قصه الترعه كلنا عارفين في البلد أن اللي يقرب ناحية الترعة بليل بينتهي أمره، وطبعًا في حوادث كتير حصلت هي اللي ورا الكلام ده، سواء العيال الصغيرة اللي بيلعبوا قربها وبيختفوا ومش بيلاقوهم أو الرجالة الكبيرة اللي بيسمعوا صوت صريخهم جاي من ناحية الترعة بليل ولما يروحوا يشوفوهم ميلاقوش ليهم أثر.
الترعة شكلها بالنهار مخيف بالشجر الضخم اللي على ضفتها، والنخل المايل على جنبه ونازل الجريد يلامس المياه زي ما بيكون بينحني من الخوف. بليل بقى شكلها بيكون رعب أكتر بالأنوار اللي جاية من بعيد وبتنعكس على سطحه، والريحة الغريبة اللي بتخرج منه بليل بس وأصوات الصريخ الطويلة اللي بنسمعها فجأة.
رغم أننا في 2022 بس برضه الخوف لسه سايد، القشعرة بتحصل لما حد يعدي من جنبها، الخطوات بتتسارع لما نمر قدامها، لحد ما حصلت أغرب حاجة ممكن نتوقعها. الزرع على ضفاف الترعة بدأ يموت ويصفر، الحيوانات بقت تهرب من البيوت والحظاير وترمي نفسها في المياه وتموت! الغربان والبوم بقوا على شجر الكافور اللي حوالين الترعة واقفين ثابتين كأنهم مستنيين حاجة، والأغرب أننا من بيوتنا بنشوف بليل ظل أسود ضخم جدا طوله أمتار فوق الترعة كأنه شخص واقف بيبصلنا!
البيوت بتبعد عن الترعة حوالي 2 كيلو، والعائلات كتير عايشين في المكان، وطبعا مينفعش كلنا نمشي ونسيب بيوتنا علشان الترعة، وعلشان كده العائلات اجتمعت وقررت أنها تختار من كل أسرة كبيرة شاب وكلهم يروحوا يشوفوا اللي بيحصل إيه، وأنا، يوسف، كنت من ضمنهم بصفتي شاب من عيلة الرفاعي.
جهزنا معانا كشافات وحبال واتسلحنا بأسلحة بسيطة وروحنا، كنا 6 شباب، منا الشجاع والجبان، الذكي والغبي، بس يجمعنا أمر مباشر من الأهالي أننا نعرف اللي بيحصل، وصلنا الساعة 8 بليل، فرشنا ملايات على الأرض وقعدنا، اللي ولع سجاير واللي طلع شيشة واللي قعد باصص على المياه وسرحان، كل واحد في ملكوت، كلنا عارفين اللي بيحصل وحاسين أن أهالينا ضحوا بينا بس ليهم عذرهم علشان لو الوضع خطر يبقى نلحق كلنا نسيب المكان ونشوف حياتنا في بلد تانية.
“يوسف” نادى عليا ابن الدهشوري. “معاك يا سليم” رديت عليه. كان واقف ساند على الكافور ومولع سيجارة كيلوباترا وبينفخ فيها بتوتر وهو بيبص حواليه، تخين شوية، اعرفه من وانا صغير، فيه شوية خبث بس جدع وابن حلال.
“هو إحنا لو جرالنا حاجة أهالينا هيعرفوا إزاي”؟ سألني وهو بيبص على بيوت البلد بعيد. رديت عليه بثقة “هنتصل بيهم أو حد مننا يجري يروح يقولهم”.
هز راسه وسكت، بصيت ليه ولسه هكمل كلامي معاه علشان نضيع وقت لقيت زي ما تكون الشجرة بتنزل من فروعها حاجة بتنقط! قربت منه ومديت صباعي لقيت دم بينزل منها!
سليم بصلي بخوف وبص فوقه ونادى على الباقيين. “محمدين، محسن، علي، فواز” كلهم قربوا وبدأوا يبصوا لبعض. “أكيد في طير ميت فوق أو قطة أكلتها” قالها محسن، بس إحنا شايفين الفرع نفسه اللي بينقط!
“هطلع أشوف” قالها فواز وأتعلق في جذع الشجرة ولف نفسه وبدأ يطلع لحد ما وصل للفرع وبص عليه وقبل ما يكلمنا لقينا على وشه رعب رهيب!
بدأ يزوم زي ما يكون اتلبس، باصص في الخلا ناحية الترعة وعينه متثبتة وجسمه متخشب. “مالك يا واد” قالها علي، أكبر واحد فينا، فواز مردش، مسك الفرع بإيده جامد ووشه عليه رعب الدنيا، شاور بصباع بيرتجف ناحية الترعة، طلع صوت مكتوم زي ما يكون بيصرخ “جا جااي جااي علي عليي نا”. “هو ايه يا ابن المهبول” صرخ بيها محسن بعصبية وهو بيبص عليه بتوتر. فواز بدأ يتنفض، جسمه بدأ يسيب من الفرع، لو وقع هيتكسر! “خد بالك ياض” قولتها بزعيق، الشباب بدأوا يلفوا حوالين الشجرة، فكرت أطلع ألحقه بس أنا مش مرن زيه. فواز بص لتحت لينا وعينه جاحظة زي المصدوم وبلع ريقه وغمض عينه وهو بيردد حاجة بشفايفه مش سامعينها وبعدها صرخ جامد وساب الفرع ووقع قدامنا على الارض!
ملحقناش نمسكه، وقع ساكت على وشه، لفيناه وصرخنا كلنا! وشه كان أحمر زي الدم، وعينه مقلوعة!
“إيه ده! إيه ده! إيه ده يا محسن، ايه ده يا علي” رددها محمدين بانهيار، بصينا لبعض مش مستوعبين، عينه اختفت كأن حد نزعها من وشه! مفيش نبض، مفيش تنفس، فواز مات في ثواني قدام عينا بدون سبب!
طلعت الموبايل بسرعة أكلم أبويا، اتصلت مش بيرد! “حد يكلمهم” صرخت فيهم، طلعوا الموبايلات واتصلوا بس ملامحهم بتقول إن محدش بيرد عليهم!
سمعنا زي ما تكون الدنيا بتمطر، بصينا فوق لقينا الدم بينزل أكتر، غرق وشنا، هدومنا، بدأنا نصرخ، كده الموضوع فيه لعنة، مش هينفع نعيش في المكان ده، لازم نقول لأهالينا. “يلا نرجع، كفاية اللي راح” قالها علي وهو بيبص حواليه بخوف. بصينا لبعض واتفقنا في صمت أننا نهرب ونرجع البلد. علي سبقنا وبدأ يجري على الطريق ناحية البلد، شوفناه بعينا وصل لحد عامود الكهربا وبعدها اختفى وظهر جنبنا تاني!
“ايه ده” قالها مصدوم. “أنا رجعت تاني إزاي”! سألنا وإحنا مش مستوعبين، شوفناه بيجري بعيد وفجأة بقى جنبنا!
“في حاجة بتخرج من الترعة”! محسن قالها وهو بيشاور على المياه، بتطلع فقاقيع زي ما يكون حد بيتنفس تحتها! بتقرب للضفة، بتقرب منا، وقفنا مذهولين مستنيين نشوف ايه ده، الوحيد اللي حاول يجري تاني ويهرب كان محمدين، شوفته بيجري ناحية البلد وفجأة لقيت الأرض بيخرج منها دخان أسود غطاه.
صرخنا وجرينا عليه لقيناه اختفى! لسه بنحاول نستوعب هو راح فين لقينا حاجة بتخرج من الترعة، شخص! جسمه كلها قرف وزبالة متعلقة، طلع على الضفة بهدوء وقرب مننا وإحنا صرخنا!
كان محمدين! مات! بقه مفتوح ومنزوع زي ما يكون حد قطعه من وشه! قرب مننا وابتسم وبان عضم فكه. الصدمة خليتنا ثابتين مكانا، محدش اتحرك، محدش صرخ، بقنا مفتوح من الذهول، محمدين قرب مننا أكتر، وصل لحد علي، وقف قدامه، وأنا عايز أصرخ فيه أنه يهرب بس مش قادر، محمدين مسك علي، شده، علي حاول يهرب، صرخ، بدأ يستوعب، بصلي باستنجاد، عيطت بدون صوت، حاسس بقلبي هيقف من الخوف، محمدين شد علي أكتر معاه للترعة، محسن بدأ يستوعب اللي بيحصل وحاول يتدخل، قرب من محمدين وزقه جامد. محمدين بصله بوشه المشوه ودفعه في الأرض وكمل سحب علي للترعة وأنا واقف!
صرخات علي بتزيد، محسن حاول يقوم ينفذ صاحبه بس الأرض بدأ يخرج منها دود كتير غطاه، دود أسود طويل، صرخات الاتنين بتصم وداني، محمدين وصل للترعة ولسه بيشد علي، محسن بيقاوم الدود وبيقوم ينفض نفسه وهو بيدور زي المجنون، محمدين نزل الترعة بعلي والصريخ بيزيد، حاولت أدور على حاجة أنقذه بيها بس ملقتش، علي بدأ يختفي في الترعة وشوفت فقاقيع الهوا بتخرج على سطحها العفن وبعد ثواني اختفت!
محسن جنبي، بينهج، بيعيط، بيصرخ، بيبص حواليه بجنون، وانا جسمي بينتفض، الصمت حوالينا، الأهالي مش عارف فين، لوحدنا في لعنة مش عارفين سببها. حسيت بقطرات دم بتنزل أكتر من فوقنا بتغطينا، محسن بص ليا وقالي “أهالينا ضحوا بينا”! مفهمتش، بدأت أشوف في الترعة أشكال سودا بتعوم، جثة علي طفت فيها، جثة متحللة مش فاهم إزاي بس ودنها مش موجودة!
“أهالينا ضحوا بينا يا يوسف” صرخ بيها محسن وهو بيقعد على الأرض وحط إيده على راسه. كمل وهو بيعيط: “زمان أبويا قالي إن اخوه اتاخد فدا البلد، دلوقتي فهمت ليه كل جيل من الشباب بيموت منه 6، دلوقتي عرفت ليه أهالينا بعتونا”.
مش قادر استوعب اللي بيقوله! الأرض بتتهز، شايف قدامي خيال ضخم طوله أمتار بيتشكل قدامي فوق الترعة، بيقرب، وصل للضفة، غطى الشجر والنباتات والمياه وبقى فوقنا، محسن بص فوقه وغمض عينه، وفرد جسمه على الأرض يحضنها كأنه بيستخبى جواها، فضلت واقف مكاني محاولتش أهرب، حسيت ببرودة شديدة حواليا، صدري وجعني، شايف قدامي جسم محسن بيتنفض، الأرض بتتفتح تحته ببطء والطينة بتحاوطه، رفع راسه وبصلي وعينه كلها دموع، الطين بيخفي جسمه، غطى وشه، أخر حاجة شوفتها كانت عينه المدمعة والأرض بتقفل عليه!
اللي حصل خلاني فقدت القدرة على الشعور والتفكير، واقف مكاني، بينزل دم أكتر من فوقي، جثة محسن ظهرت قدامي في الترعة بتتهز ببطء، شايف من عندي جسمه المتحلل وأنفه اللي منزوعة، اللي بيموتنا بياخد من كل واحد فيهم جزء من جسمه، مبقاش غيري.
الظل فوقي، البرد بيزيد أكتر، سمعت صوت بيدوي في ودني “تقبلت قرابين الأهالي، حموا نفسهم من بطشي ولعنتي، اخترت الأنسب ليا، مش محتاجك، هترجع ليهم بس نسلك عليه الدور المرة اللي جاية”.
مفهمتش، الظل بدأ يلف فوقي، يدور، وصل فوق الترعة ونزل فجأة في مايتها واختفى.
حسيت بلطمة في عقلي وكل حاجة ضلمت.
………………………..
“حمدالله على السلامة يا واد” سمعتها بصوت أمي، قومت منفوض وبصيت حواليا زي المجنون. “فين الشباب، كلهم ماتوا يا اما”. قولتها بعياط، لقيتها بتبص ليا باستغراب “مين دول يا واد”!
رديت “محمدين وفواز ومحسن وعلي وسليم”، قاطعتني “ويطلعوا مين دول”! مفهمتش! قومت وأنا دايخ، طلعت من البيت، الشوارع فيها ناس، البيوت كل حاجة فيها طبيعية كأن محدش مات!
روحت بيت فواز، هو الأقرب من بيتي، خبطت، أمه فتحت. “فواز فين يا حاجة” سألتها، لقيتها بتقولي “فواز مين يا ابني”!
اخدت الكلمة وجسمي اتنفض، هو أنا كنت بحلم؟! الشباب كانوا معايا! ليه حاسس أن جسمي متكسر! معقول الأهالي ضحوا بعيالهم علشان خايفين من بطش الشيطان بتاع الترعة؟ معقول كنا أضحية ليهم علشان يعيشوا حياتهم بشكل طبيعي لحد ما يجي معياد تقديم القرابين الجديدة!
قطع تفكيري صوت عيل صغير بيجري فرحان في السوق وبيقول “الترعة فرعت شجر جديد، الترعة رجعت نضارتها”!
تمت