وسقطت حكمت

وسقطت حكمت 5

وسقطت حكمت 5 نظرت إلى قدمها المغطاة بخط أسود اللون وعليه رقعة بنية قديمة وجورب أسود، ثم عاودت النظر إليها، وقد فتحت الباب قليلاً من دون أن تدخلها، وقد أزاحت الأخرى قدمها العظمية شديدة النحافة تلك، ووقفت قُبيل حكمت والباب و، لكن عينيها لم تنظر إلى حكمة أو للباب حتى، بل إلى ما ظهر من البيت من خلف جسد حكمت والباب، وأخذت تتفحص وتتمحص البيت وما تراه لعلها تجد أي شيء يسد باب الفضول، ويشبع جوع وحش الإثارة عندها.

ولكن حكمة كانت لها بالمرصاد حيث خرجت لها خارج البيت، وغلقت الباب، ثم وقفت قُبيلها قائلة في هدوء: أجل خاله كاترينا ما الأمر؟

نظرت إليه متصنعة الحزن والعتاب قائلة، وهي تمط شفتيها البنية: ما الأمر ألن تدعيني أدخل يا سمراء؟

قلبت حكمت عينيها في محاولة للتمسك بأخلاقها وهدوئها قائله: أخبرتك ألف مرة أنا لست سمراء أنا حنطية هناك فرق… وعذرًا منكي، لكن البيت غير مرتب… تفضلي أسمعك.

رفعت كتفيها قائلة بابتسامة سمجة أبرزت ذلك الكسر في أحد أنياب فكها العلوي: أبداً جات كي اسأل عن إليزبيث لم أرها منذ زمن… قد تكون غاضبة مني.

ابتسمت حكمت باصفرار، ولم تصل الابتسامة إلى أذنيها قائلة: ولما ستغضبك منكي… جدي قد توفي واضطرت للسفر مع أخيها إلى غرناطة لإقامة العزاء ومراسم الدفن… وسيعودون قريبًا.

هزت كاترينا رأسها، ثم تصنعت الحزن قائلة، وهي تربت على كتف حكمت: لم أكن أعلم يا سمراء… تعازي الحارة لكي… أن احتجت أي شيء بيتي في وجه بيتك لا تخجلي مني.

هزت حكمت رأسها، وعلى شفتيها نفس ذات الابتسامة الصفراء قائلة: بالطبع خالتي لا خجل بيننا ثم أنا لست سمراء أخبرتك أكثر من مرة.

ثم أولتها ظهرها لتنهي هذا الحوار قائلة: عن إذنك لدي عمل كثير.

“بالطبع، فليرعاكى الرب” ثم همت كاترينا بالخروج من سور البيت الصغير الخشبي، وقد دخلت حكمت البيت، لكنها استدارت بهلع، وقد اصفر وجهها لدرجة أن طعنتها بسيف لن تنزف بسبب هروب الدم من جسدها عندما صاحت كاترينا قائله بغرض استفزازها: العربة التي كانت أم البيت رائعة يا سمراء.

التفتت ببطء تنظر إلى كاترينا و، لكن قد رحلت من أمام البيت، واتجهت إلى بيتها. فكرت في أن تنادي عليها، وأن تشرح لها الأمر أو أن تخترع أي حجة أو كذبه تبعد أي شيء تفكر فيه عنها، وأن تبعدها عن دائرة الشُبهات، لكن ذرة عقل بها أوقفتها من الإقدام على تلك الحماقة التي، وإن كانت هناك أي شكوك حولها ستثبتها بحديثها، وقد آثرت أن تتصنع عدم السماع، وتغلق عليها باب بيتها أفضل من إثارة الضجة والشوشرة.

—————————————————————————————

دخلت إلى البيت، وأغلقت الباب، وقد استندت إلى الباب بظهرها، وأخذت تقلب عينيها يمينًا ويسارا، وقد اتسعت حدقتاها بقوة تزامنًا مع ارتفاع وانخفاض صدرها بقوة مع وتيرة أنفاسها العالية جراء هذا الضغط الذي تعرضت له منذ قليل.

زفرت الهواء بقوة لمرة أخيرة، ثم تذكّرت وجود حنا في الغرفة الذي بالتأكيد قلق هو الآخر.

اتجهت إلى غرفته، وفتحتها بالمفتاح، ثم طرقت حتى سمح لها بالدخول.

كان جالسًا على السرير ينتظر قدومها بفارغ الصبر وما إن دخلت حتى وقف على قدمه قائلاً في لهفة وقلق: ماذا حدث معك؟ ما الأمر؟

طمأنته بهدوء وهي ما تزال واقفة عند باب الغرفة قائلة وعيناها لم تترك أرضية الغرفة: لا تقلق لم يحدث شيء الأول كانت ابنة جارتي مريضة داويتها وانتهى الأمر لكن… لكن جارتي كاترينا تلك أثارت قلقي.

قطب جبينه، والتحم حاجباه قائلاً: ماذا حدث؟ تكلمي يا جوليانا.

حركت يداها في الهواء تزامنًا مع كتفيها الذين رفعتهما بهدوء قائلة: قالت لي العربة التي كانت تقف أمام المنزل رائعة.

نظر إليها في قلق قائلاً، وقد ضيق عينيه: وماذا فعلتي؟

“لم أناقشها… رحلت إلى بيتها، وفضلت أن أتجاهل ما تتفوه به حتى لا أكد الأمر، أو أثير الشك”

زفر حنا أنفاسه بهدوء قائلاً براحة، وقد انبسطت معالم وجهه: الشكر للرب خيراً ما فعلتي.

هزت رأسها بهدوء، ثم بللت شفتيها قائلة، وقد رفعت كفها أمام وجهه، وضمت إصبع المشيرة على الإبهام: هل انتظرتني لحظة؟

هز رأسه بالإيجاب، وأشار إليها بيده قائلاً: تفضلي.

ذهبت من أمامه ناحية غرفتها، ثم جلس هو على السرير وهو ممسك بجرحه بألم طفيف زال فور جلوسه، وقد عادت مجددا وبين يديها بطانية من الصوف الأبيض، وقد مدت يدها تعطيها إلى حنا الذي رفع أحد حاجبيه بدهشة كانت إجابتها عندما قالت ووجنتاها تشتعلان خجلاً: آه. الجو بارد في هذه الغرفة… وقد فكرت لعل هذه البطانية تدفئك قليلاً قد صنعتها بنفسي… هذا صوف ماعز خالص من غزل أمي.

ابتسم بود حتى بانت نواجذه قائلاً بمرح، وهو يمسك به: شكرا لكي يا سمراء.

من دون إرادة منها، فلتت منها ضحكة صغيرة أبرزت غمازتيها، وبياض أسنانها وهو ينعتها بلقب تلك الشمطاء، لكن بمرح أعطاها حساً فكاهياً أخرجها من دوامة قلقها، وخجلها، لكنه ما لبث أن زاد خجلها عن السابق عندما تأمل تلك الضحكة الرنانة الشجية، وسمعها كلحن القيثار العذب، حتى تحدث بهدوء ونظرات ناعسة قائلاً: لديكي ابتسامة رائعة يا سمراء لا تخفيها أبدا.

هنا ستصمت قليلاً، وتختار أن تهز رأسها بتوتر، وتفر هاربة إلى منجم الأسرار غرفتها الصغيرة غافلة عن هذا العاشق الجديد في مدرسة الحب، وقد بدأ يختبر أو دروسها منذ أن دخل هذا البيت الصغير.

رفع البطانية إلى شفتيه، وقد قبلها بهدوء، ثم استنشق منها الهواء، وزفره ببطء وهدوء قائلاً بهمس لا يسمعه أحد: عن قريب ستصبحين الدوقة السمراء يا سمراء.

يا لك من مسكين يا حنا، ويا لك من تعيسة يا حكمت!!

————————————————————————————

في الليل المظلم على أرض مدريد والأعين نائمة في سبات عميق كانت هناك عينان نائمة في راحة وأمان تنعم بالدفء والاهتمام، لكن لم تدم تلك الراحة، ولم يدم هذا الدفيء، فقد استيقظت تلك العينان الزرقاء المزينة بالأهداب البنية التابعة لحنا الذي استيقظ من نومه بسبب طرق مستمر على باب غرفته الصغيرة في بيت الدفيء هذا.

اعتدال في جلسته على السرير، وهو يمسح عينيه يزيل منها أثر النعاس والنوم، ثم سمح للطارق بالدخول، ولم يكن سوى حكمة التي كانت ترتدي فستاناً للنوم بسيطاً باللون الأبيض، وقد كان بأكمام كاملة وبغطاء للشعر مثيل للون الفستان.

تلاعبت بأصابعها، ثم نظرت إليه قائلة في تردد وخجل: أريد أن أتحدث معك هل ممكن؟

أفسح لها مكاناً على الفراش الصغير، حتى تجلس جانبه، ثم ربط على المكان قائلاً: تفضلي بالطبع.

فاجأته بقبولها الجلوس إلى جواره، وقد اعتاد جلوسها في غرفتها منذ أن وصل إلى بيتها، ولا تقترب منه حتى في أثناء الطعام بات يأكل وحده والدواء يأخذه وحده، وكان وجودها أصبح مهمشًا في بيتها.

جلست إلى جواره، ثم نظرت إلى عينيه ليصطدم بتلك العينين البنية الفاتحة الساحرة، وصفي الأهداب الكثيفة هذين الآن فجرا في داخله شلالًا عنيفًا للغاية من الأحاسيس وكأنها اختصرت أنوثة وجمال نساء الأرض في عينيها فقط… وكأن الرب أبدع في خلق عينيها لخسارة دون عن جمال السماء والأرض بتلك العينين فقط!!

همست بنبرة صوت مكسورة وحزينة: أنا خائفة… أحميني أرجوك… لا ملجأ ولا عائذ من دون الرب سواك.

أمسك كفيها الصغيرين بين كفيه الضخمين_ الذين امتازا بالقساوة والقوة_ قائلاً في قلق: ما الأمر؟ ما الذي يخيفك أخبريني ولا تقلقلي؟

لمعت عيناها بدموع متحجرة أبت النزول والرضوخ أنا أن عينها اليمنى دون اليسرى قد خانت العهد، ونزلت دموعها الساخنة بقوة من دون سابق إنذار لتمتد أنامله الخشنة تمسح دمعتها من فوق وجنتها الحنطية المشربة بالحمرة، وقد أراحت وجنتها على دفئ باطن كف يده من ما استحثه على الكلام قائلاً في رجاء: لا تخفيني عليك أخبريني ماذا يحدث معك؟

فاجأته برمي نفسها في أحضانه بقوة، وقد بدأت في الإجهاش بالبكاء بقوة، وهي تتمسك بقميصه بقوة أكبر تستمد منه الأمان والدفء الذي هرب منها منذ أن كانت في العاشرة من عمرها، وانقلبت حياتها من حياة بسيطة إلى حياة يغزونها الرعب والخوف من أن يكتشف أحد دينها الأصلي، وتتعرض للتعنيف أو الموت وهو أبسط حقيقة في أن تختار من تعبد وأي دين تتبعه، لكن لما تلوم نفسها، ولا تلوم ملوك الطوائف الذين أضاعوا الأندلس في زمن شقوتهم وتشتتهم؟!

تكلمت من بين شهقاتها، وقد دفنت رأسها في صدره العريض قائلة: أنا… أنا خائفة… خائفة من كل شيء… كل شيء حولي ضدي… أنا أحتاج إلى الأمان… و…. ولا أجده.

ثم رفعت وجهها الباكي الغارق في العبر الساخنة، ونظرت إلى عينيه قائلة بكل معاني الألم والضيق: هل يمكن أن تكون أماني… هل يمكن أن تحميني من خوفي… تمسح عن قلبي حزني وألمي… هل يمكن أن تكون حنونًا على وعلى قلبي… هل يمكن؟!!

ومع آخر كلمة قالتها كانت قد أثارت فيه مشاعر القلق والأمل. الحب والخوف… الأبوة والحنان… لا يصدق أن جوليانا تطلب منه هو فقط دونًا عن رجال الأرض جميعًا تضع به الثقة والأمل… وكأنه يملك الأرض ومن فيها وما عليها الآن ولا سلطان مثله الآن!

جذب رأسها إلى صدره بقوة، وزاد حدة عناقه، وكان هذا العناق أول درجات الأمن والحنان والأمل، وإمضاء صك الحماية الأبدي الذي فرضه على نفسه ويال نعمته والنعم بأن يكون مسؤولًا عنها وعن حياتها التي منذ الآن باتت جزء كبير من حياته.

أراح رأسه على رأسها، وأخذ يمسح بيده على ظهرها بحنان وهدوء قائلاً: أقسم بكل ما هو مقدس أن أكون لك كل ما تريدين وأكثر وما دمت حيًا، وبي الروح لن أتخلى عنكِ أبداً.

رفعت وجهها، ونظرت إليه قليلاً بهدوء وغموض لم يستطع تفسيره، وقد ظلت متعلقة به بنفس الحدة والقوة من دون كلل أو ملل، حتى دبت به الرعب من صمتها هذا الذي انتهى بنظرها إلى نافذة الغرفة الصغيرة قائلة في غموض: لكن هؤلاء لن يتركونا وشأننا.

قطب جبينه بشدة، وازدادت قسوة ملامحه وهو ينظر إلى النافذة وإذ به يرى أشباحاً سوداء تقف على النافذة تمسك بطبول عالية، وتقرعها بقوة عالية، وترقص بطريقة مخيفة، وأنظارها ناحية الغرفة. التفت إلى جوليانا في هلع، لكن أحضانه كانت فارغة من ما دفعه للقفز بسرعة من سريره غير عابئ بجرحه، وأخذ يطوف حول نفسه يبحث عنها حتى ارتفع صوت الأشباح، وصارت تضحك بقوة وهستيرية مرعبة ورنانة والقرع يزيد وما إن نظر إليهم حتى وجد جوليانا بينهم مكبلة الأيدي تنظر إليه بصمت، واستسلام مخزي، ولا تتحرك وما إن ركد ناحية النافذة حتى اختفت جوليانا والأشباح، وتكسروا إلى شظايا زجاج، وطاروا وتناثروا في الهواء تزامنًا مع تلك الرياح العالية التي هبت بقوة، وأخذت في نثرهم في الأجواء وآخر ما فعله أن صرخ باسمها عاليًا من بلا جدوى لينتفض من نومه على صوت طرق عال على باب غرفته وأصوات إطلاق أعيرة نارية وصراخ وعويل في أرجاء الحي من حوله.

فتح الباب إذ بحكم تقف أمامه وبيدها مصباح جاز، وقد أمسكت يده بسرعة، وهي تسير ناحية رواق آخره باب قائلة في خفوت وهلع: جنود الكنيسة يبحثون عن فرنسي قتل جندي إسباني، ويختبأ في أحد البيوت هيا ادخل إلى المخزن ستجد بابين أسفل السجادة افتح الذي على اليسار، وأغلقه من الداخل، واختبأ بين أجولة البطاطس والبصل هيا بسرعة، ولا تصدر صوتًا وأنا سأغلق الباب من الخارج… ثم دفعته وهي تعطيه المفتاح والمصباح و، لكنه أبى أن يذهب قائلاً بهمس وعصبية: أنا لن أتركك وأذهب لأي مكان.

دفعته بقوة إلى داخل المخزن قائلة بعصبية أكبر وقلق: اسمع الكلام إن وجدك أحد ستكون فضيحة، ولن تستطيع إثبات أنك إسباني هيا أنا سأتولى أمري.

دفعته بقوة، وغلقت الباب من خلفه بالمفتاح، ثم ألقت به في سلة القمامة، وأغلقت الحقيبة السوداء التي بها القمامة وهنا قد حان دور منزلها من التفتيش والبحث والعبث عندما علت الطرقات القوية على باب البيت.

أمسكت بمصباح جاز آخر، وهرولت إلى الباب، ثم أخذت نفساً عالياً، ثم أطلقته بقوة حتى تهدأ ثم فتحت الباب، وكان الباب سداً منيع تكسر وانفجر الماء، وانهمر من خلفه. وفي لمح البصر قد تعبئ البيت بالجنود، وبدأ للعبث، ثم وقفت أمام كبيرهم قائلة: ماذا يحدث… لا أحد معي بالمنزل… كيف تجرأ على اقتحام بيتي في هذا الوقت المتأخر من الليل.

دفعة كبيرهم، وقد تخطاها ووقف في منتصف المنزل ينظر حوله إلى أبواب ومداخل ومخارج البيت والغرف والجنود المنتشرين في كل زاوية ودهليز في البيت لا ينفكون عن قلب المنزل رأسا على عقب.

كانت جوليانا تقف خلف هذا الجندي تمسك بمصباح الجاز متجهمة الملامح مسودة الوجه تراقب كل هذا بصمت غاضب وخائف في الوقت ذاته، غضبًا على حرمة منزلها المنتهكة وخوفًا على حنا، ومن الفضيحة والعار الذي سيلازمانها طوال عمرها إذا لم يجبرها السكان على مغادرة الحي إذا انكشف أمرها والأمر والنهي لو اكتشفوا مكان المصحف الشريف، أو كتب الحديث النبوي أو التاريخ الأندلسي، أو تلك الأوراق التي خطتها بيديها باللغة العربية الفصحى وما سيجر عليها ما هو أبشع من الفضيحة ومغادرة السكن. لكن ليس هذا ولا ذاك ما يجول بذهنها، بل ما يحدث الآن أن تلك الدماء المسلمة الحرة الأبية اندفعت وتدفقت بقوة في شراينها و اورداتها، وأبت ما يحدث الآن. إذ كان الجنود يفتشون غرفتها، وقد تقدم أحدهم من خزانة ملابسها، واقترب من ملابسها الخاصة هنا وضعت مصباح الجاز على الطاولة بعشوائية، وقد كان يتبعها كبيرهم بعينيه وخطوات بطيئة، حتى وصل إلى باب الغرفة عندما دخلت غرفتها، واقتربت من الجندي بسرعة الطلق الناري، وقد وقفت أمامه قائلة، وهي تحاول التخلي عن تلك الحدة: إذا سمحت هذا الدرج به ملابسي الخاصة لا يمكنك تفتيشه.

أمسكها من ذراعها هذا للجندي، وأزاحها من مكانها أمامه، وقد هم بالتفتيش قائلاً بقسوة: أوامر البابا والكنيسة لا تناقش.

أمسكت جوليانا يده التي تمسك مقبض الدرج قائلة في عناد: لكن حرمات الرب أهم من أوامر البابا والكنيسة، وأنت تتعدى على حرمات الرب… أخبرت سيداتكم هذه ملابسي الخاصة.

لم تتلق جواب سوى صفعة قوية هبطت على وجنته اليمنى بقوة كبيرة اصمت أذن الواقفين، وأسقطت حكمت أرضا تزامنًا مع تلك الدماء التي تدفقت وانبثقت بقوة من شفتيها لتلطخ فستان النوم الأبيض والأرض من حولها، وعلى عكس ما هو متوقع أن تبكي أو تظل أرضا، أو تشعر بالرعب، بل وقفت على قدميها والدماء تسيل من جانب فمها غير مهتمة لما حدث منذ لحظة وجيزة، وأخذت تنظر إلى هذا الجندي والشرر الحر يتطاير من عينيها، وكان نيران العالم تجمعت في عينيها فقط لتعطي هذا الجندي نظرة نارية، وقد قطبت جبينها، واتسعت حدقتاها المكحلة لتتناغم مع سواد عينيها والضوء الأحمر الخافت في الغرفة وكم أرعبته تلك النظرة، ولو أن الكاميرا كانت في هذا الزمن لصورها، وعلقها كأكثر صورة مرعبة لهذا العام، لكن تلك البطلة الجزائرية الحرة التي جاءت بعد حكمت بقرن استحقت هذا اللقب عن جدارة بشهادة العسكري الفرنسي الذي صورها والآخر الذي أعدمها.

وقد تركت حدة نظراتها عندما جذبها جندي آخر من ذراعها بقوة إلى باب المخزن، وقد أشار إليها قائلاً بأمر حازم: افتحي الباب.

رفعت رأسها بشموخ قائله بتحد: اكسره المفتاح ضائع منذ سنوات.

رجع هذا الجندي عدة خطوات للخلف، ثم أشهر سلاحه الناري إلى القفل، ثم أطلق رصاصتين حتى انحل قبل الباب، وفتحه ودخله وهنا، رغم الشموخ والتحدي، إلا أن الدماء قد هربت من وجهها، وشحب وشعرت بجفاف حلقها بشدة عندما وقف كبيرهم فوق السجادة التي من تحتها بابي السرداب، ومن تحت أحدهم حنا الذي الآن بين يدي الله يستمع إلى دبيب تلك الخطوات فوقه والرجل والأيدي التي تعبث ببعض الأغراض من فوقه، ولو أزاح أحدهم السجادة لوجده، وإنه لمن المدركين.

أخذت حكمة تردد في سرها قائلة “وجعلنا من بين أيديهم سداً، ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون”… إن الله معنا… أن الله معنا… أن الله معنا.

وقد أخذ الجنود بالعبث في أجولة البطاطس والبصل وبعض الخيوط القديمة والحطب وسيوف قديمة متكسرة قد أكلها الصدأ وأرجوحة خشبية على شكل حصان للأطفال وبعض المفروشات القديمة التي أكلتها الفاران وحشرة القماش.

وقد انتهى العبث أخيرا، وتنفست حكمت بحرية عندما صاح أحد الجنود قائلاً بعد أن وقف أمام كبيرهم يلقي عليه التحية العسكرية: لم نجد شيئاً سيدي.

“انسحبوا إلى البيت التالي وافتحوا عيونكم جيدًا”

ألقى الجندي التحية العسكرية، وقد بدأوا بالمغادرة في نظام عسكري محدد ككتائب صغيرة ومقسمة إلا كبيرهم ظل يتبادل نظرات صامتة مع حكمة لا معنى لها سوى أن تلك الفتاة لن تجر على نفسها سوى الخراب.

هم هذا الرجل بالمغادرة، لكن شعر بأن تحت قدمه شيئاً يميل ويهبط كلما داسه.

نظر إلى قدمه واليها قائلاً بهدوء ماكر وخبيث: ما الذي تحت قدمي؟!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى