رواية وبقي منها حطام أنثى للكاتبة منال سالم و ياسمين عادل الفصل التاسع عشر
لاحقاً، تعجب نادر مما حدث مع رفيقه مالك خلال نهاره الأول بالشركة، وضرب كفاً على الأخر قائلاً بإبتسامة متحمسة:
أنا مش مصدق، إنت مع بنت سلمان بيه ومن أول يوم ليك! بركاتك يا سيدنا
هز مالك كتفيه في عدم مبالاة، ورد بفتور:
أنا مكونتش أعرف انها بنته، افتكرتها موظفة في الشركة، وتعبت فساعدتها، عادي يعني مش قضية!
أوضح له نادر قائلاً بجدية:
هي شغالة فعلاً في الشركة، بس مش معاه، كأنها زي أي حد فينا.
ضاقت نظرات مالك، وهتف بإيجاز:
غريبة
برر له نادر بهدوء:
ولا غريبة ولا حاجة، الناس هنا بتعتمد على نفسها في تحقيق أحلامها، مش زي عندنا
أها
ثم صاح بنبرة مفعمة بالحيوية:
تعالى هأعزمك على أكلة حلوة هاتعجبك في مطعم شيك
هز مالك رأسه وهو يقول بحرج قليل:
شكراً يا نادر، مافيش داعي
لكزه نادر في كتفه وهو يقول بمرح:
يا عم شيل التكليف بينا، تعالى بس! وقولي رأيك!
ماشي.
وبالفعل ولج الاثنين إلى داخل أحد المطاعم القريبة من ساحل البحر..
أبدى مالك نظرات إعجاب واضحة بتصميم المكان الراقي والذي كان يتناسق في ألوانه مع زرقة البحر الذي يعشقه..
أشار له نادر بالجلوس على إحدى الطاولات القريبة من المياه، وهتف بإنفعال وهو يحدق في شاشة هاتفه:
شوف إنت هاتطلب ايه عقبال ما أرد على المكالمة دي
طيب
أمسك مالك بقائمة الطعام، ودقق النظر في محتوياتها..
تعذر عليه أن يفهم المكتوب فيها، فضغط على شفتيه، وزفر بخفوت، ثم رفع رأسه للأعلى وتلفت حوله بنظرات حائرة..
تأمل المكان بنظرات أكثر تفحصاً ليلهي نفسه حتى يعود رفيقه فيترجم له المكتوب، وينتقي ما يريد..
لمح عدة آلات موسيقية متراصة على مسافة قريبة منه مشكلة فرقة صغيرة، ولكن بدون أعضاءها…
مرر نظراته على كل واحدة منها على حدا دون اهتمام جدي حتى وقعت عينيه مصادفة على تلك الآلة، فخفق قلبه سريعاً، وتسارعت دقاته، وتسمرت أنظاره عليها..
إنها معشوقته، مترجمة مشاعره، آلة الكمان..
تلك الآلة التي حطمها في لحظة هوجاء منه لينفث عن غضبه الكامن في صدره..
التوى ثغره بإبتسامة راضية وهو يتذكر براعته في العزف على أوتارها..
لم يستطع مقاومة رغبته في تلمسها من جديد..
فرك طرف ذقنه، ونهض بحذر من على مقعده، ثم تحرك صوبها وكأن بها هالة سحرية تجذبه إليها..
وقف قبالتها متردداً، وبشغف صادق واضح في عينيه مد أنامله ليتلمسها..
لم يشعر بنفسه إلا وتلك الآلة موضوعة على كتفه، فأغمض عينيه، واهتز جسده برغبة ملحة في تجربتها..
استسلم لمشاعره، وبدأ في العزف عليها بإحترافية واضحة..
يا الله كم يعشق تلك الآلة، لقد أعادته ألحانها الشجية إلى بلده، إلى غرفته، وإليها..
قاوم تلك العبرات التي تراقصت في جفنيه تأثراً بعزفه على أوجاع قلبه…
في تلك اللحظة ولجت ( لانا ) إلى داخل المطعم مآسورة بسحر تلك النغمات الملائكية..
كانت على وشك الانصراف بعد انتهائها من تناول طعامها، ولكن أوقفتها صوتها الشجي الذي لامس قلبها..
اقشعر بدنها من موسيقاه الصادقة
التفتت لتنظر إلى صاحب تلك الأصابع الذهبية، فزاد ذهولها حينما رأت منقذها أمامها..
انتهى مالك من عزف مقطوعته، فتفاجيء بتصفيق حاد من رواد المطعم، ففتح عينيه مذهولاً، وحدث مصادفة ما لم يتوقعه…
عانت إيثار من إرتفاع في درجة حرارة جسدها، وسهرت أمل على تمريضها لعدة أيام حتى بدأت تتماثل للشفاء، واستعادت قدراً من عافيتها…
تابعها محسن ممتعضاً، وهتف متذمراً بالقرب من فراشها:
هو أنا كنت ناقص!
رمقته أمل بنظرات جارحة وهي تهمس فيه بغضب:
حرام عليك إنت مش شايف كانت عاملة ازاي
أفاقت إيثار على صوتهما، وادعت النوم لتعرف الحقيقة المرة..
هتف محسن بنفاذ صبر وهو يشيح بيده:
ده اسمه دلع، وأنا زهقت!
صاحت أمل بصرامة:
محسن، خلاص، مالوش لازمة الكلام دلوقتي!
رد محسن محتجاً بنظرات متهكمة:
أومال أنا متجوز ليه، عشان أقعد كده محلك سر!
كزت أمل على أسنانها قائلة بحنق وقد اكتسى وجهها بحمرة الغضب:
اتقي الله، مش كفاية ضحكت عليها
ضغطت إيثار بقوة على شفتيها لتمنع تلك الشهقة من الصدور، فصادمتها في محسن كانت تفوق أي صدمة في حياتها..
ها قد ألقى بها أخيها في التهلكة..
وتحملت بمفردها تبعات تلك الزيجة الموصومة بالخداع والكذب…
صاح محسن بصوت محتد وهو يرمقها بنظرات مستنكرة:
هو انتي معايا ولا معاها؟!
ردت عليه بأسف وهي تهز رأسها بإشفاق:
هي صعبانة عليا
أكمل محسن قائلاً بقسوة:
ميصعبش عليكي غالي!
ثم وضع قبضته أسفل فك زوجته، وهمس له غامزاً بعينه:
اوعي تكوني غيرانة منها يا أمولة
لوت فمها لتجيبه محتجة وهي ترفع حاجبها للأعلى:
أغير منها؟! ايش حال أنا اللي قايلالك اتجوز!
داعب صدغها بأصابعه الخشنة، وأخفض صوته ليقول بلؤم:
حبيبتي، أنا عارف إنك قلبك طيب، وأنا وعدتك جوازتي منها عشان الخلفة وبس!
نزلت كلماته على قلب إيثار كالخنجر الذي أدماه فوراً ببشاعة اعترافه..
هو لم يحبها من الأساس، ولم يسعْ إليها إلا لغرض واضح…
أطرقت أمل رأسها وهي تعاتبه بحزن بادي في نبرتها:
مش لازم تفكرني يا محسن!
لف ذراعه حول كتفها، وقربها منه، ثم قبلها أعلى رأسها، وتأسف قائلاً:.
حقك عليا، بس انتي اللي بتضطريني أقول كلام مش عاوزه
تراجعت مبتعدة وهي تقول بصوت أقرب للإختناق:
هو كان بإيدي، ده أمر ربنا!
رد عليها بجمود وهو يشير بيده بلا مبالاة:
وأنا جبتلك اللي هاتخلف!
صدرت شهقة مكتومة من صدر إيثار لم تتمكن من منعها، وانهمرت العبرات بغزارة من مقلتيها..
استدار الاثنين نحوها، وتفاجئا بيقظتها، فابتلعت أمل ريقها، وهمست بصوت مستنكر:
بس يا محسن أنا افتكرتك هاتجوز واحدة غير دي.
سلط محسن أنظاره الجريئة على إيثار التي كانت تحدق فيهما بذهول، وجسدها يرتجف من الخوف..
لم تتخيل أن ينتهي مصيرها هكذا، زوجة ثانية مخدوعة قد جيء بها إلى هنا من أجل هدف دنيء..
عاود هو النظر إلى زوجته وتابع بخبث:
ليه يعني؟ هو أنا ماليش نفس في الحلوين!
لو كانت النظرات تقتل لأردت أمل بنظراتها المميتة زوجها تواً بسبب أسلوبه الفج في الحديث..
لم تستطع تحمل طريقته، فتركته بمفرده في الغرفة مع إيثار..
وبالطبع انتهز الفرصة ليعبث معها كما يريد تحت مرأى ومسمع زوجته التي باركت زيجته…
أغلق محسن الباب، واستدار ليواجه إيثار التي انكمشت على نفسها خوفاً منه..
دنا منها بخطوات بطيئة وكل نظرة من عينيه تلتهمها حية..
صاحت فيه بصوت صارخ رغم ضعفه وهي متشبثة بطرف الغطاء:
ابعد عني، أنا بأكرهك، إنت كداب، كداب، كداب!
هز رأسه مستنكراً وهو يعاتبها بهدوء زائف:
ليه بس الغلط يا إيثار، ده أنا قولت هانبقى سمن على عسل
صرخت مهددة وقد تحولت نظراتها للعدائية:.
أنا هاقول لأهلي على كدبك وخداعك ليهم، أنا آآ…
قاطعها قائلاً بإبتسامة متسلية:
انتي ناسية انك معايا الوقتي ومحدش فيهم يعرفلك طريق
حدجته بنظرات نارية وهي تتابع بإصرار:
أنا مش هاستنى هنا لحظة
نظر لها بإستخفاف، ثم أكمل بدناءة وقد تحولت نظراته للشهوانية:
ومن قالك إنك هاتمشي أصلاً من هنا، انتي مراتي يا أمورة!
ارتجف جسدها من نظراته الوقحة، وهتفت من بين أسنانها:
أنا هاطلق منك وآآ..
هوى محسن بصفعة قوية على صدغها أصابتها بالصمت المؤقت وألجمت لسانها فوراً..
فتابع بنبرة عنيفة وقد أظلمت عيناه:
مش هايحصل، ومش هاتمشي من هنا قبل ما أخد اللي عاوزه منك
ثم انقض عليها قابضاً على ذراعيها وهي تصرخ فيه أن يتركها، ولكن عقد النية على تحقيق مبتغاه معاها، حتى لو كان بالإجبار…
طوال ليال عدة، قاست إيثار من عنف محسن المفرط معها، ومن استباحته لجسدها بشتى الطرق..
وكلما زادت مقاومتها له، زاد إعتدائه بالضرب عليها..
لامت أمل نفسها بشدة على ما يحدث لتلك المسكينة، فهي من وافقت على اقتراح زوجها بالزواج من فتاة صغيرة لا خبرة لها بالحياة ومغلوبة على أمرها من أجل انجاب الأبناء..
وأي أبناء ستنجبهم لأبٍ مثل ذلك القاسي الشرس..
آلمها مشهد ضرب إيثار وصفعها المتكرر من أجل الخضوع لرغباته..
شعرت كأنها هي التي تضرب، هي التي تعذب..
زاد تعذيب ضميرها لها، وجاهدت لتبعدها عن طريقه، ولكنه كان كالأسد الجائع الذي أتته غزاله الشارد فطاب له أُكلها، فأصبحت عاجزة أمام بطشه…
وذات يوم، كان الإعياء جلياً على إيثار، جسدها منهك، وجهها ذابل وأكثر شحوباً، لم تستطع ابتلاع لقيمات طعامها المعدودة..
وتقيأت بحرقة واضحة في معدتها كل ما تضعه في جوفها..
إنتاب أمل القلق، ودارت برأسها الظنون…
وتساءل عقلها بعدم تصديق، هل يعقل أن تكون ( حاملاً )…
(( وأهدوني قلباً غير قلبي..
أصابه الصدأ وتبلد
وصبوا الثلج فوق صدري..
أصابه التهشم وتجمد ))
جلست أمل تفكر مشدوهة، هل حقاً ورغم قِصر المدة التي مرت على تلك الزيجة أن تكون أثمرت بتكوين نطفة معلقة برَحِم تلك الصغيرة الساذجة، أيعقل أن تحمل في أحشائها طفلاً لم يردْ الله أن ينعم عليها به، وهي التي كانت زوجة لسنوات تعاني من حرمان نعمة الإنجاب؟.
حكت رأسها وهي تفكر جيداً فوجدت أن الأفضل هو إخبار زوجها لينوب عنها بالتصرف، وما كان من محسن إلا أن أحضر هذه السيدة الودودة التي تدعى أم فتحي فهي صديقة العائلة منذ زمن وتعلم أسرار وخبايا ذلك البيت وكل ما له صلة بهم..
لبت المدعوة أم فتحي طلب محسن لها وحضرت للكشف على إيثار سراً للتأكد من الشكوك المزعومة، والإفصاح عن صدق هذه الأعراض التي شعرت بها.
في حين كانت إيثار متذمرة للغاية، ورفضت بإصرار جاد أن تكشف تلك السيدة عليها ولكن كيف ستصمد تلك الرقيقة الهشة امام ذلك القاسي الذي لا يرحم بإهاناته وبطشه اللفظي عليها، وكما هو المعتاد أرغمها جبراً لكي تنصاع لرغبته في الكشف عليها…
وبالفعل تفحصتها أم فتحي كما إعتادت أن تفعل مع غالبية نساء قريتها على أمل أن تبشر رب المنزل بالبشرى، فيغدق عليها بالحلوان..
وعندما ولجت خارج الحجرة نطقت بلهجة مشبعة بخيبة الأمل وهي مطرقة الرأس:
مفيش حبل ولا حاجة ياسي محسن! الله يعوض عليك
تجهم وجه محسن بشدة، وصاح بإمتعاض جلي وقد عقد حاجبيه:
يعني إي؟! لسه مفيش حاجة؟!
رسمت أم فتحي ابتسامة تنجح في صنعها في المواقف المشابهة، وهتفت بحماس زائف لتدب فيه الأمل:
متقلقش ياسي محسن هي كويسة وتقدر تخلف في إي وقت بس الصبر، لسه معداش على جوازكو يا ما.
وكأن كلمات تلك السيدة كالطعنات المسمومة التي تغرز في قلب أمل التي تقف على مقربة منه، وتتابع بتحسر بادي على وجهها ما يحدث..
ورغم شعورها بالإرتياح لكون إيثار لا تحمل جنيناً في أحشائها، إلا أن هناك شيئاً ما يعكر مزاجها…
أصاب محسن الوجوم، ثم أشار لها بيده وهو يهتف بلهجة مقتضبة:
طب روحي انتي
أخفضت أم فتحي بصرها وهي تمر من جواره في حين عقدت أمل ساعديها أمام صدرها وتشدقت بتهكم:.
مستعجل ليه ياعريس!؟ لسه بدري!
شعر بكلماتها المتوارية وكأنها تنغزه، فتلوى ثغره وهو يردد بحنق:
بقولك إيه يا أمل، مش ناقص غيرة وشغل ستات دلوقتي، أفرضي كانت فيها عِلة ( عيب ) هي كمان!
طعنها بقسوة مفرطة في فؤادها بكلماته الفظة، فتلون وجهها بحمرة محتقنة للغاية، وانفعلت قائلة والغضب يتطاير من حدقتيها:
قصدك إيه يا محسن؟
ارتفعت نبرة صوت محسن وظهرت فيه الخشونة:.
ولا قصدي ولا قصدك، انا مش فاضي أدور على واحدة غيرها تجيبلي عيال ولا معايا تل فلوس قاعد عليه عشان اصرف على جوازات تانية!
وضعت أمل يدها على منتصف خصرها، ورمقته بنظرات نارية وهي تتابع بحنق:
محدش قالك تتجوز بنت بنوت وصغيرة وأكيد طلبات أهلها كتير، كان ممكن تتجوز مطلقة ولا أرملة، بس أنت راجل عينك فارغة وزاغت عليها مش حكاية خلفة وبس!
حدجته بنظرات مطولة تحمل الإزدراء، ثم تركته و انصرفت من أمامه بخطوات متشنجة في حين أطلق هو زفيراً محتقناً وأدار مقبض الباب بعنف ثم ولج بإندفاع للداخل وهو يرمق إيثار بنظرات مخيفة إلى حد ما جعلت جسدها يجفل بشدة منه..
و بضيق بيّن نطق ساخراً غير عابئ بها:
سلامتك يا، ياعروسة.
أشاحت بصرها للجهة الآخرى ثم أراحت رأسها على ظهر الفراش وأغمضت عينيها گتعبير منها على عدم اهتمامها بما سيلقيه عليها، أثارت حنقته، وأشعلت فتيل الغضب عنده، وبلا تفكير عقلاني اقترب من الفراش، وبلا تمهل باغتها بإنحناءه الشرس عليها بجذعه فشهقت مذعورة..
رأت في عينيه وميض شيطاني سرب الرعب إلى أوصالها..
أطال من نظراته الجريئة والتي تحمل بين طياتها الإهانة، وهتف مستهزءاً:.
عيب ياحلوة أكون بكلمك وتودي وشك الناحية التانية..
ثم أطبق على فكها بكفه، واعتصره بقوة آلمتها، فجعلتها تئن بشدة، وتابع قائلاً بشراسة:
هما أهلك وأخوكي الدكر مش مربينك ولا إيه؟
استفزتها إهانته البغيضة لعائلتها، فحتى إن كانوا أخطأوا في حقها، لا يحق له بأي حال أن يسيء إليهم، لذا استجمعت قوتها، وأبعدت كفه عن ذقنها، وهتفت بنزق وقد تحولت نظراتها للوحشية:.
أنا متربية غصب عن إي حد، وياريت تشيل أهلي اللي عمليلك عقدة من دماغك، كفاية أنك حرمتني حتى أكلمهم!
أمسك بفكها بقسوة، ثم غرز أصابعه بخديها مما آلمها كثيراً ولكنها وارت ذلك خلف حدقتيها العنيدتين ورمقته بإستحقار فخرجت أنفاسه الساخنة وكأنها ألسنة من اللهب تشعل بشرتها:
أهل إي بس! خلينا ساكتين ومتسترين، أهلك دول ما صدقوا الفرصة تيجي عشان يخلصوا من همك وأولهم أخوكي اللي ماصدق طلبتك منه!
رغم فظاظته واسلوبه الفج إلا أن قال الحقيقة الموجعة، عائلتها تخلت عنها، وألقوا بها في أحضان شخص خدعهم بسهولة دون تحري الدقة عنه وكأنها عار يحاولون ستره..
استمر في التحديق إليها بنظرات احتقارية ليقلل من شأنها…
أدمعت عيناها من كلماته التي ضغطت على جرحها المفتوح، فهمس لنفسها وهي تئن بمرارة:
قادر ربنا يخلصني من اللي انا فيه.
ضغطته القاسية العنيفة المستمرة على فكها جعلت الدماء تظهر من خلف بشرتها وشفتيها واللاتين اصطبغتا بحمرة مغيرة، فأثارت غريزته الحيوانية لإلتهامها بشراسة إلتهاماً مؤلماً موجعاً وكأنه يلقنها درساً قاسياً ليعنفها بقوة فلا تتجرأ على مواجهته مرة أخرى..
هجم عليها كحيوان ضاري، وإنهال عليها بقبلاته الموجعة، فكانت شهقاتها تصدر بخفوت ليبتلعها داخل فمه..
أصابها ما يفعله بها بالتقزز، بالنفور الشديد، بالإشمئزاز، ناهيك عن الإهانة المتعمدة مما يفعله بها..
تنازل عن أدميته وزاد من حدته العنيفة، فعض على شفتيها بقوة لتسيل منها الدماء…
صرخت متأوهة، لكنه ابتلع صراخاتها، واستمر في دناءته الحيوانية معها..
لم تعد تتحمل أنفاسه ولا لمساته المهينة، فغرزت أظافرها في صدره لتؤلمه ثم خدشته وخدشته بوحشية، فهي لا تملك سواهم كسلاح لتذود عن نفسها من ذلك اللا آدمي..
حتى اضطر في النهاية أن يبتعد عنها قليلاً لينظر إلى فعلتها، فما كان منها إلا أن دفعته بقوة خائرة لتصبح لديها الفرصة لتتحرر منه، ثم ركضت لخارج الحجرة وهي تلهث لتدخل المرحاض وتختبىء بداخله..
أوصدت الباب خلفها، واستندت بظهرها عليه، وأطلقت العنان لشهقاتها الموجعة..
ها هو مجدداً يغتال روحها بوحشية ليقضي على ما تبقى منها، ويتركها حطام أنثى…
وقفت أمام حوض المياه، وفتحت الصنبور على نهايته، ثم انحنت لتتجرع المياه..
تغرغرت بتقزز من حالها لتزيل دنائته العالقة بفمها، وبصقتها وهي تلهق بصعوبة..
امتزجت قطرات الدموع بقطرات المياه الباردة على وجهها.
زادت شهقاتها، ونظرت إلى انعكاس صورتها، ليست تلك هي الشابة الجميلة، ذات البشرة النضرة..
لقد باتت أكبر بسنوات من عمرها الحقيقي..
أنهكت قواها، واستبيح جسدها بأبشع الطرق المهينة..
وخزات مريرة تحرق صدرها، آلام موجعة تزيد من اعتصار قلبها..
نطقت بحروف متقطعة برز فيها الصدق وهي تشكو لمولاها قائلة:.
حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي ربي هو مولاي وهو نعم الوكيل
كتمت صرختها العميقة بكفيها، وأخفضت رأسها لتكمل بكائها المرير..
مرت لحظات عليها، وشعور غريب تسلل إلى روحها المقهورة..
هل تشعرون بذلك، حينما يتملكك يقين بأن أبواب السماء منفحتة عن آخرها لتتلقى دعواك ومناجتك..
وكأن الله بطبقة السماء الأولى يستمع إليك
رعشة خفيفة دبت في جسدها، وكأنها مسحة سحرية على ظهرها أحست بها..
نعم هناك شعور بالطمأنينة تخلل إليها، ويعطي لها الوعود بالفرج القريب…
أمل جديد ظنت أنه موجود وسيتحقق فتزال عنها همومها للأبد، عليها فقط أن تتحلى بالصبر…