تأقلمت مع غيابه المعتاد وإهماله المقصود لي دون عتابٍ، فقد مللت من الإشارة إلى ذلك، وسئم حبيب من جدالي معه لينتبه لصغائر الأمور التي تخصني، ضاق به ذرعًا من شكواي، وحملني الذنب في اختلاق وسائل النكد، تسرب إليَّ وقتها إحساسًا عميقًا بأن حبي له لم يكن إلا من جانبي، منحته ما لن يقدر، اقترب موعد ميلاده فعمدت إلى عدم إفساد تلك المناسبة بتصيد الأخطاء، فربما هي فرصة طيبة لإصلاح الشرخ في مشاعرنا الفاترة، قررت أن ابتاع له شيئًا مميزًا، بالطبع لاحظت اهتمامه بالعطور ووضعها طوال الوقت، فاقتطعت جزءًا من راتبي الشهر لأشتري له عطرًا خاصًا ما إن يضعه يتذكرني، دار في خلدي أن أحضر له عطرًا مماثلاً لما كان في زجاجة العطر الفارغة التي احتفظت بها لأشهرٍ، وبالفعل ذهبت بالزجاجة إلى محل العطور لأخذ رأي الخبير هناك، تحير البائع قليلاً وأتى لي في النهاية بشيء مقارب لها مع الفارق أنه باهظ الثمن…
طلبت منه أن يغلفها بشكل لائقٍ، فنفذ رغبتي بتهذيبٍ، عدت إلى المنزل والحماس يملأ صدري لأهديها له، وانتظرت بشغفٍ عودته ليراها، راقبتُ باهتمام مشتعل بداخلي نظراته وردة فعله وهو يفتحها، رأيت ابتسامة باهتة تتشكل على ثغره قائلاً:
-شكرًا ناردين، إنها هدية جميلة
ثم أحنى رأسه على وجنتي ليطبع قبلة صغيرة عليها، سألته بصدرٍ متهدجٍ:
-هل أعجبتك؟
أومأ برأسه هاتفًا:
-نعم.
سعدت كثيرًا لكونها قد حازت على إعجابه، وأضفتُ بشغفٍ معكوس في نبرتي:
-لقد سعيت جاهدة لأطابقها بتلك الزجاجة القديمة التي أعطيتها لي
حدق بشرود أمامه مرددًا بوجهٍ متعجبٍ:
-لا أذكر ذلك
أوضحت له بجديةٍ لأشير لحرصي البالغ عليها:
-قبل أن تسافر تركت لي زجاجة عطرك الفارغة
أرجع رأسه للخلف معلقًا:
-نعم، تذكرت
سألته بترقبٍ وأنا أبعثر الرائحة في الهواء ليشتمها أنفه:
-هل الرائحة مثلها؟
رد بفتورٍ:.
-قليلاً، ولكن القديمة لم تكن أصلية
زويت ما بين حاجبي متسائلة باندهاشٍ:
-ماذا؟
أردف موضحًا:
-كانت زجاجة عادية، رخيصة الثمن، حتى أني لم أكن أحبذها كثيرًا
أحبطتني كلماته القاسية وأفسدت فرحتي بالكامل، وأنا التي ظننت سابقًا أنه أعطاني إياها لكونه يحبها تحديدًا، رددت باستياءٍ ملموس:
-فهمت
ربت على كتفي كنوعٍ من التقدير قائلاً:
-سلمتِ ناردين
سألته بحزنٍ حاولت إخفائه:
-هل ستضع منها اليوم؟
أولاني ظهره معقبًا:.
-لاحقًا، فقد أهداني رفاقي النوع المفضل لي
تفاجأت من اهتمامه غير المبرر بهدايا أصدقائه عن هديتي، سألته مصدومة:
-حقًا؟
أجاب مؤكدًا بحماس لم يظهر مع تطلعه لهديتي:
-نعم، نوعٌ فاخر لا يليق إلا بي
هتفت بغيظٍ:
-وزجاجتي غالية أيضًا
التفت نحوي ليداعب طرف ذقني قائلاً ببسمة صغيرة:
-أعلم، سأضع منها، لا تقلقي.
ساورتني الشكوك بأنه يجاملني فقط، تطلعت إليه بنظرة حانقة غاضبة منه، فأنا أسعى لرأب الصدع في علاقتنا التي تحولت لاهتمام وحب من جانبي، وفتور وشيء روتيني من جانبه، شهقت بفزعٍ حينما رأيته يضع الزجاجة بإهمالٍ عند حافة التسريحة، شعرت في تلك اللحظة أنها ستتحطم، وصدق حدسي فسقطت متهشمة على الفور، اتسعت حدقتاي قهرًا على ضياع ما أنفقته على الهدية سدى، ليس هذا فقط، بل على تلاشي السعادة من حياتي الزوجية، استدار نحوي قائلاً بحرجٍ:.
-أعتذر ناردين، لم انتبه.
ثم انحنى ليجمع الزجاج المتناثر بينما تجمدت في مكاني أبكي بضيقٍ مبرر وكأن شريط ذكرياتي معه يمر نصب عيناي لينتهي عند حافة الهاوية، اعتذر من جديد مبديًا ندمه ولكني لم أتقبله، فلو أظهر للحظة واحدة شغف صادق نحو هديتي لما عبأت مطلقًا بما صار حتى لو تحطمت عشرات المرات، فيكفي أن تهادي أحدهم وردة بمحبة صادقة لتصل مشاعره إلى قلبك وتغلغل في أعماقك عن مجرد كلمات منمقة مجاملة كنوعٍ من تأدية الواجب، هو من البداية عكس عدم مبالاته بها، وأنا توهمت حسن نيته، هرعت من الغرفة متجهة للحمام لأبكي بداخله، ومع هذا لم يلحقني حبيب، تركني أتجرع مرارة الحزن بمفردي، مكثت لبعض الوقت حتى استجمعت نفسي وخرجت منه لأجده راقدًا على الفراش يطالع هاتفه المحمول كما لو لم يفعل شيئًا، تمددت إلى جواره متوقعة أن يتجاذب أطراف الحديث معي ليهون عليّ الأمر، وانتظرت، ثم انتظرت، وراقبته لمدة طويلة، لا شيء صدر منه نحوي، فقط تحديق مهتم بما يتابعه في هاتفه، حينها أدركت أن ما أرسمه في مخيلتي من معايشة مشاعر الحب حتى نهاية العمر لم تكن إلا أوهامًا خادعة، أنا أحببته من جانبي فقط، وهو لم يبادلني نفس الشغف ونفس المحبة، ادعيت النوم لأنخرط من جديد في نوبة صامتة حذرة من البكاء المقهور.
مضى شهر وراء الآخر، واعتدت تقريبًا على طباعه الجافة، قل التواصل بيننا حتى بات أمرًا عاديًا إن لم نهاتف بعضنا أو نتحدث لأيامٍ خلال سفره المستمر، نعم أفقت من وهم الحب الحالم معه، وبت مثله واقعية، لا أفكر فيما يحتاجه القلب من مشاعر صادقة ليروي ظمأه لدفء الأحضان وحرارة الوجدان، تسلحت بالجمود والفتور، وسعيت فقط لإكمال صورة العائلة السعيدة بالإنجاب، لكن تعذر حدوث ذلك لتباعد فترات الاتصال بيننا، آنذاك أخبرني طبيبي النسائي بوجود وسائل طبية لحدوث ذلك في حال سفر الزوج، تحمست للفكرة إلى حد ما، فلما لا أشغل وقتي بطفلٍ أوليه حبي وأمنحه كل ما عجزت عن الحصول عليه؟ قرأت عن المسألة وتقصيت من المختصين ليكون أبعاد الموضوع مكتملاً عندي حينما أفاتحه فيه، وتبقى لي النقاش معه لنحسم سويًا ما راود عقلي مؤخرًا بعد أن زاد إهماله لي وعانيت أكثر من قسوة الوحدة، اخترت مفاتحته في عطلته الأخير، كالعادة كان مسترخيًا على الفراش يتبادل حديثًا مكتوبًا مع أحدهم لوقتٍ ليس بالقليل، هتفت قائلة بنزقٍ لأقطع متابعته معه بعد أن تملكني الضيق من تجاهله الزائد عن الحد:.
-أريد أن أنجب حبيب
نظر لي من طرف عينه نظرة باردة، ثم رد متسائلاً:
-وما المطلوب مني؟
رددت بجدية تامة:
-أن نفعل المناسب لكي ننجب
زفر قائلاً بوجهٍ ممتعض:
-هذه مشيئة الله، حينما يأذن سيحدث
علقت عليه بإصرارٍ:
-ولكن أمرنا الله أن نأخذ بالأسباب، هناك وسائل طبية قد تتيح لنا حدوث ذلك
تفاجأت به يقول بجدية بالغة:
-حسنًا، وأنا لا أريد الإنجاب الآن.
سألته مصدومة من مصارحته العلنية الهادمة لجذوة الحب الصغيرة الباقية بداخلي:
-ماذا تقول؟
رد بنبرة جمعت بين القسوة والجمود:
-ما سمعتيه ناردين
هتفت مدافعة بجنون عن حلمي الأخير، خاصة أن مدة زواجنا قد طالت دون وجود صغارٍ:
-كل زوجين يحلمان بأن ينجبا طفلاً، وأنت تقول لي هذا الكلام الفارغ، أنا لا أصدقك!
اشتدت تعابيره قائلاً:.
-لأني في بداية طريقي، مازال أمامنا بضعة سنوات لننجب، وأنا لا أرغب في طفل يعوق مخططاتي حاليًا
انحبست العبرات المصدومة في طرفي، تنفست بعمق لأمنع صدري الذي اختنق من أن ينفجر بصراخٍ لأقول ببطءٍ وأنا أرجوه:
-إنها رغبتي الأخيرة حبيب، اعتبره طلبي الوحيد
وكأنه لم يتأثر بحالتي الواجمة ليرد بوجهٍ متحجر الملامح قاسي النظرات:
-لا أستطيع ناردين، كذلك أنا لم أطلب منك أن تنجبي!
لم أتحمل المزيد خرج صوتي منتحبًا صائحة به:
-وأنا لن أنتظر مرور العمر لأحصل منك على طفل، ألا يكفيك تركي وإهمالي لترفض منحي أحد حقوقي؟!
رمقني بنظرة جافة خالية من العطف معلقًا عليّ:
– ناردين أنتِ تريدين الشجار على أمر تافه!
رفعت حاجبي للأعلى مستنكرة تبريره للأمر متسائلة:
-هل يعدُ الإنجاب تافهًا بالنسبة لك؟
أجابني ببرودٍ:.
-نعم، فأنا لا أريد طفلاً يقيد حريتي بالمزيد من المصروفات، ويلزمني بمسئوليات أنا في غنى عنها الآن، وأنتِ لن تغصبيني على ذلك
فاض بي الكيل، ورأيت حياتي على المحك، صرخت به معبرة عما يجيش في صدري من آلام وأوجاعٍ أرهقتني على الأخير:
-لقد سئمت من تلك الحياة العقيمة التي لا تقدم لي سوى التعاسة
حدجني بقسوة متسائلاً:
-الآن تتذمرين؟
سألته بحدةٍ وأنا أبكي العبرات الحارقة:
-لماذا تزوجتني حبيب؟ ألم تكن تحبني؟
أجابني دون ترددٍ:
-نعم، كنت!
كان رده مقتضبًا لكنه أصاب قلبي في مقتل، ابتلعت ريقي في حلقي المليء بالعلقم لأسأله وأنا أتوقع الرد مسبقًا:
-والآن؟
رد بفتورٍ:
-لا أعرف
بكيتُ كما لم أبكِ من قبل، التهبت حدقتاي من حرقة الدمعات التي صرخت عني، سمعته يضيف ببرودٍ:
-وأرجوكِ لا تضغطي عليّ فلا أتفوه بالحماقات، دعيني لأنام
رفضت صائحة بصراخٍ:
-لا
زفر متسائلاً بنفاذ صبر:
-ماذا تريدين؟
سألته بعتاب وقد أدمى حديثه قلبي المفطور:.
-هل هناك ما لم تفعله لتهمل مشاعرنا؟
هدر مستنكرًا:
-تتحدثين عن المشاعر مرة أخرى، أخبرتك من قبل أني لستُ برجل حالم، أنا واقعي و…
قاطعته بنبرتي الباكية:
-والاهتمام لا يتطلب أن تكون عاشقًا متيمًا، فقط امنح شريكك ما يستحقه على قدر اهتمامه بك، لو كنت تعاملني مثل رفاقك لما اشتكيت أبدًا
أشاح بوجهه بعيدًا عني مرددًا:
-عدنا إلى نقطة الرفاق مجددًا، أنتِ تغارين منهم؟ حقًا النساء عاشقات للنكد!
تحركت لأقف قبالته وأنا أسأله بنفسٍ منكسرة:
-وماذا عنكم أنتم معشر الرجال؟ أتمنحون السعادة للنساء؟
رفع كفه أمام وجهها قائلاً:
-لا أريد الحديث ناردين
سألته بإلحاحٍ:
-وماذا عني؟ ألم تشفق على…
قاطعني بقسوة:
-أتعلمين لقد مللت من جحيم حياتك
نظرت له بصدمة من بين عبراتي التي غلفت مقلتاي، ثم سألته بذهولٍ:
-أباتت حياتي معك جحيمًا؟
أجابني متعمدًا أن يكون شرسًا في رده:
-نعم، هل ارتاح قلبك؟
رددت عليه:.
-أنت لم تحب إلا نفسك
بدا فجًا وهو يعلق:
-وما العيب إذا منحت نفسي بعض الاهتمام؟
رمقته بنظرة مليئة باللوم قبل أن استطرد قائلة:
-يا ليتها كانت نفسك فقط، لكنك تمنح كل من حولك الاهتمام إلا زوجتك، أتذكر تاريخ زواجنا؟ أتذكر يوم ميلادي؟ أتذكر أي تفصيلة تخصني متعلقة بنجاحي؟
عقب بوقاحةٍ:
-كفاكِ أوهامًا، تتصيدين الأخطاء لمجرد رفضي لمسألة الإنجاب!
صحت رافضة ما يقول وأنا أكفكف عبراتي بظهر كفي:.
-ليست بأوهام، إنها الحقيقة حبيب، أنت لم تفِ بوعودك القديمة، لم تمنحني الحب، قصرته فقط على أصدقائك وأهملتني، حتى أنك ترفض الإنجاب كي لا تتقيد بطفلٍ فتبقى حرًا غير ملتزمٍ بأي مسئولياتٍ
أردف قائلاً:
-من حقي أن…
قاطعته بحدةٍ قبل أن يختلق لنفسه المبررات ومشيرة بسبابتي نحوه:
-معذرةً، ليس من حقك وحدك، فأنا شريكتك
منحني نظرة لم تعرف الحب أبدًا ليقول بعدها بجحودٍ:
-أحيانًا أتمنى لو كنت أعذبًا.
رددت عليه ببقايا كبرياءٍ مستنزف:
-يا ليتك بقيت هكذا ولم تظلمني معاك
صدمني قائلاً:
-لقد وصلنا إلى مفترق طرقٍ ناردين
سألته وأنا أحاول الحفاظ على الجزء المتبقي من ثباتي:
-ماذا تقصد؟
أجابني بعد زفيرٍ قصير:
-نحن بحاجة للابتعاد عن بعضنا لبعض الوقت
ارتجف بدني من تصريحه العلني برغبته المتنامية داخله بالانفصال عني وإن كان قد انتقى من الكلمات ما يهون به وطأة الحقيقة القاسية على روحي المتعبة، تابع قائلاً بعزمٍ:.
-لنعطي لأنفسنا فسحة لنفكر في القادم من حياتنا إن أردنا إكمالها بتلك الصورة سويًا، وأشكُ أن نفعل
سألته بنبرة مهزومة:
-أتريد الانفصال عني؟
أجابني موضحًا:
-بل أريد فرصة لأرتب أفكاري بعيدًا عنك وأحسم أمري
أومأت برأسي قائلة:
-هكذا إذًا، شكرًا لأنك كنت صريحًا معي.
لم يضف المزيد بل انسحب من الغرفة ليتركني أنهار بمفردي في بكاء مرير أوجع قلبي واقتلع روحي لأدرك أني خطوت بالفعل نحو هاوية إنهاء زيجتنا، لم يمر أسبوعان على اختياره للفراق إلا وكنت جالسة معه عند المأذون أوقع على وثيقة طلاقي منه، كانت نهايتنا معلومة حتى وإن أرجأناها لبعض الوقت، هو حسم الأمر واختار الابتعاد، وبقيت أنا أعاني ألم الاشتياق، نعم ضاع ما أمنت به يومًا معه من حبٍ حالمٍ لم يكن إلا من طرفي، وظل ما جمعنا مجرد ذكريات واهمة تشوهت بفعل الإهمال وعدم الاهتمام.
تمت