

في قلب الصعيد، في بيت طيني بسيط، كانت عايشة “نور”.
بنت قمر زي اسمها، عينيها واسعة وروحها صافية. بس نور دي كانت حكايتها حكاية، من صغرها كانت بتشوف حاجات غريبة، خيالات بتتحرك في الضلمة، أصوات هامسة محدش غيرها بيسمعها. أهلها كانوا يقولوا دي تخيلات عيال، لحد ما الموضوع كبر وبقت تشوفهم وشوش واضحة، أشكال ليها ضل بس مش بني آدمين.
مكنتش بتخاف منهم، بالعكس، كانت بتحس إنهم جيرانها في البيت. كانوا بيقعدوا معاها وهي بتلعب في الحوش، يحكو لها حواديت بلغة مش عربية بس كانت بتفهمها بقلبها.
كانوا طيبين معاها، عمرهم ما أذوها بكلمة ولا فعل.
وبيوت الصعيد القديمة زي ما أنت عارف، مبنية على حكايات وروايات، وكل حتة فيها ليها سر.
بيت نور كان مبني على أرض ليها تاريخ، أرض بتقول الحجارة بتاعتها إن هنا كانت حضارة زمان، وآثار مدفونة تحت التراب. والجن اللي كانوا صحاب نور كانوا عارفين السر ده كويس.
في يوم من الأيام، ونور عندها يمكن سبع سنين، لقت في إيديها خاتم دهب صغير، عليه نقوش غريبة. فرحت بيه وفضلت تلعب بيه طول النهار.
أمها شافته وسألتها جابته منين، قالت لها:
-عمو اللي بيجي بالليل هو اللي إدهولي.
الأم افتكرت إنها بتحلم ولا بتخرف.
بس الموضوع اتكرر، كل كام يوم نور تلاقي حاجة دهب جديدة، مرة أسورة، مرة حلق، مرة عملة دهب قديمة شكلها غريب.
لكن بتكتشف إن الدهب بيختفي بعد يومين.
الدهب ده مكانش زي دهب الدنيا، كان ليه لمعة مميزة كأنه طالع من نور الشمس نفسها.
أبوها “الحاج محمود” كان راجل غلبان، شقيان طول عمره عشان لقمة العيش.
في يوم شاف نور لابسة سلسلة دهب تقيلة، لمعت في عينيه زي البرق، وفضلت السلسلة مع نور أكتر من إسبوعين..
سألها بعصبية جابتها منين، وخافت نور تحكي الحقيقة، قالتله لقتها في التراب.
الحاج محمود مصدقش، بس مكنش عنده دليل يكذبها. خد الدهب ده وباعه في السوق، وجاب فلوس مكنش يحلم بيها طول عمره.
حالهم اتغير في كام يوم، الفقر والكرب اللي كانوا عايشين فيه اتبدل برزق واسع. اشتروا أرض وبنوا بيت جديد، وبقوا من الناس الميسورة في البلد.
نور كبرت، وبقت صبية زي القمر، بس لسه علاقتها بالجن زي ما هي. كانوا بيظهروا لها في أوضتها بالليل، يحكوا معاها ويدوها هدايا دهب كل فترة. كانوا دايماً يوصوها متقولش لحد إنهم هما اللي بيدوها الدهب، وإلا هتتأذي. نور كانت بتسمع كلامهم، خايفة لحسن يختفوا من حياتها.
مرت السنين، وكل اللي يتقدموا لنور وتوافق، يحصله حاجة تخليه يبعد عنها، حصل كده أكتر من أربع مرات، لحد ما طلع عليها إشاعة بتقول إن عليها جن عاشق، بيطفش العرسان!.
وفي يوم، وهي بتنضف أوضتها القديمة، لقت “مكحلة” دهب صغيرة، بس شكلها عجيب، عليها رسومات فرعونية واضحة. كانت تحفة فنية بجد.
أبوها شاف المكحلة وهي في إيديها، انبهر بجمالها وقيمتها اللي باينة عليها، والطمع والجشع بانوا في عيونه.
سألها دي جابتها منين، ونور اترددت كتير.
خافت تقول الحقيقة وتخسر صحابها الجن، وخافت تكذب على أبوها اللي طول عمره ما كذبش عليها.
في لحظة ضعف، ومن كتر الزن على ودانها ، قالت له الحقيقة:
– الجن اللي كانوا بيجوا عندي زمان، لسه بيجوا وبيدوني دهب من تحت الأرض.
الحاج محمود سمع الكلام واتصدم صدمة عمره، كان بيسمعها بتقول ده وهي صغيرة، لكنه مكنش يصدق إن كلامها يطلع صح!.
معقول كل الفلوس والخير اللي هم فيه ده كان سببه الجن؟ لكنه متراجعش عن اللي ف دماغه، وقرر يبيع المكحلة..
من يومها، حياة نور اتقلبت جحيم. الجن اللي كانوا صحابها زمان، مبقوش ييجوا زي الأول. بقت تشوف خيالات مرعبة، تسمع أصوات بتزعق في ودنها، تحس بحد بيشدها من شعرها وهي نايمة.
في الأول أهلها افتكروا إنها اتجننت من الخضة، بس مع الوقت الموضوع زاد عن حده. بقت تمشي في الشوارع بالليل، تصرخ وتعيط من غير سبب واضح. عينيها اتملت رعب مبينتهيش، وكلامها مبقاش مفهوم.
جابوا لها شيوخ كتير من كل مكان، وكلهم كانوا بيتفقوا على حاجة واحدة:
“البنت دي عليها عشيرة كاملة من الجن العاشق، وآذوها شديد عشان كشفت سرهم”.
كل شيخ كان ليه طريقة علاج، منهم اللي قرا عليها قرآن بصوت عالي لحد ما كانت بتترعش وتعيط، ومنهم اللي كان بيرش عليها مية مقرية ويضربها بالعصاية عشان “يطلع اللي فيها”. بس مفيش حاجة كانت بتجيب نتيجة.
نور الحلوة، اللي كانت زي البدر المنور، دبلت زي الوردة المقطوعة. وشها شاحب، عينيها دايرة، وكلامها بقى همس مبهم.
أهلها اتحسروا عليها، والفلوس اللي جابوها من دهبها مبقتش ليها أي قيمة قدام صحت بنتها اللي بتضيع قدام عينيهم.
وصرفوها على علاج بنتهم..
في ليالي الضلمة، كانوا يسمعوا صوت صراخها بيقطع السكون، صوت بنت بتتألم من عذاب محدش حاسس بيه غيرها. كانوا يشوفوها قاعدة في ركن الأوضة، بتهز راسها وتتمتم بكلمات مش مفهومة، كأنها بتحاول تتكلم مع حد مش موجود.
الناس في البلد كانوا يتجنبوا بيتهم، يخافوا من اللي حصل لنور. كانوا يقولوا “دي فتحت على نفسها باب مكنتش قادرة تقفله”. والحكايات والاشاعات كانت بتزيد كل يوم.
ويقولوا إن في ليالي معينة، اللي يقرب من بيتهم يسمع همسات غريبة، وضحكات مكتومة، كأن الجن لسه موجودين، بس دلوقتي مبقوش صحاب، بقوا أعداء بينتقموا.
ودي يا استاذ محمد حكاية نور، اللي عرفت سر الأرض واتصاحبت على اللي ساكنين فيها، بس لما كشفت السر، دفعت تمن غالي أوي، تمن عمرها وصحتها وعقلها.
تمت.