في ورشة نجارة في العام 1967 كان الراديو المغربي في مدينة طنجة يصدح بإذاعة القرآن الكريم بصوت الشيخ محمد رفعت المصري صاحب الصوت الملائكي.
واسفل الراديو الموضوع على ذلك الرف كأن هناك رجل في الخمسين من عمره غزى الشيب رأسه وقد أمسك بقطعة الصنفرة الخشنة وأخذ في تسوية جميع جوانب الرف الذى يصنعه لتكوين مكتبة صغيرة وإلى جانبه ابنه الأكبر في الرابعة والعشرون من عمره وقد اقبلت ابنته الصغرى ذات التاسعة عشر ربيعًا منذ قليل تحمل اطباق الغداء وقد أغلق ذلك الرجل ابواب الورشة وشرع في الأكل مع ابنائه واُنس حياته بعد وفاة زوجته منذ عامين غابرين.
ولكن تعلقت الملعقة قبل ان تصل إلى فمه في الهواء وهو يستمع الى ذلك الخبر في نشرة أخبار الظهيرة وقد تجمعت الدموع في عينيه وهو يستمع الى صوت المذيع المُجيد للغه العربيه ينقل ذلك الخبر “أعلن الجنرال فرانكو حاكم إسبانيا حرية الأديان عام 1967، وأعلنت أكثر من 600 عائلة إسبانية عودتها للإسلام عقب تنصيرها بالقوة بعد سقوط الأندلس.”
تنبهت حواس ابنائه عاشقي تُراب الاندلس وابتسموا بسعادة وفرح عكسه وقد خلع نظارته الطبية يمسح دموعه قائلاً بصوت متقطع ومتحشرج: يا الله! لا… تعرفون… كيف دفع جدى الأكبر يحيى وجدتي حكمت… ارواحهم ثمنًا لرؤية ذلك اليوم؟!
نظر له ابنه باهتمام وترك قطعة الخبز من يده قائلاً: كيف يا ابتى؟
استند على ركبتيه وهو يقف ثم اتجه إلى ذلك الرف وامسك بالصندوق من جانب الراديو ثم عاد إلى الطاولة الصغيرة واخرج مفتاح قفل الصندوق واخرج منه دفتر قديم قائلاً: سأحكى لكم قصة جدكم وجدتكم يحيى وحكمت لتعرفوا كم عانيا للفوز ببعضهم وحاربوا الدولة والقوانين حتى ينعموا بالحب والسكينة ثم فتح الكتاب وبدا يقرا أول اسطر في المقدمة التي خطتها حكمت بيديها.
—————————————————————————————
في عام 1820 وفى اوروبا التي كانت في حاله من اضطراب العنيف والشديد جراء الحملات البريطانية والفرنسية الاستعمارية التي أخذت تطوف العالم شرقًا وغرباً شمالاً وجنوبًا في صدد تحقيق هدفها الأزلي وهو هدف جميع ملوك الارض منذ خلق الجن وأدم الى نهاية الزمان وقيام الساعة يوم الوقت المعلوم الا وهو امتلاك الارض ومن عليها وقد نسي جميع ملوك الارض السابقين ان الله يرث الارض وما عليها وجميعنا سواسيه امام الله العزيز الحميد والعلى الكبير وفى يومًا لا ينفع فيه ملا ولا حكمًا ولا ولدًا سيندم كل من فرط في لحظة كانت اولى منه بالعبادة والتقرب الى الله زُلفى.
وأنا لا اعد نفسى عليكم وصاية لكن كأخت لكم فقط ناصه وأشدّ مما تعرفه في حياتها هو مرارة الندم ، فصدقًا ولله الصدق ان الفرصة واحده ولا تتكرر والفرحة لحظه والندم عمر .
وعلى كلاً فليس هذا سياق قصتنا الحزينة اليوم بل هناك قصه اخرى واقولها قبل البدا في تلك المغامرة الصغيرة بين ثنايا الاحرف القليلة إن كنت من عشاق الترف والفرح فاذهب ولا تجعل قصه صغيره تنكد عليك هناء عيشتك الطيبة فتلك المرة انا لن احكى قصة البطل والبطلة الذائبين في بحورًا من العشق ولا البطل الكاره للبطلة وفى نهاية المطاف ستأسره ببراءتها بل قصتي اليوم جريئة ومختلفة اكسر بها ركاكة وملل الجو المحيط بين بطل وبطله اختلافهما وتباعدهما أبعد ما يكون بين السماء السابعة والارض السُفلى ودعوني لا اطول الحديث الذى لا طائل منه علكم فصتنا اليوم في بلاد القوت الغربين سابقًا والمسلمين سابقًا والكاثوليك المسيحين حاليًا قصتنا في شبه الجزيرة الإيبيرية وبلاد الوندال قصتنا في بلد ذات اسمين ، فشرقًا تُسمى الاندلس الجنة المفقودة وغربًا تسمى اسبانيا ولنعود للتاريخ المذكور اعلاه في اسبانيا التي سقطت في يد نابليون بونابرت عبر حملاته الاستعمارية والذى اتخذ قرار غير مجرى تاريخ اسبانيا حيث امر بإلغاء محاكم التفتيش التي كانت تعاقب كل من تشك في مذهبه الكاثوليكي سواء كان يهوديًا او مسيحيًا بروتستانتي او أرثوذوكس او أريسي او مسلمً !
وتسومهم سوء العذاب ولم يجد هؤلاء المساكين حلاً من تلك المصيبة سوى اعتناق المذهب المسيحي الكاثوليكي علنيًا وأي مذهب اخر سريًا فلُقبوا بالمورسكين ، او يفرون عبر البحر تجاه الدولة العثمانية او شمال افريقيا من المغرب والجزائر ومصر في مراكب الدولة العثمانية او قراصنة البحر الشُجعان امثال الاخوان بربروسا ويوسف سبارو وغيرهم من الابطال.
والان اظن من ثبت الى الان على اتم الاستعداد في ان يقفز الى سفينتي التي تطوف العالم في بحور الشبكة العنكبوتية ويشحذ سيفه ويسن رمحه للدخول في غمار تلك المغامرة . هيا بنا!
————————————————————————————–
كانت تلك المقدمه لقصة فتاه ذات حظًا عسر . اوقعها نُبلها وشجعاتها فى اسوء كوبيسها الذى حاربت فى معركة قويه لاجتنابه ولكن الامر نافذ لا محاله وهى جوليانا او ” حكمت” كما سماها ابويها فحكمت من المروسكين المسلمين فى عائله من اربع افراد وقد رحل والدهم الحداد عن الارض الى قبره منذ خمس سنوات مُخلفًا خلفه حكمت ذات الثانية والعشرون عامًا من عمرها و” اخيلا “او “طارق” صاحب الثالثة عشر سنه وزوجته “اليزبيث “او” خديجه “فى الخامسه والخمسين من عمرها . وكانت تلك العائله البائسه تسكن فى احد احياء مدريد متوسطة الحال تذهب الى الكنيسه كجوليانا واليزبيث واخيلا وفى البيت خديجه وحكمت فقط لا طارق هنا قبل ان يتم الرابعة عشر ويعلم بحقيقة دينة وعائلته ويتمكنون من المهاجرة الى شمال افريقيا ويمارسون شعائرهم الدينيه بكل حرية .
فهذا هو القانون الذى سنته الملك ايزبلا الاولى ملكة قشطاله انه لا يهاجر اى طفل من الاندلس او اسبانيا ما دون الرابعة عشر من الذكور والاثنى عشر من الإناث ومن يقدم على ذلك تتبنى الكنيسه هذا الطفل و فى المقابل تُصادر الدوله جميع ممتلكات تلك العائله ان استطاعت المهاجره و لم تقع فريسه تعيسه فى يد محاكم التفتيش .
والان لقد تطاولت فى الكلام ونسيت ان اخبركم بشكل حكمت . حسنًا هى طويله وتميل للبدانه قليلاً جدًا وعينيها بنيه فاتحه تتناغم مع ضوء الشمس وتعطيكم لون عسلى مميز و بشرتها برونزيه بسمار عربى اصيل او امازيغى المهم انه يصرخ بوراثتها من اجدادها الاصلين وشعرها داكن كقطعه من سماء الليل غير مسترسل ولا مجعد ، اما طارق فهو طويل بعض الشئ بعينين زرقاء وشعر مموج بعض الشىء ويميل للبشره الفاتحه وقد كان نسخه من خديجه لا يختلفان فى اى شئ سوى ان خديجه قصيره بعض الشىء .
وكان العمل فى الحياكة هو سر الشهره فى احياء مدريد المتوسطة فاليزبيث _خديجه _ افضل من يجيد الحياكه فى مدريد وعن تجربة من نُبلاء المدينه بالاضافه الى رعى بعض الاغنام القلائل التى تدر عليهم بعض الحليب والاصواف وحكمت ايضًا قابله وقد ورثت مهنتها عن جدها لابيها .ولكن مهلاً مهلاً ما هذه الضجه القادمه من المطبخ ؟! اوه! ليس ثانيةً يا اخيلا! الوغد الصغير يسرق الحلوى التى اعدتها للتو حكمت .
وها هي الان تركد خلفه الى حجرة المعيشة صارخه بضيق قائله : اخيلا ايها السارق تعال الى هنا !
وقف اخيلا خلف احد كراسى الطاوله الصغيره وحكمت خلف اخر وقد تكلم باستعطاف : جوليانا ارجوكى قطعه صغيره لن تنهى الطبق .
ضربت على احد قمم الكراسي قائله : ولكننا اتفقنا سنأكلها فى المساء عندما تعود من الكنيسة … ولتعلم هذا من نصيبك ليست زائده عن الحاجة اتفقنا .
ضيق عينيه و نظر اليها فى ضيق وغيظ قائلاً : لا اعلم كيف اشكر كرم اخلاقك هذا … بحق الرب من سيتزوج منكى ايتها البخيلة.
احمرت وجنتيها غضبًا وهم بالجرى خلفه قائله فى غضب : ايها الوغد الصغير ساقتلك .
هرب طارق _ اخيلا _ من امامها وهى من ورائه حتى اختبئ خلف خديجه _ اليزابيث _ التى خرجت من توها من سرداب البيت بيدها بعض ثمرات البطاطس ووقفت امام حكمت _ جوليانا _ وردعتها عن موقفها قائله فى هدوء : اخيكى الصغير لم يقصد ذلك.
ثم التفتت الى طارق قائله : هيا يا اخيلا اعتذر من اختك الكبيره .
وتخبره ان يعتذر! وأكثر ما يكره ان يعتذر وهو ذو الشان والكبرياء لا يعتذر . وما ان وقف امام حكمت مطاطا الراس احمر العينين من الغضب وقد ابتسمت حكمت فى نصر وسرور وها هو الان على شفا حفرة من الاعتذار لكن انقلب النصر الى هزيمه والسرور الى ضيق عندما جاء اصدقاء اخيلا يطرقون الباب وينادون على اسمه ويهتفون بانه قد تاخر على الكنيسه وستبدا الدروس من غيرهم .
نظر طارق الى حكمت فى شماته ثم فر الى غرفته يبدل ملابسه ويحضر قراطيسه و اقلامه وصليبه ومن خلفه خديجه التى اسود وجهها و هبطت بعض الدموع من عينيها من دون ارادتها مثل كل مره يذهب فيها الى الكنيسه من دون المسجد وقد حذرتها حكمت من هذا الامر من دون فائده حتى لا يشك الصغير فى امرهم و لكن لا حياة لمن تُنادى و بالفعل هذا ما يحدث كل مره و ياتى طارق و يسالها ” لماذا تبكى امى دائمًا و انا ذاهب الى الكنيسه؟ ” و يكون الجواب الاحمق و الحجه غير المقنعه “هى فقط تشتاق اليك” فى البدايه كان يقتنع ولكن عندما كبر بعض الشىء باتت تلك الحجج غير مقنعه ودائمًا ما يساوره الشك فى هذا البكاء غير المبرر.
أمالت حكمت راسها ونظرت الى خديجه بنظره ذات مغزى معناها اسكتى امى ثم التقطت ايشارب صغير لفتها حول شعرها و كانت تلك من عادات النساء الاوروبيات فى القرون الوسطى قبل ثورة سجمن فرويد الجنسية بعد مئة عام .
فتحت الباب تستقبل ذلك الفيف من اصدقاء اخيلا وقد صاحوا فى نفس واحد ما ان ابتسمت لهم حكمت قائلين : مرحبًا انسه جوليانا كيف حالك ؟ ثم صاح فتى صغير يُدعى هكتور قائلاً بلهفه : اشتم رائحة الحلوى انسه جوليانا هل لى بقطعه .
ابتسمت حكمت و رحبت بهم وادخلتهم الى البيت قائله فى ود : بالطبع سيد هكتور والجميع سياكل منها .
صفق الاطفال بحماس وألقوا التحيه على خديجه التى بدورها ابتسمت وبادلتهم التحيه وقد خرج طارق حتى صاح فيه احد اصدقائه ويُدعى مارك قائلاً : يا رجل هيا سنتاخر .
ارتدى اخيلا حقيبته وأخذ قطعه من طبق الحلوى الذى فرقت منه حكمت عليهم ثم رحل معهم خارج البيت وهى تتابعه بالتلويح والأدعية بالعوده سالمًا ثم اغلقت الباب.
وما ان اغلقت الباب حتى انفجرت خديجه فى بكاء مرير وأجهشت بقوة وهى تخفى وجهها بين كفيها وقد رق قلب حكمت و تمزقت نياطه و هى تشعر بمثل تلك النار والحُرقه التى تنهش فى قلبها وهم مكبلون الايدى مكممون الافواه مغمضون الاعين مسلوبة حريتهم محرومه حقيقتهم من الظهور و العلانيه محرومون من العيش مثل اى شخص فى العالم يمارس شعائره الدينيه بكل حريه ويعيش حر من دون قيود حتى ولو كانت من ذهب .
جلست حكمت على رُكبتيها امامها و امسكت كفيها واببعدتهم عن وجهها و نظرت الى عينيها قائله فى هدوء وعقلانيه : امى بحق الله … لا تبكى انا اشعر باضعاف ما تشعرين به لكن البكاء لن يفيد لن يغير من الامر الواقع شىءً .
مسحت خديجه عينيها الحمراوتين قائله بقهر : وكيف لا ابكى ابنى و ليس ملكى حتى يتم العاشره وحتى وإن تم هل سيقبل بما سيسمعه من حقيقه … انظرى لحالنا … نخفى المصحف فى جُدران البيت … نصلى فى سرداب المنزل وفى الخفاء … لا يمكننا الوضوء الا مره واحده حتى لا نسرف فى استعمال الماء … لا نصوم رمضان بحريه وإنما خلسه … لا نحتفل بالعيد … لا نرتدى حجاب كامل … لا نقف تجاه القبله … وأنتِ لا يمكنك اخبار احد بآنكي تُجيدين الكتابه و القرائه إلا واتُهمتى بالهرطقة وفى جميع الاحوال نحن ميتون … اخبرينى كيف لا ابكى .
لثمت حكمت يديها قائله وقد تحجرت الدموع فى عينيها : حسبك يا امى … والله ان الله محدث فرجًا … ان الله لن يضيعًا لست انا من ساخبرك بذلك !!… … لا تبكى ارجوكى … ولا نفعل الشىء الوحدي المسموح به … نذهب لشراء الخيط و للعمل .
—————————————————————————————
وفى احد الكنائس بالعاصمه مدريد دخل الدوق حنا واخيه الاكبر بلايو الى الكنيسة للحاق بالصلاة قبل ان تبدا وكان الامر طبيعي بالنسبة ل “بلايو” اما حنا فليست من عاداته التردد على الكنيسة فيكفيه انه جندي من جنود الكنيسة ومن رؤساء الشرطي وأحد اهم اعمدة حفظ السلام فى مدريد وقد على شانه بالأخص بعد جهوده فى صد الجنود الفرنسيين وتخفيف سطوتهم عن مدريد.
ولكن هذا ليس مهم الان المهم الان هو أن جوليانا قادمه اليوم الى الكنيسة ولا احد يعلم كيف يخفق قلبه عندما فقط يشم انفع عطرها غير الفواح ولكن فى انفه رادار يلتقطه ولو على بعد الف الف فرسخ ، وما بلكم ان التقطت عينيه صورة فتوغرافية لوجهها الفريد من نوعه وجهها الخمري المشرب بحمرة الخجل الدائمة وعينيها الواسعة تلك وبالرغم من بساطة ملابسه التى تنتمى لطبقه الفلاحين الا انها اجمل فلاحة فى عينيه .
وقد تعرف عليها منذ قرابة العام عندما كانت فى قصره وكانت والدته تشترى منها بعض الثياب و المفروشات للأرضية و منذ تلك اللحظه لم ولن تخرج من راسه ابدًا _بالمناسبه هذه ليست المره الاولى التى تعرف فيها على حكمت خمنوا أنتم لأن الحقيقة الى الآن غير كامله _وكلما سنحت له الفرصه راقبها من دون ان تراه أو ذهب الى الكنيسة بحجة الصلاه وهو بالأصل يذهب لاختلاس بعض النظرات اليها.
وها هو الان دخل الكنيسة وعليه ردائه الاحمر من الفرو الفاخر وسيفه المزين غمده بالجواهر والذهب ورائحه عطره الفواح ومن خلفه بلايو الذى فاق حنا فى زيه ومشيته وخيلاء اخيه، وكيف لا وبلايو لا يرقى لان يلبس شئ اقل من من هم حوله حتى لو كان اخيه هو وحده يجب ان يكون أعلى من الجميع.
وأول ما نظر اليه حنا هو جوليانا التى ما أن ألتقت أعينهم حتى أخفضت رأسها فى خجل و قد أرتفع شاربه ولحيته ليدل على أنه أبتسم من دون اراده ولم تغادر زرقاوتيه جلستها حتى بعد ان بداءة الصلوات لا يزال يراها ولحظه العسر امحته خديجه التى نظرت له بنظره ناريه وبدلت جلستها بعيداً مع حكمت حتى تُخفيها عن عينيه وها هى الان تحرمه من متعته فى الدنيا وتقف حائل بينهم ولكن لا يعلم هذا الحنا أن هناك حائل اكبر وأعظم من مجرد خديجه !
ويا ليت أعين خديجه فقط من كانت تراقبهم بل هناك زوجين من الاعين الغائرة بين عظام وثنايا جلد الوجه لأمره تُدعى كاترينا تعمل بالخياطه والحياكة هى الأخرى و لكن اقل شهره ومهاره من خديجه وقد كانت تكن لها العداء والغيره هى وابنائها و تنتظر اللحظه المناسبه التى ستنهى فيها مملكتها الصغيرها و تكسر انفها الشامخ وتنزع محبتها من بين قلوب العامه سواها !!
—————————————————————————————
انتهت الصلوات وانتهت معها نظرات المُختلس حنا وقد ذهبت حكمت وخديجه الى احد دكاكين بيع الخيوط ومستلزمات الحياكة والتطريز ومن خلفهم اخيلا وبعض اصدقائه الذين يسكنون بجانبه وقرروا اللعب معه فى الطريق حتى الوصول الى منزلهم ومن خلف كل هؤلاء حنا وقد تخلف عنه بلايو وجلس فى الكنيسه قليلاً .
وقفت خديجه تنتقى الوان الخيوط وتُفاصل فى اسعارها مع البائع و من خلفها حكمت قد وقفت على عتبة الباب ووضعت يديها فقى جيب فستانها الاسبانى الابيض ذو الكشكشه من عند الصدر وواسع من الاسفل وخلط ما بين اللون الاحمر و الزرق وأخذت فى العبث بحصى الارض بطرف حذائها ومن خلفها اخيلا وزملائه والان انضم اليها حنا الذى وقف امامها ومن دون اراده نظرت له بعينيها التى لمعت مع ضوء الشمس الذى وبللت شفتيها قائله فى توتور بعض الشئ : خير دوق حنا ؟
آه من حنا تلك التى تعتبر اطرب واشجى ما سمعه وكان اسمه صار عسلاً صافيًا يأكله بأذنه وقلبه .
حك حنا لحينه الكثيفة تلك بيده اليمنى قائلاً : اسف على ازعاجك لكن امى قد اخذت منكم قبل عام سجاده وكنزه شتويه وأنتِ ترين الجو متقلب وقد اقبل الشتاء فتحتاج الى بعض الملابس وأخبرتني ان اخبركم بها … وعرس ايفا على الأبواب فتحتاج إلى تفصيل الفستان وبعض الأغراض.
حاولت ان لا تظهر الشك فى أفعاله وقد كانت تلك اسخف حجه سمعتها حتى يراها إلى الآن وانه بقدرة ومنزلته وعظمته يعطها ورقه كان من الممكن ان تخبرها بها اى خادمه من القصر لكن هزت راسها بنعم قائله فى هدوء : انا تحت امر السنيورة مارلين ماذا تحتاج؟
أشار لها بأصبعه بمعنى لحظة ثم عبث فى جيب ردائه ثم اخرج ورقه صغيره قائلاً وهو يمد يده بها : قد كتبت ما تحتاك هنا دعى اخيلا يقراها وإذا سمحتى ستمر عليكم العربه بعد اسبوع وتقلكم الى منزلنا .
التقطت الورقه من بين اصابعه قائله وقد احمرت حتى اذنيها : لا داعى لهذا يمكننا المجيئ من دون عربه .
امسك يدها متعمدًا قائلاً فى اصرار : ارجوكى انا مصر و كما تعلمين البيت فى اقاصى المدينه.
ثم سحبت يدها بسرعه و قد ازداد خجلها بشده وهزت راسها بنعم ولم تلقى حتى التحية عليه بل فرت الى داخل الدكان هاربه من نظراته الى امها التى اخذت فى محاسبة التاجر وما ان رائت ابنتها ونظرت الى حنا حتى فهمت انه وراء حالة الخجل تلك .
وبمنتهى التبجح حياها ثم اتجه الى عربته التى تجرها الخيول . ومن داخل خديجه كانت تتوعد الى هذا حنا بالوف تهديد و وعيد لانه تجرا و اقترب من صغيرتها ولكن ما تعلمه المسكينه ان لا يوجد ايًا من تهديداتها تلك ستتحقق على ارض الواقع .
—————————————————————————————
حول مائده صغيره فى المساء جلست الأسرة الصغيرة حول المائدة وقد شرعت فى تناول الطعام بعد يوم حافل ملئ بالأعمال الكثيرة وقد جمعت حكمت كم ليس بالقليل من الاعمال التى ستسلمها خلال الاسبوع المقبل وكان اشد ما يُقلقها هو الذهاب الى عرين الاسد وجحر الافعى وهو بيت الدوق حنا ابن احد اكبر رؤساء محاكم التفتيش سابقًا وهى التى تخفى ما يودى بحياتها وحياة من تحب ستذهب اليهم خلال الاسبوع المقبل وعقلها يصور افكار بشعه للغاية . ماذا ان انكشف امرهم ؟! ماذا ان اعترفت امها ؟! ماذا سيحل بطارق و بهم ؟ ماذا سيكون الحكم عليهم ؟ ماذا ؟ ماذا ؟ ماذا ؟ ولكن بمقص من فولاذ قطع اخيلا افكارها وسكب عليها دلو من ماء بارد عندما تسال بخبث قائلاً وعينيه تلمع بالمكر : جوليانا هل ستتزوجين من الدوق حنا ؟
شهقت بفزع وأخذت فى السُعال بشده وقد انحشر الطعام فى حلقها واضف على هذا شعورها بالخجل والغضب يلم بها من كل جانب وقد اشفقت عليها خديجه وأخذت فى اعطائها الماء والضرب بخفه على ظهرها وألتفتت الى طارق قائله فى غضب وقد احمر وجهها لاذنها : اخيلا تادب هل جُننت مالنا ومال حنا هذا … اقسم ان تحدثت فى هذا الامر سأضربك وستكون تلك اول مره اضربك فيها .
ضرب طارق على الطاولة فى ضيق ووقف قائلاً :وماذا قُلت انه …. ااااا!
لم يكن اخيلا فقط من صرخ بل الجميع صرخ من صوت اطلاق النار من البنادق العسكرية و قد كانت البنادق آن ذاك من احدث الأسلحة في هذا الزمان والأوان .
هبت كلاً من خديجه وحكمت فى اطفاء الشموع وشد الستائر على النوافذ و دخلات خديجه ودخل طارق معها الى السرداب اما جوليانا اخذت فى استراق النظر من خلف الستار وقد كان كما توقعت اشتباك بين الجنود الفرنسيين و الاسبانيين اودى بسقوط قتليين من الطرفين وحدوث كر وفر فى الشارع من قبل المدنين .
زفرت حكمت فى ضيق وجلست على الطاوله مره اخرى ثم تسللت يدها الى ورقه الصقتها بقوه فى الطاوله من اسفل وسحبتها فى هدوء وقد كانتتقويم لحساب ايام السنه وما تبقى حتى ينفذوا من هذا الجحيم ويذهب هذا الكبوس ولكن يا حكمت هل حقاً ستهربين وتنجين من هذا الجحيم المستعر ؟!!!
ثم اخفت الورقه سريعًا فى داخل ملابسها عندما دُق باب البيت من قبل مجهول من ما جعل من وجهها شاحب بشده وقد بردت اطرافها وأرتعشت وتفصد جبينها عرقًا وخرج من السرداب كلاً من خديجه وطارق على اثر تلك الطرقات وحالهم لا يقل رعبًا عنها. فضلت الصمت حتى يمل الطارق ولكن لا فائدة.
وقفت وأقتربت من الباب بخطوات مضربه ودنت باذنها من الباب حتى تسمع صوت الطارق وأخيرًا زفرة انفاسه براحه وهدأت بعض الشىء عندما افصح الطارق عن هويته قائلاً: سيده اليزبيث هذا انا العم جورج ومعى زوجتى الينور وجورجيوس .
همست باسمه من بين شفتيها المرتعشه بامل كالذى تمسك بدرع من حديد وفولاذ يحميه من ضربات السيوف ووابل الالم. ولما لا تامل الخير وجورج هو شيخهم محمد وزوجته فاطمه وابنه اسلم ذى الخمسة عشر عامًا هم اولياء امورهم ومن يشرف على عباداتهم وهروبهم و تنظيم شؤونهم فى هذه البلاد الموحشه .
دارت شعرها بالوشاح الاسود ثم فتحت الباب وأدخلتهم سريعًا قائله بقلق: عم جورج خاله الينور هل انتم بخير؟
هز جورج راسه الاشيب بنعم وخلع نعليه ومن خلفه زوجته التى تحدثت بهدوء قائله: بخير ابنتى الحمد لله نحن كنا عائدون الى البيت لكن استوقفنا هذا الطلق النارى … فاوجسنا خيفة عليكم . هل انتم بخير ؟!
هزت راسها بنعم وادخلتهم غرفة المعيشه ومن خلفها اخيلا واليزبيث التى جلست على الكرسى المقابل للاريكه وقد رحبت بهم ثم اشارت الى حكمت واخيلا ومن بعدهم ” جورجيوس” أو اسلم ابن العم جورج قائله : اذهبا مع جوليانا واحضروا بعض الكعك والشاى هيا انطلقوا .
فهمت حكمت ان خديجه تريد التحدث مع جورج على انفراد ومع زوجته ثم اتجهت الى المطبخ مع اسلم وطارق وقد شرع طارق فى اللعب مع الم بالسيوف الخشبيه وقد ارتدوا قبعات من الورق وأخذوا فى التصارع ومن خلفهم حكمت التى كانت تنظر الى براد الشاى الذى بدا فى الغليان بشرود تام ولم يلتقى جفنيها لثوانى وهى تعود بذاكرتها الى الوراء لعام مضى وتتذكر تلك الليله التى احدثت ضجه فى حياتها هى بغنى عنها وقد كان السبب………
بالطبع لن اروى فضولكم وشغفكم بمعرفة ماذا حدث منذ عام ليس الان ان كنتم تريدون المعرفه فانتظروا قليلًا يا فضولين فى الفصل القادم …دمتم فى امان الله.
يُتبع …..