
=يمكن، هي الأدوية مكنتش هتخليني إنسان تاني، بس كان ممكن عدد أقل يموتوا أو كل اللي تخيلته يفضل ف خيالي، ميتترجمش لواقع,…
“دي كانت أول مرة أشوف ف عيونه حاجة، عينيه زاغت للحظة وعضلات وشه اترعشت، “عمار” كان نفسه الوضع يبقى مختلف، ودي إسمها “مشاعر”، كان نفسه أهله يوعوا لحالته ويعترفوا بمرضه ويهتموا بعلاجه، كان نفسه يبقى في واقع بديل بحيث أنه ينفذ جرايمه ف خياله وبس وميضطرش يتعامل مع النتايج، والمشاعر اللي لقطتها منه ف لحظة واحدة بتهدم النظريات الطبية الجامدة، التشخيص المحدد وتصنيف الحالات، المفروض السيكوباتي يكون متبلد المشاعر، لكن “عمار” عبر عن رغبة، رغبة ف عالم خالي من الجرايم، خالي من جرايمه، وده ف رأيي ينافي تبلد المشاعر.. بعد حالة “عمار” مليون سؤال جم ف بالي وشغلوني، هل فعلًا في إنسان بيبقى شر، شر خالص من غير مؤثرات ولا عوامل اجتماعية وبيئية؟ ف رأيي إن ده مش مستبعد وإن في ناس هم مصدر للنار مش بس مصيرهم النار، عندهم طاقة سلبية رهيبة وقدرة على الدمار، لكن برضه إذا كان ده موجود فممكن يتحجم، لو في حد ليه وصاية على الشخص السام ده ممكن يتدخل ويحدد من شره، زي حالة “عمار”، لو كانوا أهله ربوه، لو كانوا عنفوه بعد كل المصايب اللي عرفوها ولو كانوا ودوه يتعالج ومنشفوش دماغهم، كان يمكن ميقدرش يعمل كم الدمار اللي عمله وهم يبقوا عملوا اللي عليهم وقدام ربنا يبقوا مخلصين ذمتهم ومش مسؤولين عن أفعاله بعد كده… وفي سؤال تاني، هل فعلًا مفيش حد بيعمل خير لوجه الله من غير أي مقابل؟ هل كلنا منافقين وبستنى مقابل للخير اللي بنعمله ولو ف صورة إمتنان أو اهتمام أو حب أو دعوة؟ هل مفيش حد على وجه الأرض بيعمل الخير ويرميه البحر ويديله ضهره؟ كان لازم أثبت ل”عمار” حتى بعد ما اتنفذ فيه حكم الإعدام ومات إن ده موجود، والأكتر متن كده كمان إن الواحد ممكن يغير من نفسه، يزقها للخير زق، وعشان كده روحت مدرسة “لبنى” ووقفت براها واستنيتها، ولما خرجت اتكلمت معاها وقلتلها إن عيادتي وبيتي مفتوحين ليها وإنها لازم تتعالج لإن اللي اتعرضت ليه يهز جبل من مكانه، أكيد في تاثيرات نفسية عليها، ولازم يبقى في حد يهتم بيها والحد ده هو أنا من غير أي مقابل، وبسرعة لفيت وأديتها ضهري من غير ما اشوف رد فعلها، برغم إني سمعت ضحكتها الممزوجة بعياط من الفرحة….
ليلتها حسيت بسعادة رهيبة وانتصار، استرخيت تحت الميه السخنة ، لكن قبل ما أطلع من الحمام، مسحت البخار اللي على المراية، وشفت حاجة وأنا ببص عليها…متأكده من اللي شفته، ضل واقف ورايا، وبرغم إن مكنش ليه ملامح واضحة لكن كنت برضه متأكده إنه بيبص لي وبيبتسم، كإنه فخور، كإني حققت حاجة أثارت إعجابه، انتصرت عليه ف لعبته، أثبتله إن الخير الخالص موجود……