قصص

جثة فوق الشجرة

جثة فوق الشجرة في أحد الفترات حاولت أن أكتب قصة ، ورحت أدور بين أركان غرفتي كالدبور حتى أنني شرعت في هز رأسي طويلا ربما سقطت الأفكار الجديدة فوق سطوري ، ولكن لا أمل في هز رأسي كما لا أمل في هز شجرة خاوية
من الثمار كما أن الأفكار كالطيور تماما لن تطلع عليها ما دمت داخل هذا الضيق وتحت هذا السقف المنخفض ،لذا لجأت في ذات الليلة للسيرعبر طرقات هذه المزارع مستغلاً الهدوء وندرة الناس داخل ذلك الظلام ، ولم أكن أشعر أنني سرت طويلا إلا بعدما تساقطت فوقي قطرات الأمطار،صحوت من غيبوبتي الفكرية ،لأجد نفسي مستندا على جدار مقبرة قصيرة حسبتها مخصصة لدفن الأقزام ولا أثر للبيوت من حولي فقد باتت هي الأخرى ماهي إلا أجزاء من الظلام ، وبدا لي أنني عبرت قرى كثيرة حتى وصلت إلى قرية مجهولة علمت بعد ذلك أنها قرية الكروان ، حاولت أذني أن ترحب بأي صوت لماكينات الري ، لكن لا أثر لأي صوت أي ليس هناك أي فلاح يسقي أرضه بهذا الوقت الذي أدركت أنه تأخر كثيرا ، وبالطبع هاجمني إحساس الخوف الذي بدا لي مشابها لإحساس الحب فكلاهما لا يستطيع الإنسان التخلص منه بسهولة .
فجأة!!!!!! سمعت طرقات خلف باب المقبرة من الداخل ، فتحولت في لحظة إلى صورة فوتغرافية قبل أن يعلو سطح المقبرة رأسا لقط أنيابه لامعة لا تليق إلا على وجه أسد ، لم يشِر لي عقلي وقتها أنه جن ، بل أيقنت أنه قط عادي لجأ للسكن بهذه المقبرة المهجورة الخالية من الأجساد ، ولكن ماذا أفعل بهذه الآبار المتواجدة في كل اتجاه ، وما المانع من أن تمتد الأيادي الطويلة وتجرني صوب الأعماق لا سيما أن الجن كالإنسان تماما ، قد يقدم على فعل الجريمة في وقت غياب الشهود ولم يكن هناك أي شاهد على وجودي وحيدا، لجأت إلى الدندنة بإحدى الأغاني ،كما كنت أفعل صغيرا وقتما ينقطع التيار الكهربائي ،أجل لقد قمت بذلك حتى أطعن هذا السكون في قلبه ذلك السكون الذي بدا لي وقتها أنه أبشع من صرخات العفاريت وضحكاتهم المفزعة ، طالت حيرتي في أي طريق سأتجه ؟
إنها الحيرة التي فاقت حيرة جندي وجد نفسه تائها في حقل ألغام فكل الطرق أمامه تبدو قاتلة مميتة ، وعلى مد بصري لمحت شعاع نور سقط من رحم الظلام ،إذا هاهو الطريق الذي سأقطعه حتى أصل إلى الشخص الذي ظهر لينقذني دون أن يعلم وقبل أن أخطو خطوة واحدة أوصيت نفسي بألا أبالي حتى وإن سمعت وقع أقدام يرن خلفي ، أو صرخات تريد أن تخترق غشاء أذني ، وإن سار جواري أحدهم وتحدث إليّ فلن أرد كفتاة خلوقة يغازلها شخص ما في الطريق ، وبينما أخطو أول خطوات لي إذ بي أجد رجلاً ظهر أمامي جالسا فوق حوض البهائم ، الرجل يرتدي رداء أبيض ككفن الأموات ، ثم إنه لم يدِر لي رأسه حيث راح ينظر إلى السماء ، وكأنه يحدث النجوم حديثاً صامتاً ..ما هذا ؟
وقفت برهة أراقبه بحذر ، ومازال الرجل رافعا وجهه في ثبات مقلق ، وبالطبع تشككت أنه شبح أو جن ، لكن لم يبدر من ذلك المجهول أي دليل على أنه كذلك ، ولكن ما الدليل على أنه إنسان عادي ، مخلوق مثلي يأكل ، يشرب، يخاف ، فهل هذا مجنون ممن تقودهم أقدامهم حيث لا يعلمون ؟
ربما يكون هذا ، وربما يكون غير ذلك ،لذا خشيت أن أمر من أمامه ، فماذا لو طالت يده عشرات الأمتار وأمسك برقبتي متجها إلى أحد الآبار ؟
كان التردد يدفعني خطوتين للأمام ، ثم يرجعني للخلف مجددا ، وجال في خاطري أن أقرأ القرآن ، فإن كان هذا جنيا حتما سيختفي أو سيطير من أمامي كالذباب ،وقبل أن أحرك شفتاي ، فجأة أدار هذا الرجل رأسه تجاهي ، وشاهدت ملامحه الخرسانية ، وأنفه الطويل المنحدر فوق شفته العليا ، وقد كانت عيناه متخاصمتين إحداهما تعلو عن الأخرى ، لذا وقفت كفأر لا يتحرك متأثرا بنظرة قط مخيف ، وقف هذا الرجل ، أدار ظهره لي وكأنه لم يبالِ بمن يقف أمامه مقيدا ، ثم أدار جسده تجاهي بهدوء كأنه صورة تتحرك ببطء ، وعلى وجهه ابتسامة قاتل يثق في نجاح مهمته تلك الابتسامة التي سحبت الأكسجين رغم الخلاء ، وزادت من وزن جسدي حتى شعرت أنني كتلة حديدية لا ولن تتحرك من مكانها ، تقدم ذلك المفزع تجاهي بخطوات بدت لي أنه يفكر في طريقة القضاء عليّ في وقت تحول رأسي إلى كرة من الثلج ، وبدا تحت جلدي كأنه مخزن ينتشر فيه النمل ، كاد هذا الرجل أن يلصق وجهه بوجهي قبل أن يدور خلفي كالذي ينتقي عبدا من عبيد العصر الجاهلي
وفجأة!!!!!! سقط ذلك الرجل ، وشرع في الصراخ ، وبدا كطفل غاضب يتقلب بجسده أرضا ،لذا صارعت الدهشة ما أحمله من خوف ، وبدأ الخوف يغور تدريجيا حتى تلاشى تماما ، وبقيت الدهشة هي شعوري الوحيد قبل أن تغادر هي الأخرى بعدما أيقنت أنه مجنون كما كنت أشك في بادئ الأمر، لهذا تحرر جسدي من قضبان الذعر وجلست أرضا أنتظر عودة الهواء الهارب من صدري ، سكت الرجل فجأة ، راح يصفق على يديه مهرولا فوق الحشائش المبتلة بالندى قبل أن يشير لي تجاه ذلك النور
وينطق أخيرا كالذي رد إليه عقله
حيث قال : هيا خذني إلى ابني .. إنه هناك بجوار هذا النور.
يبدو أن هذا الرجل يصاب بنوبات من الانفصام ، أو يعاني من داء الزهايمر الوقتي ،لم أنطق بأي كلمة بينما نتجه إلى ذلك النور الذي كلما اقتربنا يقرر أن يبتعد، وبدأ الرجل في الحديث.
قائلا : أعطاك الله العافية يا بني ، وحماك من أن تذوق ما أذوقه من زهايمر تطول ساعاته حتى اقترب من أن يكون مستمرا .
داعبت الشفقة قلبي بالطبع ، وهزت جفون عيني ، بحثت في مخزوني عن كلمات معزية وحينما وجدتها لم يسمح لي الرجل بنطق أي منها ، فقد شاهدته توقف عن السير ، وبدا على وجهه الحقد والغضب فورما شاهد القطار يتموج فوق القضبان من بعيد ، نظر لي بطرف عينه وهمس بصوت خافت كأنه أراد ألا يسمعه أحد وهو
يقول لي : اجرِ ..اجرِ القطار سيأتي ليقسم جسدنا نصفين .
هدأ لي الحزن نبرة صوتي حينما
قلت له : لا تخف ..للقطار قضبان حديدية لا ينحرف عنها لا تقلق ..هيا نكمل طريقنا ..
وزع الرجل نظراته القلقة بيني وبين القطار
وعاد بصوت مرتفع : قلت لك اجرِ ، لا أريد لك ولي السوء ، إنها قطارات قاتلة صدقني .
اقتربت منه محاولا تهدئته ، وقبل أن تلامس يدي كتفه ، ركض الرجل أمامي بسرعة إنسان يهرول خلفه الموت ، ركضت بالطبع خلفه لاسيما أنه انحرف عن جهة النور ، اتسعت المسافة بيني وبينه بالرغم أنه يكبرني بسنوات عديدة ، لكن ما شاهدته بعد ذلك ، لم أره من قبل ، فلقد انقسم جسده إلى نصفين ، نصفه العلوي يطير بالهواء حتى استقر فوق شجرة، والسفلي استقر دون حراك فوق غصن شجرة أخرى ، لذا ثبتني الذهول في مكاني ، شعرت أن أقدامي ستثقل مجددا ، لكن لم أسمح لها بذلك هذه المرة ، اتجهت مجددا صوب النور ، هدأت من سرعتي رغما عني ، تاركا أنفاسي تشاء أن تلحق ببعضها ،وصلت إلى المكان الذي رأيته كحظيرة كبيرة من القش ، دخلت دون استئذان بالطبع في وقت كان هناك شاب يجلس فوق أريكة خشبية مهشمة ،بعدما هدأت أنفاسي ، وانتظمت دقات قلبي نسبيا
قلت : أنا ..آسف لكن ………..قاطعني الشاب
قائلا : (هو طلعلك؟)
سكتت للحظات
وتساءلت : من هو؟
رد الشاب : إنه أبي .. لقد كان مصابا بالزهايمر ، وتأتيه نوبات تقوده فيها أقدامه إلى أي مكان حتى حل يوم سار وسط قضبان القطار ، ولم ألحق به قبل أن يقسمه القطار لنصفين ..
وضعت يدي فوق وجهي أريد أن أستفيق من هذا الكابوس المزعج
تساءلت : ولكن لماذا ظهر لي شبح أبيك ؟
ابتسم الشاب ابتسامة عريضة
ورد قائلا : أنت من أتيت إليه بمكانه المخصص ، فهو يظهر دوما فوق حوض المواشي ، لقد اعتاد أن يجلس هناك وهو على قيد الحياة ، ثم إنه يظهر في الليلة الساكنة الخالية من ضجيج ماكينات الري ، وأصوات السواقي المزعجة ..
لم أكن أريد سماع أكثر من ذلك ، فقد بدا على وجه هذا الشاب أنه يقص على مسامعي قصة رومانسية ، لذا أخبرته عن قريتي التائه عنها كطفل صغير، حيث أشار لي ذلك الشاب أن المسافة بين قرية الكروان وقريتي بعيدة جدا وسيمنعنا الظلام بالطبع من الوصول لها ، عرض عليّ هذا الشاب المبيت معه بذلك المكان ،وافقت سريعا كعانس عرض عليها أحدهم الزواج ، تعرفت على هذا الشاب وأخبرني أنه يدعى (حسنين) وأن أباه الشبح اسمه (رسلان) ، لكن حديثه لم يبتعد عن قصص الأشباح والعفاريت ، وأن من مات مقتولا عمدا أو بغير عمد لابد أن يظهر له شبح ، لم أشعر بنفسي حينما سحبت الغطاء على وجهي بينما يجلس جواري فوق السرير
قال لي : لا تنم قبل أن أصنع لك كوبا من الشاي .
نهض (حسنين) وياليته لم ينهض ، فقد شاهدت نصفه العلوي يطير بالهواء بينما أقدامه ما زالت راقدة جواري تحت الفراش حيث نظر لي
وقال : آه ..نسيت أن أخبرك أنني مت مع أبي بنفس حادثة القطار ..ها تريد كم ملعقة من السكر بكوب الشاي؟
تمت..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى