كل إمرء يعيش سجنه الخاص مظلوما كان أو مجبورا أو بإرادته فتختلف القيود وتبقى الحبسة هي هي ذاتها..
الساعة الثانية
منتصف النهار..
عادت (هبة) إلى منزلها وقت استراحة الغداء كالعادة، فتحت الباب بيمينها ويسارها تحمل كيس البقالة، وصل إليها صوت (سيف) الباكي وجدت(مها) تهدهده وهو يأبى أن يستسلم لصوتها الحنون..
وضعت كيس البقالة على طاولة المطبخ بسرعة وتوجهت نحو غرفة الصغير وهي تقول:.
أنا جيت! عاملين إيه ياحلوين!
وضعته (مها )بين يديها وقالت:
خدي هزي بيه شوية! من الصبح وهو زي مانتي شايفة، عنده غازات واجعين بطنه هروح أجيبله دوا وأرجع خليكي معاه، بلاش ترضعيه عملتله رضعة من شوية بس هو شبعان…
تركتهما بمفردهما وغادرت تحضر الدواء، جلست (هبة )على الأرض والصغير( سيف) لايزال يبكي محمر الوجه، مدت رجليها ووضعته عليهما تسند رأسه إلى وسادة صغيرة وكشفت عن بطنه وراحت تدلكها بشكل دائري وتهزه وهي تحدثه مبتسمة:.
أنا أسفة ياحبيب ماما، ماخدتش بالى من أكلي فحصلك كده، ماتزعلش مني وحياة أبوك، ولا أقولك بلاش أبوك وسيرته! بس تعرف يانور عيني انت، أنا بعد ماحطيتك في حضني سامحت أبوك دنيا وآخرة، أيوة شفت بقى! عشانك إنت سامحته والله.
تعرف طول عمري كنت بتمنى يكون عندي أخ أو أخت بس جدتك ماكنتش فاضية يادوب تهتم بيا، طلبت منها كتير تجيبلي أخ وكانت بتشخط فية وتقولى انتي فكراه لعبة أجبهالك، ده مسؤولية مش هقدر عليها بوضعي ده ماكنتش اعرف وقتها يعني إيه مسؤولية غير لما بقيت انت في حضني..
بس عمري ماهعتبرك واجب إنت أخويا اللي كنت بحلم بيه وإبني اللي بسببه اتمسكت بالحياة و حاربت عشان حريتي، أنا بحس إني مسؤولة منك مش العكس.
فضحك (سيف) وضحكت وهي تقبل بطنه المنتفخة قائلة:
-اكيد بتقول مامي هبلة إكبر انت بس وهاتشوف جنان مامتك على أصوله.
قبلت رجلاه الصغيرتان وهو يلاعبها بيديه فدخلت والدتها تحمل ملعقة صغيرة و زجاجة المحلول فملأت جرعة منه و دستها في فم الصغير الذي حظي بوقت جيد مع أمه، فعاد لحضن جدته وشيء فشيء استرخى وغاص في نوم عميق، بينما( هبة) وجدتها حجة مناسبة تتملص فيها من موعدها المقرر مع (عز)فاتصلت به تخبره بمرض طفلها واعتذرت له كما طلبت إجازة لبقيّة يومها وستنهي ماعليها إنهاءه من البيت فوصلها صوت (عز) المتذمر:.
هعمل إيه دلوقتي يا هبة لازم حد معايا يلخص الإتفاقيات ويعمل العقود وووو..!
فلمعت عينا (هبة) بمكر وقالت:
بسيطة يا عز، خد نور معاك!
صمت للحظات ثم قال:
نور بتسرح كتير، بتركز على البركة و بعدين، الصراحة…
صمت فقالت( هبة )مبتسمة:
– هااا!
قال بإرتباك:
أنا بتلخبط لما بتبقى جنبي!
فردت مشاكسة:
ياسيدي! لما إنت بتحبها كده ما تصارحها.
فقال:
خايف أصارحها تصدني، ممكن تقفش وتسيب الشغل، لالا خليني كده من بعيد لبعيد أحسن!
فقالت:
تصدك مين يامتر! روح روح، كلمها كده هتلاقيها بتقولك تعالى يوم الخميس وهي هتروح تشتري شربات على طول..
فقال متحمسا:
بجد ياهبة! يعني ممكن توافق؟
فقالت:
أكيد ياعز! توكل على الله ومش هتكون غير راضي ان شاء الله!
قال بحماس:
-هكلمها ياهبة، هكلمها، سلام.
أنهت المكالمة و جلست مكانها صامتة وقد ذكرها (عز) بنفسها سابقا، كيف جعلها الحب مندفعة و حالمة قبل أن تنصدم بالحقيقة التي جعلتها تخشاه إلى الأبد..
تذكرت ذلك العاشق الآخر، (حمزة )!
نظرت إلى كومة الرسائل التي تتموضع فوق مكتبها الصغير فاستقامت وتوجهت نحوهم وأخذت بين يديها بظرف وعادت تجلس مكانها وهي تفتحه:
اليوم، في الواقع لقد تاهت مني الأيام لكنني أوقن أننا بذات السنة لم تتغير بعد ( ٢٠١١)..
وأنا، لازلت أحافظ على بعض ماتبقى من (حمزة) بداخلي.
قال لي العم (عزيز )أن بعض الأيام قد مرت.
على سقوط النظام القديم بينما كنت أرقد في العيادة نتيجة صدمة عصبية من فرط التعذيب، لكنني لم أشعر مطلقا أنني جثة ترقد على فراش قاس مقيدة بجنزير كأنهم يخشون أن يفر الموت بها بعيدا..
كنت أشعر أنني أحيا بسلام بعينيك، نتقابل دائما في مكان جميل أنتظر وصولك وبيدي وردة وتلاقيني بإبتسامة أجمل من الوردة، يفوح عطرك بين يدي فيسدٌ شوقي إليك، كم أنا عاشق؟!
إنني أبالغ في العشق حتى لا أموت، إنه الشعور الذي أمارسه دون جبر، دون كبت، دون مراقبة، ودون تعذيب!
إنتي أحبك كما لو كنت الروح التي تمسك روحي بشدة وتثبتها بداخلي مهما عانت..
أشتاق إليك يانسمة، أتفعلين؟
لن أنسى أبدا هذا اليوم الذي سحبني الضابط فيه إلى قبو واسع، بداخله ثلاثة ممزقين غيري، دفعني بقوة لأسقط بين يدي أحدهم، فابتسم لي وهو يقول عزيز، أخوك الكبير عزيز.
وصار لي الأخ الكبير الذي لطالما كنت أتمنى أن أحظى به..
من قال أن لا ملامح للحب على وجه الإنسان! أدركت ذلك من أول وهلة وقعت عيناي على عزيز، إنه يشع حبا، الحب بكل توجهاته! فما أجمل الحب يانسمة!
أعطاني ورقة وقلم وقال أكتب شوقك ياحمزة فكتبت على رأس الصفحة نسمة
تلاشى كل شيء بذاكرتي إلاّكِ، كيف حالك؟ حين أفكر فيك-كل ثانية حتى بنومي وأحلامي- يمزق قلبي حزنك عليّ، أظنك تتسائلين عن كوني حيا أم لا؟
أنا أحياك وأحيا بكِ، آخر ما كان بيننا هو مايجعل قلبي ينبض داخل هذا القبر، فستانك الأزرق الذي جعلني أميزك من مدخل الجامعة ويدك الدافئة التي وضعتها على كتفي وأنت ترددين خلي بالك من نفسك ياحمزة ما أحلى حمزة من شفتيك!
أمسكت هاتفي لحظتها وقلت لأمي: لنخطب نسمة! فأجابتني: إشترِ خاتم نسمة!
واشتريت وصالي مع نسمة، قبل أن أضعه في أصبعك تفاجأت بالقيد على معصمي..
أعتذر لخذلانك يانسمة!
هلا أخبرتني عن حالك! ألم يحن الوقت لأرى رسائلك بدوري تصلني في هذا المنفى فتحيي قلبي الذي يذوى ألما؟
أريد أن أسمع صوتك في سلامك وينتفض قلبي لخوفك وينبض لاهتمامك، أريد أن أستنشق عاطفتك من الحبر الذي اختلط مع عطرك..
آه يانسمة! كل شيء تاه مني إلاكِ!
فإلى لقاء قريب يامهجة القلب..
ربما هو حلم بعيد لن يتحقق أو ربما اقترب تحقيقه..
سأتمسك بالأمل
حمزة.
سيل من الدموع ينهمر على خديٌ (هبة) التي تمسك الرسالة بيد مرتجفة فصدرت منها آهة شفقة وغصة على حال هذا المحب الذي يتعلق بأمل لو عرف أنه وهم لانتهى.
مسحت دموعها وأخذت ترتشف بعض الماء لتهدأ فدخلت والدتها تناديها من أجل الغداء لتجدها على حالتها تلك فاقتربت منها وجلة وقد ظنت أنها تبكي آلامها بسبب زوجها السابق التي لاتزال كندبة بقلبها قالت وهي تحتضنها:.
لو عايزة أغنيلك عشان تنامي قولي، مش لازم تعملي زي سيف وتعيطي!
ضحكت( هبة )رغما عنها وقالت:
ليه الحب مربوط دايما بالوجع؟ بنحب ليه ونخلص لناس تخون براحة ضمير؟ وليه لما نلاقي الحب الحقيقي بياخده النصيب مننا؟
أبعدتها (مها )عنها قليلا وقالت:.
بخصوص النصيب ده مش بإدينا فملناش حق نعترض على حكمة ربنا، أما الناس اللي مابتقدرش الحب وتغدر دول بسبب إختيارتنا اللي مندفعة ومش سليمة، بننبهر بالحاجة من برا بس جواها مصدي ومالوش قيمة، زي يوسف! الناس دي مايتزعلش عليها ياهبة، دي مجرد دروس تعلمنا ازاي نقدر الناس وندي كل حد قيمته يابنتي!
ماتوقفيش حياتك وتزعلي على حد خسارة فيه كلمة راجل، احمدي ربك على النعمة اللي إدهالك من التجربة دي، ابنك سيف! الملاك اللي من يوم ما جيه ع الدنيا وهو مالي حياتنا.
أومأت( هبة )برأسها ثم أظهرت الرسالة لوالدتها وأردفت:
حمزة ياماما، مش لازم يعرف أن حبه وهم ومتعشم على قلب واحدة خاينة.
أخذت (مها) الرسالة وقالت بحزم:
مالناش دعوة بمشاكل الناس، ومن الاحسن ماتفتحيش الرسايل دي تاني لو سمحتي!
اقتربت منها (هبة) وقالت بحماس:
فكري فيها ياماما، الرسايل دي نلاقيها احنا ليه؟! مش يمكن عشان نساعده!
فردت (مها):
-نساعده؟! نساعده في إيه، ده مسجون سياسي! إنتي مجنونة!
فقالت (هبة) معترضة:
وإيه يعني، ياما في السجن مظاليم!
أشهرت( مها) أصبعها وهي تهدد( هبة):
طول عمرك متسرعة ومندفعة وآخر مرة كنتي هتخسري حياتك، أنا مش هسمحلك تاني تتصرفي على هواكي! حياتك ماتخصكيش لوحدك، أنا وسيف جزء منها خليكي فاكرة.
تجهمت( هبة )وجلست ساهمة بينما والدتها تردد:
-الغدا عندك ع السفرة، كلي أنا هصلي وأنام شوية قبل مايصحى سيف.
لم تقتنع كثيرا بكلام والدتها، فطبيعة (هبة )العنيدة تمنعها من التنازل والتخلي عن شيء قد فكرت فيه بسهولة، لمعت بعقلها فكرة فاتجهت إلى المطبخ وراحت تعمل بهدوء على التحلية التي تعدها..
وبالنسبة إلى الحب الذي يبدأ بإعجاب وصداقة يغمرها التردد فالحل لصفائه يكون، كلمة!
عاد (عز) إلى المكتب بعد ان أنهى بعض الأعمال العالقة وقد توجه نحو مكتب (نور) الذي تتشاركه مع (هبة) لكنه وجده خاليا، أخذ هاتفه يتصل على رقمها لكنها لم تجب أيضا فتساءل عن مكانها وقد أكد لها موعد الذهاب..
توجه إلى الخارج مجددا تنتابه الحيرة لكنها سرعان ماتبددت و قد تقاطع طريقيّهما أما مدخل البناية فزفر براحة و هو يراها تتجه نحوه بابتسامة، كانت تبدو جميلة جدا، لباسها الرسمي المحتشم يزيدها أناقة، ألقت التحية عليه فتعثرت الكلمات بلسانه فقال وهو يشيح بنظره عنها:
اتأخرتي يانور، يلا بسرعة، الحقيني!
ضربت( نور) الأرض بقدمها وهي تزفر بضيق وتردد وهي تلحق به:
بارد، بس يخربيت جماله!
ابتسمت وهو يفتح لها باب السيارة لتجلس ويعيد غلق الباب ويجلس بجانبها وقال:
جهزتي الملخصات اللي قلتلك عليها وعملتي منها نسخ؟
فقالت وهي تضرب على حقيبة يدها:
جاهزين يا أستاذ عز زي ما طلبت حضرتك!
فقال وقد التفت نحوها بدهشة:
إيه الرسمية دي؟ إحنا صحاب يانور ولا نسيتي!
فقالت باستنكار:
صحاب، إنت متأكد؟ معرفش ليه بقيت أحس إنك بتتضايق مني على طول.
لفهما الصمت فلم يستطع تفنيد ماقالته ولم تستطع قول المزيد عن ماقالته فاكتفيا بما قيل لحين مايجدان التحدث عنه…
انتهى الاجتماع برضاء الطرفين وعلى غير العادة كانت( نور) نشيطة ومتفطنة طوال الوقت و (عز) هو من كان يشرد قليلا فيضطر موكله أن يعيد إقتراحه مرة أخرى شعرت (نور )وقتها ببعض النصر والسلام يلفانها.
بعد خروجهما من الإجتماع دعاها (عز) لشرب القهوة كنوع من الاحتفال بالتعاقد الجديد الذي حصلا عليه من شركة كبيرة كتلك، فوافقت على مضض ظاهري وسعادة كبيرة داخلية.
الجلوس بمفردهما كان يوترهما وخاصة أنهما لايجدان مايتحدثان عنه بالرغم من أن هناك ما يمكن التحدث عنه..
فكرت (نور) في ماقالته( هبه )لها فأخذت نفسا عميقا وقالت دفعة واحدة بينما (عز) يحتسي قهوته:
أنا مش عايزة أكون بس صديقة ليك، أنا بحبك ياعز..
لفظ (عز) قهوته فتناثرت عليها بينما أخذ يسعل دون أن ينتبه للفوضى التي أحدثها حوله، تناولت منديلا وراحت تمسح رذاذ القهوة من على ثيابها وهي تقول:
آسفة! شكلي، أنا، عن إذنك وبعتذر مرة ثانية!
لملمت أشيائها بسرعة وهي تقاوم سقوط دمعاتها وخرجت مسرعة ليلحق بها وهو يناديها لكنها لم تجبه فسحبها من يدها وهي تحاول إيقاف سيارة أجرة وقال:
استني بس، أنا، أنا آسف! مش قصدي أحرجك، أنا، اتفاجئت بس!
ماتبكيش أرجوكي، أنا أسف يانور مش قصدي صدقينى!
استدارت مغادرة وقد شعرت بالإهانة ليقول:
أنا بحبك والله!
استدارت نحوه وقالت بحيرة:
إنت بتجاملني!؟
فقال وهو يقترب منها:
وجودك جنبي بيأسرني يانور، ما بعرفش أعمل أي حاجة، برتبك وبتوتر، قربك مني بيغطي على كل حاجة حواليا، أنا بحبك من زمان وخايف أقرب منك فتبعدي عني!
قالت بصدمة:
بتكلم جد يا عز، يعني إنت كمان بتحبني بجد؟
فرد قائلا وهو يحك على رأسه وقد شعر ببعض الحرج:.
بحبك والله! عشان كدة ببقى غبي معاكي وبقول اي كلام.
ابتسمت (نور )وقد شع وجهها المغطى بالدموع من السعادة وهي تطرق برأسها أرضا وتمسك بطرف فستانها وقلبها ينتفض حبا وهي تشكر( هبة) في سرها على اعطائها هذه الفرصة لتجد حبا في الشخص الذي تحبه.
مرت ساعتين ليرتفع أذان المغرب فقالت( هبة ):
بسم الله.
وحملت صحن الكنافة وتوجهت إلى الشقة المقابلة التي يقطن فيها صاحب العمارة السبعيني مع زوجته اللطيفة بعد أن تأكدت أنه توجه نحو المسجد من مراقبتها له من نافذة مطبخها..
استقبلتها العمة (خيريّة) بترحاب وأدخلتها البيت وجلست إلى جانبها، طبيعة (هبة) الاجتماعية تجعلها قادرة على جعل أي أحد يشعر بأنها ليست غريبة عنه وهكذا جعلت العمة( خيرية) تجيب على أسئلتها دون أن تشعر أنها مستجوبة فقالت( هبة):
والله ياعمة جيرتكم أكبر مكسب لينا كإننا وسط عيلة كبيرة، بس الغريب إن جيرانا لسه مش عايزين يقربوا مننا معرفش ليه.
ربتت العمة على يدها وقالت:.
-والله يابنتي كله من السكان اللي قبلكم الله لايسامحهم مطرح ماراحوا مافيش حد ماعملوش معاه مشاكل عشان كده الناس بعدت عن الشقة دي حتى الايجار ماكنش حد راضى يأجرها بسبب اللي عملوه في أهل الشاب اللي كان بيحب بنتهم.
فقالت( هبة ):
أيوة عرفت أنهم جوزوها لواحد غني وبعدها سافروا، إلا هما أهل الشاب ده من هنا يعني من نفس المنطقة؟
فقالت السيدة وهي تمصمص شفتيها حسرة:.
والله يابنتي كل اللي اعرفه إنهم من دمياط ووالدته أستاذة علوم ووالده محاسب في مصنع بيراميدز للأثاث، على حسب كلام الجيران يعني.
شعرت( هبة )أنها لو سألت أكثر ستجعل من نفسها مصدر ريبة فاستأذنت الرحيل قبل أن يعود صاحب البيت رغم إلحاح العمة عليها للبقاء من أجل شرب فنجان قهوة لكنها وعدتها بزيارة أخرى تحضر معها ابنها (سيف )لتعرفها عليه..
هكذا خرجت( هبة) من عندها تعزم على النبش وراء عائلة (حمزة )حتى تعرف كل ماحدث له لتتمكن من مساعدته.
تنتشر رائحة الرطوبة النتنة بحلول المساء ومع ذلك فقد آلفها المساجين طوال كل هذه السنوات وأصبحت شيء يتعايشون معه..
كان( حمزة) يجلس إلى (عزيز )الرجل- الخمسيني -الطيب الذي يعامله كإبن له وكان يبدو عليه المرض مؤخرا دون أن يبالي أحد بأمره…
كان يسند رأسه إلى ركبة (حمزة )وهو يرتعد وجبينه يتفصد عرقا وبدا كما لو أنه يهذي
فبدا (حمزة )يقرأ عليه بعض الأيات ليهدأ وينام..
توقف عن التلاوة ما أن نام (عزيز )فأسند (حمزة) رأسه على الجدار وقد نزلت دموعه على صدغيه، ترهبه فكرة خسارة عزيزه إنه يدخل إلى قلبه الأمن والطمأنينة دائما، يذكره بوالده بعظاته ونصائحه، بحسه الفكاهي، شدته ومرحمته!
تذكر آخر يوم جمع بينهما..
صباحا على سفرة الإفطار حيث كانت والدته تصف الاطباق على عجالة بينما والده يتصفح الجريدة ويستغفر ويحوقل وهو يقرأ أخبار ما آلت إليه أوضاع البلد..
جلس بجانبه (حمزة )وراح يصب الشاي وبعدها سحب الجريدة من والده بينما قالت والدته ساخرة:
سيبه يخلصها، هو لو مخلصهاش مش هيحس بطعم الفطار ياحمزة!
ابتسم (حمزة) ووالده يقول:
ده كان زمان ياناهد دلوقتي الأخبار تسد النفس مش ع الأكل بس، على الدنيا كلها!
ثم تناول كأس الشاي رشف منه رشفتين ثم وضعه وأمسك يد (حمزة) وقال:.
التغيير ياابني مش هيكون بالهد والتكسير والفوضى بيكون بتغيير المفاهيم والأفكار إلى اتسجنا جواها من سنين، وإننا نغير فكرة لازم نخلي الناس تسمع وتعرف وتشوف مش تخاف، التغيير ده بيحتاج صبر ووقت، اللي وصلناله ده حاجة مبشرة، حاجة تفرح وتدل على وعي الناس ورفضهم للظلم والقمع، التمرد واجب عشان ناخد حقنا من الظلمة، أنا مش خايف من حاجة في الدنيا غير على بلدي وولدي من الفتن و عشان كده أستودعهم الله الذي لا تضيع عنده الودائع.
قبل (حمزة) يد والده وقال:
ربنا يصلح الحال يا بابا!
فأخذت والدته وجهه بين يديها وبحنان قالت:
خد بالك من نفسك يابني، الشباب قوة بترهب النظام، عشان كده هيحاولوا يكسروكم، مش هقولك خليك بالبيت وملكش دعوة بحد لأن دي قضية لازم نحارب عشانها، بس عشان أمك وابوك اللي روحهم متعلقة فيك خد بالك من نفسك.
وقبلت جبينه.
صدرت عن (حمزة )آهة وهو يتحسس موضع قبلة أمه على جبينه بيده المرتجفة ذات الأربع صوابع بعد أن فقد الخامس جراء التعذيب أحد المرات حين شتم الضابط والدته فبصق بوجهه غضبا.
الآن مايثلج صدره أن قضية أبناء وطنه التي صارت قضيته قد ندت بثمارها..
وماتحملوه لم يذهب سُدا، سقط النظام وبدأت معالم أخرى تتشكل لم يدري عنها شيء لكنه لم يكن متأملا كثيرا بها مادامت مرت سنوات على حبسه في هذا المكان المنسي ولم يطل الحرية بعد.
وجد يد (عزيز) تشد على يده بعدما افاقته دموعه التي وقعت على جبينه فقال:
إثبت ياحمزة ربنا معانا وهيفرجها علينا!
فنام (حمزة )بأحضان الأمل الدافئة التي دفعه إليها (عزيز) الذي بدوره وجد السكون بمعية (حمزة).