روايات شيقهرواية سيدة الأوجاع السبعة

رواية سيدة الأوجاع السبعة للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثالث عشر (فرحة)

فرحة

تحسنت حالها كثيرا وقد حان الوقت لخروجها من المشفى، تنهدت في سعادة فستعود لبيت ابيها وتبدأ في عيش حياتها الطبيعية مع معاودة المشفى بين الحين والآخر لتلق البقية من بروتوكول علاجها..

ابتسمت عندما طالعها محيا الدكتور عبدالرحمن الذي طرق الباب في هدوء كعادته، رأته يرفع منظاره الطبي في اضطراب كعادته فاتسعت ابتسامتها عندما تذكرت المرة الأولى التي رأته بها، هتف عبدالرحمن في ود: – خلاص، جهزتي نفسك!؟.
هزت رأسها في تأكيد ليهتف
مبتسما: – على أد ما هيزعلني اني ادخل الاوضة دي ومشوفكيش، على أد ما انا مبسوط اوي انك هتسبينا..
يا رب بلا رجعة، واستطرد مؤكدا، إلا طبعا عشان نشوفك..

قهقهت أمل على كلماته الأخيرة هاتفة في مرح: – حسيت أن هيتكسر ورايا زير يا دكتور..
قهقه بدوره في حرج لتستطرد متسائلة: – اخبار مدام عايدة ايه!؟.
ابتسم مؤكدا: – مصرة على فترة خطوبة جديدة، قال ايه!؟، عايزة تحس اننا فعلا بنبدأ من جديد ونتعرف على بعض بعين جديدة..
هتفت أمل في سعادة: – والله فكرة ممتازة..
قهقه عبدالرحمن: – والله انتوا الستات عليكم افكار عجيبة..
ابتسمت أمل هاتفة: – ربنا يسعدكم يا رب..

همت بالتحرك نحو الخارج فقد كان ابوها بالأسفل في انتظارها بسيارته ليهتف عبدالرحمن يستوقفها: – أمل..
تطلعت نحوه مستفسرة ليستطرد بنبرة ممتنة: – الأوضة دي هسميها اوضة الأمل، وهبلغ كل اللي يدخلها بعدك أن كان هنا فيه مريضة عالجت ناس كتير بالحب، رغم أنها كانت أحوج ما يكون له، وعمرها ما استسلمت رغم كل الأوجاع اللي حاوطتها، يا سيدة الأوجاع السبعة..

دمعت عيني أمل في امتنان حقيقي وهزت رأسها في تحية صامتة واندفعت راحلة وابتسامة على شفتيها تاركة إياه خلفها يتطلع لأركان الغرفة التي كانت تحمل بعض من محياها معلق بالجوانب معطرا الزوايا، كان يعتقد أن كل إنسان يستطيع تحقيق رغبات قلبه كاملة، لكنه كان مخطئا تماما، فليس كل ما يتمناه المرء يدركه، وها هي واحدة من رغبات قلبه الذي ظلت مدفونة بأعمق نقطة فيه قد ولت بلا رجعة وستظل مجرد ذكرى ستسعده ما أن تمر كالطيف الحالم بمخيلته..

كانت واقعة تحت ضغط غير مسبوق بحياتها، ضغط من أولادها لتعود لأبيهم الذي يحتاج إليها اليوم بشكل مُلح، وضغط علاقتها بعبدالغني الذي اتخذت علاقتهما منحى آخر، فمنذ طلبه يدها للزواج وهما على حد سيف، كانت تقوم بفقرتها ببرنامجه في احترافية اكسبتها مزيدا من المحبة والدعم من مشاهدي البرنامج لكن ما أن تنهي فقرتها حتى تندفع لشقتها تغلق عليها بابها تستأنس بجدرانها بعيدا عن كل تلك الضغوطات التي تدفعها لحافة الجنون..

وقفت اللحظة أمام الكاميرا تشرح طريقة صنع احد الأطعمة ليرن الهاتف متلقيا مكالمة لإحدى المتصلات التي هتفت في سخرية: – انا مش عاوزة اسال على طريقة اكل، انا بس عايزة اقول لجمهورك اللي مخموم فيكِ انك سايبة جوزك المشلول ورفضتي تقعدي تخدميه، مش هو أولى برضو من اللي بتعمله ده ولا ايه!؟.

اكفهر وجهها ولاحت على قسماتها الصدمة لذاك الهجوم الغير عادل والذي يحيد عن الحق والحقيقة، تلجم لسانها عن النطق لينقذ حاتم الموقف واضعا فاصلا إعلانيا لأن عبدالغني لم يكن هنا ليزود عنها فقد كان يتجنب الوجود أثناء بثها فقرتها حتى لا يسبب لها حرجا من اي نوع.
اندفعت تحتمي بشقتها كعادتها تاركة الأمر بيد حاتم الذي اندفع مستدعيا عبدالغني ليدخل مستكملا الفقرة..

انهارت ما أن أغلقت باب شقتها على اقرب مقعد تشهق باكية في وجيعة، فتحت البث على البرنامج لترى ما يحدث لتفاجأ بكم التعليقات السلبية
على ما حدث، الكل يتهمها بالخسة والدناءة، الكل حكم دون بينة، جعلوا منها الجلاد وهي الضحية، صنعوا منها قاتلا وهي المغدور بها في الصميم..

كلمات رفعت بها يوما للسماء وكلمات ألقت بها من عليائها إلى أسفل سافلين، هي مجرد كلمات لكنها كانت أحد من نصل مسموم يغرز بقلبها مرة بعد مرة، ألقت بالهاتف جانبا ناهضة في عزم تمسح دموعها وقد اتخذت قرارها، وانتهى الأمر..

طرق ابوها على باب حجرتها ودخل هامسا: – الضيف جه يا نجوى، مش هاتيجي ولا ايه!؟.
كانت تعدل من هندامها ووضع غطاء رأسها هاتفة في قوة لا تعلم من اين اتتها: – عشر دقايق بالظبط يا بابا هجيب الضيافة ليكم وادخل..

دق جرس الباب ليندفع ابوها لفتحه لتبتسم هي في انتشاء وظلت على انتظارها بداخل حجرتها حتى رن جرس الباب للمرة الثالثة لتأخذ نفسا عميقا وابتسامة واسعة على شفتيها تسير صوب غرفة الصالون لتسمع همهمات ضيوفها المستنكرة..
دخل والدها وهي خلفه تتطلع للوجوه الممتعضة التي كان أصحابها يقفون في تحفز لتهتف هي بهم وعلى شفتيها ابتسامة تشفي: – اتفضلوا اقعدوا، واقفين ليه!؟.

هتف موافي في نزق: – ممكن اعرف الأساتذة دول بيعملوا ايه هنا!؟.
مشيرا لوجود كمال وسالم..
ليهتف كمال في حنق: – المفروض انا اللي اسال السؤال ده عن وجودك هنا، انت والأستاذ سالم صاحبي..

قال كلمته الأخيرة ساخرا، لتهتف بهم نجوى ناظرة لأبيها: – نسيت اعرفك يا بابا، الاستاذ موافي يبقى زميلي فالشغل، من ساعة ما عرف اني أطلقت وهو ورايا فالروحة والجاية ولما عرف أن مفيش فايدة جه يتقدم لي اهو يبقى داخل خارج عليا ومبسوط، ما انا مطلقة بقى وما هصدق ألاقي راجل يرضى بيا فهقدم التنازلات اللي نفسه فيها عشان يتكرم وينعم عليا بلقب زوجة من جديد..

انتفض موافي من موضعه هاتفا في سخط: – انا مجتش هنا عشان اتهزق، انا كنت فاكر أن..
هتفت به نجوى: – فاكر ايه، اني هوافق على دخولك وخروجك زي ما عملت مع بنات كتير وبعد ما دخلت بيوتهم خليت بيهم..
هم سالم بالنهوض ماسكا في تلابيه إلا أنه اندفع راحلا في غضب هادر لتعاود نجوى النظر لسالم الذي هتف بها مؤنبا: – ماقلتليش ليه يا نجوى على عمايل اللي اسمه موافي ده وانا كنت عرفت اتصرف معاه بطريقتي!

هتفت نجوى في حزم: – اولا اسمي مدام نجوى..
صعق سالم لأسلوبها الخشن في الرد وهم بالتحدث الا انها قاطعته هاتفة: – وبعدين ايه هي بقى طريقتك اللي كنت هتمنع بيها موافي عني!؟، يا ترى هي نفس الطريقة اللي قلت لي بعضمة لسانك انك استخدمتها عشان تكره كمال فيا وتخليه يطلقني، وانك انت اللي حطيت فطريقه الهانم اللي كان هيتجوزها!؟.
نهض سالم صارخا: – أنتِ كذابة..

واستدار مواجها لكمال هاتفا في ثورة مدافعا عن نفسه: – دي كدابة يا كمال، دي بتحاول أنها توقع بينا، هي بتكرهني من زمان وانت عارف..
هتفت نجوى أمام صمت كمال وصدمته: – طب تقدر تقولي حضرتك هنا ليه يا استاذ سالم!؟.
هتف متلجلجا باحثا عن عذر
سريع: – انا هنا عشان أنتِ اللي قولتيلي تعال احضر مقابلة بابا مع كمال، هو انا هكون هنا ليه يعني!؟
هتفت نجوى ساخرة: – يعني مجتش تتقدم لطلب ايدي!؟.

هتف سالم ناكرا بشدة: – ايد مين!؟، اطلبك انتِ!؟.
ابتسمت نجوى في هدوء وهي تخرج جوالها من جيبها وفتحت تسجيل صوتي ما وضغطت على زر الاستماع هاتفة: – مش هو ده صوتك!؟، مش دي نمرتك!؟.
وبدأ التسجيل يسرد كيف استطاع التأثير على كمال ليطلقها طمعا فيها لنفسه وكيف كان هو من دفع تلك المرأة لتقف بطريق كمال واستمالته ووضع شرط الطلاق كأساس لموافقتها على الزواج..

خرس سالم للحظة وما أن هم كمال بالنهوض ممسكا بتلابيه الا واندفع للخارج متوعدا كلاهما صافقا الباب خلفه في عنف..
لم يبق إلاه، جلس موضعه في خزي لا يعلم كيف ستوافيه الجرأة للتحدث بعد كل ما سمع..
هتف والد نجوى به: – وانت يا استاذ كمال..!؟، راجع ليه بعد اللي عملته ببنتي!؟.
هتف كمال متعثر الأحرف: – انا يا عمي كنت جاي عشان، كنت عايز يعني، ارجع انا ونجوى، انا..

هتف ابوها محتدا: – انت مصنتش الأمانة اللي امنتك عليها، تفتكر ممكن اامنك على بنتي تاني بعد اللي عملته!؟، وهضمن منين بعد سنة ولا اتنين متجيش ترميها عشان ظهرت فحياتك واحدة من إياهم؟! انت راجل متعرفش يعني ايه مسؤلية بيت وزوجة واولاد، وانا معنديش استعداد ارجع بنتي لواحد مستغني. إذا كنت استغنيت قراط احنا استغنيتا أربعة وعشرين، وابنك اللي مشفتوش بقالك شهور ربنا يقدرنا على تربيته أما بنتي فاول عريس مناسب هيتقدم لها هجوزهولها، لاني عايز اطمن عليها قبل ما اموت وابقى عارف انها في عصمة راجل بجد يعرف ازاي يصون بنات الأصول..

كانت نجوى تجلس في هدوء تمسك دمعات كادت أن تخونها وهي تراه يجلس بهذا الشكل المنكسر وما أن صمت ابوها حتى نهض كمال مغادرا في هدوء لتتسمر نجوى موضعها وقد اندفعت امها لداخل الصالون هاتفة في حنق ليس من عاداتها في وجه ابيها: – ليه كده يا عبدالمحسن!؟، ليه بس كده تخرب على بتك!؟، ما الصلح خير واهو الراجل جه لحد عندنا ندمان وشاري.

انفعل ابوها هاتفا: – لهو بالساهل!؟، يطلقها ويرميها بطول دراعه ومستغني ويرجعها للبيت اللي خرجت منه وردة مفتحة مكسورة ومقهورة وعايزاني لما يرجع يقول والنبي رجعوهالي اقوله وماله يا حبيبي خدها اهي مستنياك، ده لا عاش ولا كان اللي يكسر بنتي وانا عايش على وش الدنيا وحتى لو اللي عملته ده مش على هواها انا مكنتش هعمل غيره عشان اعززها وأعرفه قدرها..

شهقت نجوى باكية ونهضت مندفعة ترفع يد ابيها تقبل ظاهر كفه في امتنان هاتفة والدمع ينساب على خديها منهمرا: – ربنا يخليك ليا يا بابا وميحرمنيش منك ابدا، وسوا اللي عملته يرصنينى ولا لأ لكني هنفذه على رقبتي لاني عارفة انك مش طالب الا مصلحتي، ربنا ما يحرمني من وقفتك في ضهري..
واندفعت تهرول نحو حجرتها وما أن أغلقت باباها حتى عاد طوفان الدمع ينهمر من جديد..

تحسنت حال امها كثيرا واقترب موعد خروجها من المشفى، تقدم إلى حجرتها يعتقد أنه سيجد شيرين قابعة تحت أقدام امها كما هي العادة لكنه طرق الباب ودلف للغرفة ليجد امها وحيدة دونها، تعجب هاتفا: – السلام عليكم يا حاجة، اومال فين شيرين مش معاكِ النهاردة زي كل يوم!؟.
ابتسمت امها هاتفة: – راحت البيت تجيب شوية حاجات وراجعة على طول..
هتف علاء في اعجاب: – شيرين بتحبك وكانت خايفة عليك قوي، ربنا يخليكم لبعض..

هتفت امها: – شيرين غلبانة، ساعات بقول لنفسي يا ريتني مت ولا شالتش همي كده، دي وقفت نفسها وحياتها عليا..
دمعت عيناها تتذكر في حسرة: – كان زمانها متجوزة وعندها عيلين، لكن تعبي قبل فرحها كان سبب في تأجيل الفرح، وبعدها اشترطت على عريسها اني اعيش معاهم بعد جوازهم بس طبعا رفض، عريسها ده كان حب عمرها اللي فضلت تحلم بجوازهم سنين طويلة استنته فيهم عشان يكون نفسه ويبقى قادر تقدم..

اتحطيت في كفة وجوازها فكفة، ورجحت كفتي، وفضلت قاعدة جنبي وكل ما يجي عريس ترفضه من غير حتى ما تفكر، انا حاسة بيها، مش عايزة تتحط فالأختيار ده تاني، وانا على أد ما فرحت أن تربيتي تمرت لكن قلبي يبتقطع وانا شايفة كل اللي فسنها امهات وهي لسه قاعدة جنبي..

تنحنح علاء وهو يتململ على ذاك المقعد بالقرب من الفراش ولم يفه بكلمة إلا أن ام شيرين هتفت في تعجب: – ايه!؟، انا قاعدة اتكلم اتكلم وحاسة انك عايز تقول حاجة..
ابتسم علاء هاتفا: – هو الواحد ميقدرش يخبي حاجة عن الامهات دي ابدا!.
قهقهت ام شيرين في سعادة هاتفة: – طب قول فيه ايه، ياللاه قر واعترف..
هتف علاء في عجالة حتى لا يدفعه تردده للتراجع: – انا بحب بنتك الغلاباوية وعايز أتقدم لها..

اغرورقت عيني أم شيرين بالدموع هامسة بصوت متحشرج: – طب وهي عارفة!؟.
نفى هازا رأسه: – لا، قلت اكلم حضرتك الأول، اي نعم هي راسها ناشفة وعنيدة ولسانها متبري منها بس..
دخلت شيرين في هذه اللحظة هاتفة في تعجب: – مين دي اللي لسانها متبري منها!؟.
نظر علاء مستنجدا بأمها لتهتف باسمة: – هتكون مين غيرك!؟، بطلة العالم فنشفان الدماغ واللسان المتوصي..

هتف علاء بعد أن شعر أن امها زادت الطين بلة: – لكن دمها خفيف وقلبها طيب، صح!؟.
قهقهت امها مؤكدة: – صح الصح..
تطلعت شيرين إليهما في توجس مستشعرة أنهما يحيكان مؤامرة ما ضدها هاتفة: – هو انتوا مالكم النهاردة!؟، هو فيه حاجة!؟.
هتف علاء في شجاعة: – اه فيه، عايز اتجوزك، فيها حاجة دي!؟.

اضطربت وتلبكت معدتها وتطلعت لأمها التي كانت عيونها تدمع فرحا، ساد الصمت للحظات حتى هتفت اخيرا بصوت حاولت أن يكون ثابتا واثقا قدر استطاعتها: – طب هفكر..
هتف علاء متسائلا في فرحة: – يعني المبدأ مش مرفوض!؟.
هزت رأسها إيجابا ولم ترد بحرف ليهتف في سعادة وهو يندفع خارجا: – طب هنتظر رأيك في جلسة ماما الجاية..
هتفت شيرين تناكفه قبل أن يخرج: – لو انا رفضت، مش هاتيجي لماما جلسات تاني!؟.

زمجر مؤكدا متصنعا الجدية: – الصراحة اه..
أكدت متصنعة الحياء منكسة الرأس: – يبقى لا يمكن اغامر بصحة ماما ابدااا..
قهقهت امها وكذا علاء الذي تأكد من موافقتها الضمنية ليهتف في سعادة: – يبقي الجلسة الجاية مش هابقى لوحدي..
واندفع في فرحة للخارج لتندفع شيرين إلى أحضان امها التي تلقفتها في حنو وفرحتها لا تصفها الكلمات..

اندفعت ام صفية لداخل الشقة تتطلع لأبنتها في تعجب وهي تراها على هذه الحال هاتفة: – ايه اللي حصل يا صفية!؟، هو سي حماد جبنا هنا ليه!؟، هو انتوا اتخانقتوا!؟.
هتفت صفية تحاول التخلص من حصار امها واسئلتها التي لا تملك لها إجابات شافية: – ايوه ياما اتخانقنا.

ونهضت مترنحة تجاه غرفتها القديمة لتهتف بها امها لائمة: – تخانقيه ليه!؟ ده شايلك م الأرض شيل وكان بيتمنالك الرضا ترضي، احنا هنتبتر ع النعمة يا صفية!؟.
هتفت صفية في نفاذ صبر: – بس ياما، بكفيالكِ تقطيم، والله انا ما حاملة كلمة، انا..
وصرخت متوجهة لتندفع إليها امها هاتفة في قلق: – فيه ايه!؟.
هتفت صفية متوجهة: – سنديني لحد السرير، انا تعبانة قووي..

مددت جسدها برفق على فراشها وهرولت امها لصنع مشروب ساخن لأجلها لكنها تذكرت أمرا ما فعادت إدراجها نحو صفية تسلمها لفافة ما: – خدي يا صفية، نسيت اديكِ ده..
هتفت صفية في وهن: – ايه ده!؟.
أكدت امها: – معرفش، حماد بيه قالي ده حقك..
فتحت صفية الكيس لتطالعها تلك الأموال المشؤمة ثمن مصاغها المباع..

هزت رأسها في هدوء لتنسحب امها لصنع المشروب بينما تنهدت صفية وأنساب دمعها على جانبي وجهها في ألم، تركت اللفافة جانبا ووضعت كفها على بطنها هامسة بتضرع: – يا رب خليهولي، ده الحاجة اللي باقية من رحته..
وسال دمعها من جديد ليندفع ولدها لداخل الغرفة ممتعضا: – انا مش عايز اعيش هنا، انا عايز ارجع بيتنا التاني عند بابا حماد، احنا ليه جينا هنا!؟.

ضمته صفية لصدرها رابتة على رأسه هامسة: – هنرجع يا حبيبي، هنرجع باذن الله..
رفع الصغير رأسه متسائلا في لهفة: – امتى!؟، بكرة!؟.
أكدت مبتسمة في وجيعة: – لما ربنا يريد، قول يا رب..
رفع الصغير كفه متضرعا بدوره: – يا رب..
لتضمه صفية من جديد لأحضانها رابتة بحنو على موضع جنينها المتربع بقلبها قبل احشائها لأنه قطعة من حماد..

وقفت أمام نافذة حجرتها التي عادت إليها في شوق تحتضن بعيونها كل ركن فيها، تلك الغرفة التي لم يتبدل اثاثها منذ مراهقتها..
ضمت كوب الشاي بين كفيها وقد رفعته ترتشف منه رشفة في استمتاع لتفاجأ بأبيها يقف على مقربة منها انتفضت ثم ابتسمت في محبة لمرآه ليهتف ابوها مازحا: – ايه يا أمل!؟، معلش لو خضيتك بس قلقت لما خبطت ومردتيش عليا كذا مرة..
عقدت حاجبيها متعجبة وهتفت: – معقول مسمعتش!؟.

ابتسم ابوها مشيرا للنافذة قبالتهما: – اللي واخد عقلك..
اتسعت ابتسامة أمل هاتفة: – ياااه يا بابا، لسه فاكر!؟.
تنهد ابوها في شجن: – وهي دي حاجة تتنسي!؟، دي حكاية كان الحي كله شاهد عليها..
هتفت أمل وهي ترتشف من كوبها من جديد مؤكدة: – كل حاجة نصيب يا بابا..

تنهد في حسرة: – ايوه، على رأيك، كل حاجة قسمة ونصيب، بس لولا امك وأمه، كان زمانك من نصيبه ومكنتيش اتجوزتي اللي اسمه أمجد ده تحت إلحاح من امك، الله يرحمها بقى..
تنهدت أمل من جديد مؤكدة: – كلها أرزاق يا بابا، وأمجد كان نصيبي سواء ماما ألحت أو لأ..
ربت ابوها على كتفها في مودة وهتف محاولا تغيير دفة الحديث هاتفا: – ايه اخبار الرواية اللي طلبتها منك دور النشر يا سيادة الكاتبة العظيمة!؟.

قهقهت هاتفة في سخرية: – كاتبة!؟، وعظيمة!؟، الاتنين!؟، يا بابا ده انا لسه بقول يا هادي..
أكد في فخر: – لما بدخل صفحتك وبشوف الامل اللي بتديه للناس ومحبتهم لكِ قلبي بيرفرف من الفرحة وببقى نفسي ادخل على كل تعليق أقوله، على فكرة دي بنتي، أمل، اسم على مسمى..
دمعت عيناها واقتربت منه ملثمة جبينه في امتنان لمحبته ودعمه هامسة: – ربنا يخليك ليا يا بابا..

ربت على كتفها محاولا عدم اظهار تأثره هاتفا في حزم مصطنع: – ياللاه اقعدي بقى كملي كتابة مش عايزين دلع، وانا هعمل لك احلي عشا فالدنيا..

ابتسمت وهو يتناول منها كوب الشاي الذي انهته مغادرا الغرفة بينما تحركت في تكاسل نحو مكتبها لتجلس متطلعة نحو النافذة لتعود ذاكرتها لذاك اليوم المشووم، أحد اوجاعها وربما أولها، كان يوم زفاف جارها، ذاك الحبيب الذي ابتسم لها قدرها حينما دق على بابها يوما مصطحبا أمه لتعيش اروع أحلامها، لكن، انتهت قصة الحب بصدام واعتراضات ما بين اميهما ليرضخ اخيرا لرغبة أمه في فراقها، ليزف لأخرى في خلال شهر وتصر امه كيدا على إقامة حفل زفافه في شقتها لتكون تلك الساعات اسوء ما مر عليها بحياتها من احاسيس القهر والخذلان وكذا إصرار امه على إقامته بعد زواجه معها، ليكون العذاب مجسدا أمام ناظريها صباح مساء، حبيبها يزف أمام ناظريها لامرأة أخرى جاءت من الغيب لتحتل موضعها بحياته والذي ظلت تحلم دوما باحتلاله..

وليت الأمر قد انتهى عند ذلك الحد فقد استمر نزيف الاوجاع واحدا تلو الآخر، فما أن تقدم أمجد لخطبتها حتى أصرت امها على قبوله فقد كان يملك الكثير من الميزات التي لا ترفض على حد تعبيرها وأولهم أنه ابن إحدى اقرب صديقاتها، ومن نعرفه افضل مِن مٓن لا نعرفه، لم يكن كل هذا هو سبب إصرارها على أمجد بل كل ما كان يشغل امها لحظتها أن تؤكد للجميع وأولهم جيران الهنا كما كانت تدعوهم، أن ابنتها لم يقف سوقها كما كانوا يتمنوا بعد ابنهم، بل إنه جاءها عريس افضل منه مائة مرة، وأصرت كذلك على إقامة عرسها في بيت أبيها ليشهده الحي كله..

تنهدت أمل في حسرة وابتسمت في ألم لوقع الذكرى التي كانت تدب بمخيلتها وبدأت في الشروع في الكتابة على انغام الموسيقى وكلمات اغنية نجاة الصغيرة، ساكن قصادي وبحبه، التي ذكرتها بكل ما كان..

كانت تضع اخر غطاء على أحد الأطعمة التي بدأت في صنعها بالطلب، فتحت صفحة لها على إحدى وسائل التواصل الاجتماعي محاولة اخفاء هويتها غير راغبة في تعريف الناس انها هي صاحبة فقرة دعوة من القلب والتي غادرت برنامج عبدالغني فجأة دون أي إشارة او حتى تلميح لتختفي للأبد ورغم أنها رأت بعد تلك الفضيحة التي حدثت لها أن هناك الكثير من المتابعين طالبها بالعودة وان تكون اقوى من اي ادعاءات كاذبة، لكنها لم تشأ أن تفعل فقد أدركت أن هذا العالم ليس عالمها وانه لا قبل لها على مواجهة حروبه القذرة..

لقد عرفت كيف ترسم طريقها وستفعل دون الحاجة لذراعي رجل للاستناد عليهما لتقف على قدميها، لقد أصبحت قادرة تماما على الوقوف وحيدة في مهب الريح مدافعة عن حياتها ورغباتها واتخاذ قراراتها دون أية ضغوط تضطرها للعيش داخل إطار مرسوم لها من قبل آخرين، إطار لا يليق بها ولا يناسبها..
تناهى لمسامعها اغنية تهادت عبر نافذة المطبخ الذي توارب ضلفته: – خسارة، خسارة، فراقك يا جارة..
عنايا بتبكي، عليك بمرارة..

تسمرت يدها على ما تفعل متنهدة في شوق إلى محياه، لقد كان عبدالغني وما يزل تميمة حظها، هو الداعم الأول الذي أشار لها على الطريق الصحيح وانار لها مصابيح الأمل على طول درب التيه لتصل لمبتغاها، لإحسان الحقيقية التي كانت قد أضاعتها في عتمة حياتها مع توفيق..

لكم اشتاقت صحبته!، لخفة ظله ونكاته وحكاويه التي لا تنتهي عن أسفاره، واشتاقت أكثر لإحسان وهي برفقته، إحسان التي تعود مراهقة تحمر وجنتاها خجلا لإطرائه ويقفز قلبها فرحا لمرأه، وتطمن روحها لقربه..
مسحت دمعة سالت على وجنتها في حسرة وأنتشلها رنين الهاتف من خضم خواطرنا لتجيب في سرعة ليهتف المتحدث على الطرف
الآخر: – حضرتك مدام إحسان الدمنهوري، صاحبة فقرة دعوة من القلب!؟.
هتفت في تردد: – مين معايا!؟.

أكد الرجل على الطرف الآخر والذي كان يتحدث بنبرة رسمية: – احنا جمعية…
واخبرها باسم جمعية مشهورة بأفعال الخير ومعاونة المحتاجين..
هتفت ولم تستوعب بعد ما الأمر: – طبعا الجمعية غنية عن التعريف، جزاكم الله خيرا، تحت امرك..
هتف الرجل: – الأمر لله، احنا بس كنا طالبين من حضرتك تعملي معانا حملات دعائية لصالح تبرعات الجمعية، وبنعرض على حضرتك منصب فالجمعية بأجر رمزي، ايه رأي حضرتك!؟.

لم تعرف بما تجيبه، هل ستعود للظهور من جديد!؟، لقد أرتضت بما أصبحت عليه بعد ابتعادها عن الظهور للجمهور..
شعر الرجل بترددها فهتف
يستحثها: – العمل لله وثوابه واجره كبير عند رب العالمين، واحنا توسمنا فيكِ خيرا..
هتفت تسأل في تردد: – انتوا موصلكوش الكلام اللي اتقال عني فال..
قاطعها الرجل مؤكدا: – احنا تأكدنا أنه كان كلام كيدي موجه من منافسين كرهوا نجاحك، ها ايه رأي حضرتك!؟.
هتفت في انشراح: – موافقة طبعا..

هتف الرجل في حبور: – حيث كده احنا في انتظار حضرتك بمقر الجمعية، وهيسعدنا انضمامك لقافلة الخير، سلام عليكم..
أغلقت الهاتف ملقية التحية في سعادة وقد طار قلبها فرحا، أن الطريق يمهد أمامها لتعيش دنيا عامرة افتقدتها منذ زمن بعيد…

اندفع من باب الشقة الذي اغلفه في عنف تجاه حجرته التي تعامل مع بابها بشكل أقصى عنفا ما جعل أمه تهرول صوب حجرته لكنها لم تواتيها الجرأة للدخول تاركة له الوقت حتى يهدأ قليلا ثم تدخل لتعرف ماذا جرى ففضولها يقتلها لمعرفة سبب ثورته العاتية تلك..
‏كان كمال يترنح داخل الغرفة جيئة وذهابا كليث جريح تكالبت عليه ضباع الغم، شعر بالدوار فجلس على طرف فراشه يضع رأسه الذي يغلي كمرجل بين كفيه..

الجميع سخر منه، الجميع تلاعب به، صاحبه الذي كان يعتقد أنه خله الوفي الأمين الذي دخل بيته وعينه على زوجته راغبا فيها، كانت دوما ما تخبره أنها لا ترتاح له ولا تعجبها نظراته المليئة بالشهوة، كيف لم يفطن لذلك!؟، هل كان يراها لا تستحق بالفعل اعجاب الرجال ونظراتهم!؟، هل استطاع سالم التأثير عليه ليجعله يكرهها ويرى فيها كل عيب ولا يألف منها أي محاولة في الإصلاح!؟، ليفعل بها كل ما فعل، وجاء دورها هي لترد الصاع صاعين، استطاعت أن ترد بشكل عملي على كل اتهام وجهه لها، ألم يقل أن ما من رجل سيرغب في النظر إليها!؟ ها هي استطاعت عندما رغبت أن تجذب رجلين كان كل منهما على استعداد تام لتقديم كل غال من أجل الحصول على ودها..

‏هل كان احمق ومغيب وانقيادي لهذه الدرجة!؟، هل كان ضعيفا ومعدوم الشخصية بهذا الشكل!؟.
طرقات على الباب أخرجته من خضم صراعاته لتدخل أمه مشفقة على حاله تجاوره رابتة على كتفه في حنو هامسة: – ايه!؟، رفضت ترجع!؟.
‏هز كمال رأسه مجيبا: – ابوها رفض وهي مفتحتش بقها بكلمة..
‏وابتسم هاتفا في سخرية: – وتخيلي، لقيت عريسين عندها غيري، واحد كل بنات المؤسسة معرفتش توقعه والتاني، مين!؟، سالم صاحبي..

‏ضربت أمه منيرة على صدرها بقوة هاتفة في صدمة: – سالم صاحبك!، انت بتتكلم جد!؟.
‏قهقه كمال في حسرة: – اه، شوفتي، ده انا مقلتلكيش ع المصيبة الأكبر، سالم هو اللي كان ورا ده كله..

‏شهقت أمه ليستطرد: – ايوه، صاحبي اللي دخلته بيتي حط عينه على مراتي، رتب الموضوع وحط قدامي غراب البين اللي كنت هقع في شر أعمالي واتجوزها، قعد يصور لي نجوى بكل عيوبها وانا زي المغفل مسحوب وراه، لحد ما طلقتها عشان ارضى الهانم، كانت دايما نجوى بتحذرني منه وانا مكنتش بصدقها، طلع عندها حق في كل حاجة، انا ازاي كنت اعمى
كده!؟، وأزاي كنت وحش قوي وعملت فيها كل ده!؟.

‏وضع رأسه الذي يكاد ينفجر من ذاك الخليط الرهيب من الأفكار المشتتة التي تعبث به من جديد بين كفيه لتربت أمه على كتفه من جديد في محاولة لمؤازرة صامتة بلا كلمات لا تملكها وعتاب ليس هذا وقته من الأساس..

‏نهضت مغادرة الغرفة لتصنع له كوبا من عصير ليهدئ أعصابه المستعرة بينما اندفع هو قاذفا بجسده للخلف فاردا ذراعيه على اتساعهما بعرض الفراش متطلعا للسقف يسترجع احداث الماضي بحلوها ومرها كأنما هو طقس لتعذيب الذات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى