روايات شيقهرواية وبقي منها حطام أنثى

رواية وبقي منها حطام أنثى للكاتبة منال سالم و ياسمين عادل الفصل الرابع

تفاجئت إيثار بوجود مالك أمامها عند مكتب شئون الطلبة التابع لكليتها، ففغرت شفتيها بإندهاش، ورددت بصوت مصدوم:
إنت!
إرتسمت علامات السعادة على محياه، وهتف قائلاً بمرح:
شوفتي الصدف!
أجفلت عينيها خجلاً منه، فتابع مالك قائلاً بإهتمام:
ها قوليلي بتعملي ايه هنا
رفعت رأسها قليلاً، ولكنها لم تنظر إليه، وأشارت بيدها لتجيبه بتلعثم:
أنا، أنا كنت جاية أشوف ورقي.

أخذت نفساً عميقاً لتسيطر على حالة الإرتباك التي تتملكها فور حديثها معه، وسألته بجمود:
إنت بتعمل ايه هنا؟
رد عليها مالك بهدوء وهو يتأمل ملامحها:
واحد أخو صاحبي كان بيحول من كلية لكلية، وأنا جاي أخدمه
هزت رأسها في إقتناع، فتابع قائلاً بحماس:
بس انا حظي حلو إن شوفتك
رفعت إصبعها محذرة:
من فضلك أنا مش حابة النوعية دي من الكلام، أنا غير أي حد
ابتسم لها مالك ليقول بخفوت:
حقك، انتي مالكيش زي بصراحة
برضوه مصمم.

جاهد ليحافظ على جديته الزائفة وهو يسألها:
سوري، المهم خلصتي ورقك ولا لسه؟
ردت إيثار بإنهاك:
أنا هاشوف هاعمل ايه هنا وآآآ..
قاطعها مالك بجدية واثقة:
ماتتعبيش نفسك، انتي جيتي في ملعبي!
عقدت ما بين حاجبيها بشدة، ورددت:
نعم؟!
وضح لها مالك مقصده ب:
أقصد ان أنا أعرف كل حاجة هنا، وأقدر أساعدك تخلصيها على طول
سألته بهدوء وهي محدقة بوجهه:
هو انت في حاسبات؟
ابتسم مالك لها وأجابها بثقة:
لأ طبعاً، أنا في تجارة!

إنفرجت شفتيها مندهشة وهي تسأله:
وإيه اللي جايبك هنا؟
رد عليها بتنهيدة سعيدة:
النصيب!
توترت من كلمته الموجزة، وتوردت وجنتيها خجلاً، ورمشت بعينيها في إرتباك ,,,
تابعها مالك بإهتمام، فقلما يرى فتاة تخجل من أبسط الكلمات وتكون على طبيعتها دون تكلف..
أخذ هو نفساً مطولاً، وزفره على مهل، ثم عقد ساعديه أمام صدره، وسألها بإهتمام ليرفع عنها الحرج:
قوليلي بقى ناقصك ايه وأنا أخلصهولك.

ردت عليه إيثار بحرج بادي في نبرتها:
مافيش داعي تتعب نفسك، أنا آآآ…
قاطعها مالك بإصرار بعد أن أرخى ذراعيه:
تعب! يا بنتي بلاش التكليف ده، إحنا جيران ومعارف، وبعدين أنا خبرة في الكلية دي، وانتي هنا في المكان بتاعي، ها، قولي بقى؟
عضت على شفتيها قليلاً لتفكر ملياً فيما قاله، فهي مازالت تجهل الأماكن هنا، وربما يضيع عليها اليوم هباءاً إن قضته في البحث عما تريد، لذا أجابته:.

هو أنا المفروض هادفع المصاريف، وأخد الإيصال وأطلع الكارنيه، وأدفع اشتراك ال آآ..
قاطعها مالك مجدداً ليقول بهدوء:
استني، احنا نعمل حاجة حاجة، وبعد كده نشوف فاضلك ايه
اوكي.

سار الإثنين في إتجاه مكتب الخزينة، وظل مالك ينظر إليها بطرف عينه، واعتلى ثغره ابتسامة هادئة، هي كانت مختلفة عن الأخريات، هادئة بطبعها، تتحدث قليلاً، ترتبك من مجرد كلمات عابرة ويظهر خجلها على وجهها، عاود النظر إليها، وهو يمني نفسه برؤيتها..
بعد لحظات وصل كليهما إلى وجهتهما، ولكن كان المكان يشهد زحاماً شديداً..
شهقت إيثار قائلة بصدمة:
كل دول طلبة!
بدت علامات الإنزعاج على وجهه وهو يجيبها:.

أومال انتي مفكرة ايه، ده الدخول والخروج من هنا بقوة الدفع
تسائلت إيثار بحيرة وهي تشد على حقيبة يدها المعلقة على كتفها:
طب أنا هادخل ازاي؟
صحح لها جملتها قائلاً بمزاح:
قصدك هاتتحشري إزاي
أووف
أشار لها مالك بكفه قائلاً بجدية:
ماتشليش هم، أنا هادفعلك الفلوس، هاتي بس الجواب، وهاتصرف
هزت رأسها معترضة وهي تقول بيأس:
مش مشكلة هابقى اجي وقت تاني تكون الزحمة خفت
أضاف مالك قائلاً بإحباط:.

مش هايحصل هنا، الوضع هايفضل على حاله!
ثم استدار برأسه ناحيتها، ومد يده ليقول بجدية:
هاتي الجواب، واستنيني هناك، ولما أطلع هاكلمك
قطبت جبينها مشدوهة من جملته، وسألته بإستغراب بادي في نبرتها
تكلمني؟!
ابتسم لها ببلاهة مجيباً إياها ب:
أها، ماهي فرصتي اعرف رقم موبايلك
نعم!
بهزر بدل ما تقفشي..!
وأشار لها بإصبعه قائلاً بحزم:
اقفي هناك بعيد عن الزحمة، وهاجيلك لما أخلص
أومأت إيثار برأسها لتهمس بإستسلام:
طيب.

شق مالك طريقه وسط الزحام، وتلاشى بين أجساد الواقفين، فتابعته هي بقلق بعد أن تراجعت للخلف في إحدى الزوايا، وانتظرت لبرهة في الخارج، ثم زفرت بتعب، وتمتمت مع نفسها بإنزعاج:
اتأخر أوي جوا!
بدت كالتائهة – والغريبة هي تقف بمفردها لا تعرف أي أحد بالمكان..
إنكمشت على نفسها، وراقبت بتوتر المارة وهي تحتضن حقيبتها بكفيها..

خرج مالك بعد فترة وهو يلهث، وجاب بعينيه المكان بحثاً عنها إلى أن إلتقطتها عينيه، فتلاشى الإجهاد من عليه، وحل محله إبتسامة هادئة..
اقترب منها وهو يهتف بمزاح:
ده دمارشامل جوا
ابتسمت بخجل له وهي تجيبه على استحياء:
ميرسي على تعبك
تابع مالك قائلاً بمزاح وهو يرمقها بنظراته الناعمة:
ميرسي كده ناشف، مافيش حاجة ساقعة ولا منحة تشجيعية منك، ده أنا عبرت المانش عشان أوصل للشباك.

إرتبكت بشدة، وتلعثمت وهي تحاول البحث عن كلمات مناسبة لتجيبه، فتدارك الأمر سريعاً، فقد إعتاد على خجلها، وتشدق قائلاً وهو يمد يده نحوها بالإيصال:
انتي لو عاوزة أي حاجة أؤمري بس، وأنا تحت أمرك
نظرت له بإمتنان وهي تهمس:
ش، شكرا
ثم تناولت منه الإيصال ووضعته بداخل حقيبتها، وتابعت بجدية:
هامشي أنا بقى، كفاية كده النهاردة
عبست ملامحه وهو يسألها بإضطراب:
بسرعة كده؟ طب مش ناوية تجيبي جدول محاضراتك؟!

ردت عليه بإقتضاب:
بكرة، أنا مش مستعجلة
ممممم..
هزت رأسها وهي تتحرك للأمام قائلة بخفوت:
أشوفك على خير، سلامو عليكم
سار إلى جوارها، وهتف بتلهف:
طب استني أوصلك، ده احنا سكتنا واحدة
رمقته بنظرات حادة وهي تقول بجدية بالغة:
أنا أعرف أوصل لوحدي، شكراً على ذوقك.

توقف في مكانه وهو يتعجب من تبدل حالها سريعاً، فهي في لحظة تكون طيعة خجولة، وفي الأخرى حادة الأسلوب، ولكنها في النهاية تمكنت من شغل تفكيره رغم قلة اللقاءات بينهما..

استلم عمرو عمله بهيئة النقل العام ( فرع السكة الحديدية )، وتنفس الصعداء بعد تمكنه من الحصول على تلك الوظيفة..
فلولا وساطة عمه لما ظفر بها..
جلس على مقعده، ومسح بيديه على سطح مكتبه، وفجأة وجد من يُلقي ب ( رزم ) من الملفات لتتراكم أمامه..
فحدجه بنظرات نارية وهو يهتف غاضباً:
ايه ده كله؟
رمقه زميله بنظرات باردة وهو يجيبه ببرود
أوراق ناس ومصالح متعطلة، شوف انت هتعمل ايه فيها
إلتوى فمه عمرو قائلاً بسخط:.

من أولها كده!
رد عليه زميله بتهكم:
أومال مفكر نفسك المدير، انت هنا في السكة الحديد، يعني غلب السنين وقرفه
استعنا على الشقى بالله
ده لسه في كتير، بس خلص دول الأول
ربنا يدبرها!
قالها عمرو وهو يحاول فهم طبيعة العمل في هذا المكان..

فكرت إيثار طوال طريق العودة إلى منزلها في تصرفات مالك العفوية معها، وتشكلت إبتسامة راضية على شفتيها، فهو يختلف عن ( شريف ) بكل المقاييس، فالأول شهم في طباعه، مرح في أسلوبه، رقيق في كلماته، ورجل في تصرفاته، أما الأخير فكان على النقيض تماماً..
زفرت في إنهاك، وأغمضت عينيها يائسة..
كم ودتْ لو لم تخضْ تلك التجربة المؤسفة التي جعلت ثقتها في الجنس الأخر تهتز..

ألقت روان بحقيبة مدرستها على الأرضية وهي تسب بحنق تعنف المعلمات مع الطالبات في المدرسة، وإصرارهن على تزويد حصص المراجعة، فنهرتها عمتها ميسرة قائلة:
يا بت اتلمي، والله تستاهلي اللي بيعملوه فيكي
زفرت قائلة بغيظ:
يا عمتوو دول مستقصدنا
هما عشان عاوزين مصلحتكم يبقوا ضدكم!
ألقت بجسدها على الأريكة، وتابعت بتذمر:
يعني ايه الفسحة تكون ربع ساعة بس؟ ده ظلم
ردت عليها ميسرة بهدوء:.

معلش، بكرة لما تخلصي ثانوية عامة، وتخشي الكلية اللي بتحبيها هتقدري قيمة الأيام دي
هتفت قائلة بضجر:
ده أنا روحي هاتكون طلعت
صاحت بها ميسرة وهي تنهرها:
بعد الشر عنك، ماتقوليش الكلام ده!
تنهدت بتعب وهي تتسأل:
هو مالك جه؟
اه من شوية، ومريح جوا في أوضته
نهضت بتثاقل من على الأريكة وسحبت حقيبتها خلفها قائلة:
طب أنا داخلة أشوفه.

فتحت روان الباب لتجد أخيها ممدداً على الفراش، وممسكاً بورقة ما في يده يدرسها بتمعن شديد..
قطبت جبينها، وتأملته لبرهة دون أن تصدر أي صوت..
لم ينتبه هو لوجودها، فزاد فضولها لمعرفة ما يشغل تفكيره ويلهيه عن الشعور بمن حوله..
إعتلى فمها ابتسامة ماكرة، وسارت بحذر على أطراف أصابعها وهي تقترب منه..
وبحركة مباغتة انتزعت من يده الورقة وهي تصيح بإنتصار:
بس قفشتك، ده جواب بقى ولا ايه؟

هب مالك من فراشه قائلاً بضجر واضح في نبرة صوته:
روان هاتي الورقة
ركضت مبتعدة عنه وهي تخبيء الورقة في يدها، وتحدته قائلة:
تؤ، مش قبل ما تقولي فيها ايه!
زفر بصوت مسموع وهو يحذرها:
يوووه، مش بأحب كده، هاتيها أحسنلك
هزت كتفيها رافضة، وصاحت بإصرار:
لأ..
ثم قامت بفتحها وهي تقفز فوق الفراش، وقرأت ما بها بصوت مسموع:
جدول محاضرات الفرقة الثالثة حاسبات!
في تلك اللحظة اختطف مالك الورقة منها، صائحاً بغيظ:
هاتيها.

ثم طواها ودسها في جيبه، وجلس على طرف الفراش وهو متجهم الوجه
جلست روان إلى جواره، وتسائلت بصدمة:
ده مش جدولك؟!
رد عليه بصوت قاتم:
مالكيش دعوة
ضربته بكتفها وهي تسأله بخبث:
انت جايب الجدول ده لمين؟
نظر لها شزراً ولم يجبها، فهمست له وهي تغمز بعينها:
مالوكة حبيبي، ده للجو صح؟
نهرها قائلاً بغلظة:
بت اتلمي
أضافت قائلة بمكر وهي تدقق النظر فيه:
ده لإيثار
تنهد ليجيبها بنفاذ صبر:
أيوه.

حركت كتفيها للأعلى، ورفعت رأسها في تفاخر، وصاحت مازحة:
مممم، سيدي يا سيدي، ده الحب بهدلة بصحيح
رمقها مالك بنظرات محذرة وهو يرد عليها بقوة:
حب! بلاش هبل، دي مجرد مساعدة
هزت حاجبيها بهمس مرح:
مساعدة بردك، هي بتبدأ كده
ماتبقيش بايخة
اوكي، هاتعمل بيه ايه بقى قولي؟
مممم، لسه مش عارف
سألته مجدداً بإهتمام:
طيب هاتشوفها امتى عشان تديهولها؟
رد عليها بفتور:
معرفش
مطت روان شفتيها وهي تقترح بجدية:.

طب ايه رأيك أنا أديهولها؟
رفع حاجبه للأعلى وهو يردد:
انتي!
لكزته في كتفه قائلة بمزاح:
اينعم، ومش هاقولها انه منك!
فكر مالك فيما قالته أخته بجدية، ووجد أنه إقتراحاً مقبولاً، فهو لا يضمن رؤيتها لاحقاً، فأبدى موافقته المبدأية عليه، بينما تحمست روان لفكرتها كثيراً، وقررت أن تزور إيثار مساءاً لتعطيها إياه…

إنتهت إيثار من تنظيف صحون الطعام، وكذلك الموقد، وخرجت من المطبخ لتجفف يديها في المنشفة المعلقة على بابه، وتسائلت بصوت جاد:
حد عاوز شاي معايا؟
نظر لها والدها رحيم من أسفل نظارته ليجيبها بهدوء:
اعمليلي يا بنتي
التفتت برأسها نحو أخيها، وسألته:
وانت يا عمرو؟ عاوز شاي؟
رد عليها بجمود:
لأ، أنا شوية ونازل القهوة
نظرت له والدته بإستغراب، وسألته مستفهمة:
القهوة، ليه يا بني؟
نفخ من الضيق وهو يرد:
زهقان، هاغير جو.

أومأت تحية برأسها وهي تطلب منه:
طيب، متتأخرش بس برا
زم عمرو فمه ليقول بسخط:
هو أنا عيل صغير؟!
ردت عليه والدته بصوت أمومي حاني:
لأ يا بني، بس انت عارفني، أنا بأقلق عليك
ربنا الحارس!
ثم عادت روان إلى المطبخ لتعد الشاي الساخن لها ولأبيها..

في نفس التوقيت، صعدت روان للطابق العلوي، ووقفت أمام باب منزل إيثار، وطرقت الباب وهي متحمسة لرؤيتها..
نهض عمرو عن الأريكة، وتوجه ناحية الباب ليفتحه، فتفاجيء بجارتهم الطائشة أمامه، فعبست ملامحه وسألها ببرود مستفز:
خير
إكفهر وجهها هي الأخرى، ورمقته بنظرات منزعجة وهي تسأله بجمود:
هو إيثار موجودة؟
سألها بصوت قاتم وهو يرمقها بنظراته الساخطة:
عاوزة منها ايه؟

شعرت روان بالإهانة من نظراته تلك، فهو يشعرها بأنها حقيرة ولا تليق بمستوى عائلته لتتحدث مع اخته، فظهر عليها الإرتباك والضيق وهي تجيبه:
كنت، كنت جاية أديها حاجة
مازالت تلك النظرة الإحتقارية ظاهرة بوضوح في عينيه، وتقوس فمه متسائلاً بإمتعاض:
ايه هي؟
عقدت ساعديها أمام صدرها، ونظرت له بتحدي وهي تجيبه بصوت متجهم:
والله حاجة بيني وبينها
زادت نظراته حدة وهو يسألها بجدية أخافتها:.

في ايه بينك وبين واحدة اكبر منك بكام سنة؟!
إرتخى ساعديها من صوته، وزاغت عينيها قليلاً رهبة منه، ولكنها عاودت السيطرة على نفسها، وقبل أن تنطق سمعت صوتاً أنثوياً مألوفاً يأتيها من الداخل ب:
بتكلم مين يا عمرو على الباب؟
صاحت روان بصوت مرتفع:
انا يا طنط تحية!
اقتربت منها تحية، ونظرت لها بإستغراب وهي ترحب بها:
روان، تعالي يا بنتي!
ابتسمت لها روان بإصطناع، وتابعت:
سوري إن كنت جيت من غير ميعاد.

بادلتها تحية الإبتسام وهي تحتضنها:
ولا يهمك!
أردف عمرو قائلاً بخشونة:
انا نازل يا ماما، أجيبلك حاجة وأنا جاي؟
تسلم يا بني
غمغمت روان مع نفسها وهي ترمقه بنظراتها المنزعجة:
أووف، مش برتحاله خالص
هتفت تحية بصوت مرتفع وهي تدير رأسها للخلف:
إيثار، تعالي كلمي روان
خرجت إيثار من المطبخ لتتفاجيء بوجود روان بالصالة، فتشدقت قائلة وهي تقبلها من وجنتيها:
إزيك يا روني، عاملة ايه؟
الحمدلله.

بعد لحظات، ولجت الإثنتين إلى داخل غرفة إيثار، فتسائلت الأخيرة ب:
ها، في ايه بقى؟
مدت روان يدها بالورقة لتقول بتنهيدة حارة:
اتفضلي يا ستي!
تناولت الورقة من يدها، وسألتها بإستغراب:
ايه ده؟
غمزت لها قائلة بهمس:
جدول محاضراتك يا جميل!
إرتسمت علامات الإندهاش على وجه إيثار، واتسعت عينيها بتعجب كبير، وقائلة بصدمة:
جدول محاضراتي!
ابتسمت لها وهي تقول:
أها، أي خدمة بقى يا حلوة!
سألتها إيثار بغموض:
مين جابه؟

غمزت لها روان وهي تجيبها بمكر:
اللي بالي بالك..!
فكرت إيثار في مالك، فهو الوحيد الذي يعرف بمسألة جدول محاضراتها، وتشكلت إبتسامة خفيفة على فمها..
راقبتها روان بدقة، وبدت هي الأخرى سعيدة بردة فعل إيثار، ولم تقاطع تفكيرها المتيقنة منه في أخيها…
ثم استأذنت بالعودة إلى منزلها، فودعتها إيثار شاكرة إياها على ما تفعله هي وعائلتها من أجلها…

كان الوقت قبيل الفجر بقليل حينما كان مالك لا يزال محدقاً في صورة فوتغرافية قديمة تجمعه مع أبويه الراحلين، تنهد بحزن عميق وهو يمسح بأنامله عليها..
أدمعت عينيه آسفاً على رحيلهما، ورغم مرور السنوات على تلك الحادثة المفجعة إلا أنه مازال يذكرها، وكأنها حدثت بالأمس القريب…

كان مالك جالساً إلى جوار أخته الصغيرة في المقعد الخلفي بسيارته والدته ويلهو بكرته الجديدة حينما حانت إلتفاتة من رأس والدته نحوه لتسأله بحنو:
أجيبلك تاكل يا مالك
لأ يا ماما، مش جعان
تعلقت روان بمقعد والدتها، وهتفت بصوت طفولي:
هاتلي ثاندوتس دبنة ( سندوتش جبنة )
ابتسمت لها الأم برقة مجيبة إياها:
حاضر يا روني
وفجأة اتسعت حدقتيها برعب جلي، وشهقت بصريخ مخيف:
حاسب يا رشاد، حاسب!
لألألألألألألألأ.

أطاحت سيارة نقل بسيارتهم الصغيرة، فإندفعت بقوة للجانب لترتطم بالسور الحجري قبل أن تنقلب رأساً على عقب…
كان أخر مشهد إلتقطته عينيه الصغيرتين هو نظرات الذعر في مقلتي والدته والتي تلون وجهها بدمائها المراقة، وصوت والده المنتحب وهو يلهث قائلاً بصعوبة:
م، آآ، مالك، آآ، أختك!

أفاق مالك من ذكرياته الحزينة وهو يشهق بصوت مكتوم، وتسارعت العبرات في الإنهمار من عينيه، فأبعد الصورة عنه، ودفن وجهه في راحتي يده، وأصدر أنيناً يحمل مرارة الفقد والحرمان، ثم رفع رأسه للأعلى، وتجمدت نظراته على آلة الكمان الخاصة به..
وببطء شديد نهض عن فراشه، وسار نحوها، وتلمسها بأصابع مرتجفة، ثم أسندها على كتفه، وأخذ نفساً عميقاً حبسه في صدره للحظات قبل أن يحرره..

بدأ مالك في عزف تلك المقطوعة الحزينة، والتي عبرت نغماتها الساحرة بصدق عما يشعر به قلبه…
استسلم لإحساسه العالي، وتناغمت أصابعه مع الأوتار فخرج اللحن شجياً مؤثراً..

تقلبت إيثار في فراشها، وتحرك جفنيها بصورة مقلقة..
كانت كالذي يقاوم شيئاً ما في منامه..
لقد رأته يهاجمها في أحلامها، حاولت الفرار منه، ولكنه تمكن منها، وطوق عنقيها بقبضتيه الغليظتين ليخنقها أكثر..
حاولت أن تصرخ، أن تستغيث بمن ينقذها، لكنها كانت عاجزة بين يديه…
وفجأة انتفضت مذعورة من نومتها، وقلبها يخفق بقوة..

تسارعت أنفاسها بشدة من فرط الخوف، وجابت بنظراتها المرتعدة الغرفة من حولها لتتأكد من أنه مجرد حلم لا أكثر..
رددت لنفسها بصوت لاهث:
مش حقيقي، الحمدلله، الحمدلله..

حاولت أن تضبط أنفاسها لتهديء من روعتها، فمجرد رؤيتها لخطيبها السابق في منامها تنغص عليها حالها، وتذكرها بمدى وضاعته معها وخسته حينما أطلق عنها الأقاويل الكاذبة والشائعات المغلوطة ليجبرها هي وأهلها على الانتقال جبراً لمكان جديد بعد أن شوه سمعتها ظلماً على يده..
تنفست الصعداء لوجودها بغرفتها، وانكمشت على نفسها في الفراش، وحاولت أن تنام مجدداً، لكن مازالت ذكرى تلك الكارثة تطاردها..

تسلل صوت اللحن الحزين من تلك الآلة إلى مسامعها، فعزفت بعمق على أوتار قلبها ولامست بصدق مشاعرها الدفينة، فأغمضت عينيها مستسلمة لنغماتها الساحرة، وإنسابت عبراتها تلقائياً على موسيقاها الآسرة، وتنهدت بحرارة لتنفس عن قدر قليل من تلك الأحزان الحبيسة في صدرها…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى