روايات شيقهرواية خطوات نحو الهاوية

نوفيلا خطوات نحو الهاوية للكاتبة منال سالم الفصل الثالث

اعتصر الألم قلبي وأوجعه مع استمرار جفائه المتزامن مع تجاهله لي، تلاشت الوعود بالاتصال اليومي، وتبخرت الأحلام بتكرار ما ادعاه مازحًا بأنها فترة خطبة ثانية، كنا كالغرباء تحت سقفٍ واحد، مضت الأيام بصعوبة وأنا أتنكر لكل هاجس يحاول الاستحواذ على عقلي ضده، تناسيت كل شيء حينما عاد إلى أحضاني، وتغاضيت عما أوجع كرامتي الأنثوية لأنعم من جديد بقربه الذي اشتقت إليه، أحببتُ ليلة عودته حقًا، ذكرتني بما افتقدت معايشته معه كثيرًا، أملت أن يدوم ما تمنيتُ، وأعطيته تلك الرسالة التي كتبتها ذات يومٍ بدموعٍ فرحة، قرأها مبتسمًا ونظراته تعكس حبًا توهمت أنه ضاع في غيابات سفره المتكرر ليقول بعدها مُعاهدًا قلبي:.

-أنتِ حبيبتي، أعدك أن أحافظ عليها أبد الدهر.

ثم قبلني بعمق ومنحني بعدها تلك الضمة الماحية لأحزاني القديمة، ظننت أني حلقت في سماء الحب من جديد، لن أدع يأسي يعكر صفو تلك اللحظات الحميمية الخاصة، مر الوقت وللأسف خاب رجائي، وعاد إلى إهماله لينشغل برفاقه وبتركي لساعات طويلة أجلس بمفردي طوال فترة أجازته، ربما لو كان يمنحني ما يعطيه لهم لما شعرت بمثل ذلك الفراغ القاتل، ألهيتُ عقلي في بعض الأمور، لكن بقيت رغبتي في الشعور باهتمامه الحقيقي بي -وإن كان بسيطًا- شاغلي الأكبر، حاولت ألا أبحث له عن ذرائع للخلاف أو الجدال، وقررت أن أصنع سعادتي بنفسي إن كان لا يلاحظ إهماله لي، ورغم هذا أوجعني -بل أصاب قلبي في مقتل- حينما رأيت تلك الرسالة التي وعدني بالحفاظ عليها ملاقاة بعدم اكتراث خلف الكومود الملاصق للفراش، انحنيت لألتقطها وأنا أكافح عبراتي التي غزت مقلتاي، قاومت رغبتي في البكاء معتقدة أنه نسي وضعها في مكان آمن ليحفظها، تغبرت بالأتربة وبُهت حبرها واختلط بسبب تساقط الماء عليها، طويتها بحرصٍ، وقررت أن اختبر صدق وعده لي، أخفيت الرسالة في جيبي ثم أتيت إليه لأقول بابتسامة مصطنعة:.

– حبيب
رفع رأسه عن شاشة هاتفه المحمول ليسألني بفتورٍ شبه ملحوظ:
-ما الأمر ناردين؟
جلست إلى جواره فخبأ هاتفه كي لا ألحظ ولو مصادفة ما يطالع باهتمام مريب، تغاضيت عن تلك النقطة لأسأله:
-أين وضعت الرسالة التي كتبتها لك؟
رد متعجبًا:
-أي رسالة؟
صدمة أخرى تلقيتها في صدري لتزيد من إحباطي الموجع نحوه، رددت موضحة:
-التي وعدتني بالحفاظ عليها
فرك ذقنه بحيرة واضحة عليه، بدا كمن نسي الأمر كليًا، ثم رد مازحًا:.

-لا تقلقي، إنها موجودة هنا
ادعيت الابتسام رغم يقيني بعدم معرفته لمكانها وللضرر الفادح الذي أصابها، أمسك حبيب بيدي ليضعها على قلبه، ثم أرخى أصابعه لأسحب كفي قبل أن يكمل بهدوءٍ لكنه بدا جادًا للغاية:
-اعلمي ناردين أني لست رومانسيًا مثلك، أنا شاب واقعي، لا أجيد التعبير عن المشاعر
نظرت له بيأسٍ حزين، أنا لا أريدك سوى أن تعود إلى سابق عهدك معي، لا أكثر ولا قليل، همست بصوتٍ أقرب للاختناق:.

-وأنا لم أطلب منك سوى القليل من الاهتمام
زفر متسائلاً بتثاؤبٍ:
-أخبريني هل الطعام جاهز؟ فمعدتي تصرخ جوعًا!
أزعجني تجاوزه لتلك المسألة ببساطة، أنا أحدثه عن الاهتمام بي وهو يطلب مني الطعام، أدركت أنه لا جدوى من الحديث معه، تنهدت مجيبة إياه:
-نعم
رد بحماسٍ ظاهرٍ:
-عظيم، لنأكل سويًا، فأنا على عجلة من أمري
تعقدت ملامحي متسائلة:
-لماذا؟
أجابني عفويًا:
-سأخرج مع رفاقي لبعض الوقت.

ازدادت تعابير وجهي تجهمًا، وسألته بنبرة شبه مزعوجة:
-ألم تكن معهم بالأمس؟
أجابني دون ترددٍ:
-نعم، ولكن هؤلاء رفاق قدامى، لم أرهم قبل فترة، واتفقنا اليوم على التجمع في منزل أحدهم وقضاء السهرة معًا
هتفت معترضة بضيقٍ مقروء على كل تفصيلة في وجهي:
-ولكن…
قاطعني بجديةٍ:
– ناردين، إنها ليلة واحدة، ولن أتأخر
رددت باحتجاجٍ:.

-ولكنك قلت لي هذا بالأمس، وأول أمس، وقبلها، طوال بقائك هنا تخرج كل ليلة مع رفاقك الذين لا ينتهي عددهم
امتعض وجهه معلقًا:
-وماذا أفعل إن كانوا كُثر؟ أليس من حقي الترويح عن نفسي؟
هتفت فيه بحدةٍ:
-روّح عن نفسك ولكن لا تنسى حقوقي
رد باستنكارٍ:
-وهل قصرتُ معكِ في شيء؟

صمت للحظة مانعة نفسي من الرد عليه، فالتقصير من وجهة نظره يعني تبادل الأجساد للحب بشغف، وبالنسبة لي يعني أعمق من ذلك بكثير، إبداء الاهتمام، الاحتواء، المشاركة، حذرته وأنا أكاد أنهار باكية:
-الإهمال يقتل المشاعر الجميلة، تذكر ذلك جيدًا
نظر لي باستخفاف قبل أن يرد متهكمًا:
-أي إهمالٍ وأي مشاعر تتحدثين عنها، كل تلك الثورة الفارغة لمجرد خروجي لبضع ساعات؟

تنفست بعمقٍ لأسيطر على نوبة البكاء التي تراودني قائلة:
-لا يا حبيب
رد بجمودٍ أضنى قلبي وأتعبه:
-وعدتك ألا أتأخر، وسأفعل، لا تعدي الطعام، فقدت شهيتي!
هتفتُ عاليًا:
-افعل ما تريد!
ثم تركني في مكاني ليختفي بداخل الغرفة، رغمًا عني تساقطت دمعاتي المقهورة، دفنت وجهي بين راحتي متذكرة الرسالة الموجودة في جيبي، أخرجتها منه لأمزقها والألم يفتك بقلبي.

جلست على الفراش انتظره بصبرٍ أوشك على النفاذ مني، ها قد نكث حبيب بوعده لي مرة أخرى، وتأخر في سهرته مع رفاقه بالخارج حتى الساعات الأولى من الصباح، وبت أنا وحدي أعض على أناملي من الضيق والامتعاض، حتى أنه لم يكلف خاطره بمراسلتي أو السؤال عن أحوالي، كنت مهملة بحقٍ، وحينما عاد كان منهك القوى، يتوق للنوم بعمقٍ، ألقى بجسده على الفراش مغمضًا لعينيه وهو يهمس بتعبٍ:
-لا توقظيني باكر ناردين.

نظرت له نظرة معاتبة مليئة باللوم ومغطاة بالدمعات، همست وأنا أوليه ظهري:
-حسنًا
غط في سباتٍ عميق بعد دقائقٍ وبقيت أنا مستيقظة أبكي على وسادتي بقهر منكسر، وضعت يدي على فمي لأمنع شهقاتي الغادرة من الخروج من جوفي لتفضح أمري، فأنا لا أريد شفقته ولا اهتمامه الزائف، أريد فقط لحظة صادقة من الماضي الذي بات بعيدًا عني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى