“القصة مستوحاة من أحداث حقيقية”
الدنيا هادية، هادية أوي،ده يوم الأجازة الأسبوعية بتاعتي، اللي فاكره إن أشعة الشمس كانت ضعيفة عشان السحب كانت كثيفة ومغطياها، بدايات الشتا بقى، وعشان كده النور كان خفيف في البيت. أنا كنت قاعد على سريري، راسي مدلدلة، كل شوية ببص على ركن معين من الأوضة ، فراغ، مفيش حاجة معينة ف دماغي، ولا أي حاجة، وده كان دايمًا حالي في الأجازة، دماغي زي مكان مهجور بيضرب فيها الهوا ومش مستحملة أي أفكار….
لكن كل ده اتبدل ف لحظات، الهدوء بقى دوشة، السكينة بقت فوضى، الفراغ بقى زحمة….
تخبيط رهيب عالباب، كإن اللي بيخبط هيكسره، مش إيد واحدة، دول أيادي كتير، عدد كبير من الناس كانوا موجودين على عتبة باب بيتي وفي حاجة كبيرة، كارثة، هي اللي جابتهم لحد عندي.. ده اللي استوعبته من قبل ما أفتح وأعرف اللي فيها….
عدد مهول من العساكر والظباط جيينلي أنا، عايزنني أنا، مطلوب القبض عليا!
مقولتش “في إيه”، “عملت إيه؟”، لا زعقت ولا قاومت ولا فتحت بوقي، مشيت معاهم من سكات، مطلبتش حتى أغير هدومي، روحت معاهم بالبيجامة المكلحة البائسة اللي عليا….
كلام غريب أوي كان بيتقال قدامي والمفروض إنه متوجهلي، 10 جثث، 3 بيوت، ناس متقطعة ومتشوهة، مجزرة، وأنا…أنا اللي اتسببت فيها، أنا القاتل!
قبل ما أعرفكم على نفسي وأفهمكم أنا ليه موقفي كان سلبي كده هحكي عن الواقعة نفسها….
في يوم من أيام ديسمبر، ف بداياته “منتصر” اللي عنده فرن ف آخر الشارع بتاعنا كالعادة نزل من بيته الفجر عشان يصلي وبعدين يتوجه لبيت أمه اللي قريب من بيته ومن الفرن عشان يفطر معاها ومع أخوه قبل ما ينزل يفتح فرنه ويبدأ شغله….
اليوم كان باين عادي، روتيني، مفيهوش أي حاجة مختلفة. صلى الفجر في الجامع، شاف نفس الوشوش اللي بيشوفها كل يوم، لا حد ناقص ولا حد جديد حضر للصلاة. خرج من الجامع وأخد نفس المسار بتاع كل يوم….
طلع على السلالم الطويلة المتعبة، وصل للدور التاني ، مد إيده عالجرس….
محدش ظهر ولا رد، ولا سمع خطوات…سكون غريب….
مش من عادتهم يناموا في الساعة دي، أمه وأخوه دايمًا كانوا بيبقوا صاحيين مستنيينوا عشان يفطروا مع بعض، دي كانت أكتر فقرة بيحبوها في اليوم عشان المخبوزات الطازة اللي كان بيجيبها….
مبدهاش، دخل إيده في جيوبه ودور عالنسخة اللي معاه وطلعها….
مد إيده وفتح الباب ودخل….
من أول خطوة حس إن في حاجة مش مظبوطة، الدنيا غرقانة في الضلمة، نور الصالة الخفيف مطفي….
دايمًا كانوا بيسيبوا لمبة الصالة الضعيفة والعة طول الليل ولحد بعد الفجر، لحد ما نور الشمس يخترق الشقة…
بصوابع بتترعش مرر إيده عالحيطة لحد ما وصل لمفتاح النور وشغله، لحد اللحظة دي مسمعش حركة….
بدأ ينده وهو بيقرب عالطرقة ما بين الأوض، لا أمه بترد ولا أخوه بيستجيب, قبل ما يفتح نور أوضة والدته حس إن جزمته بقت تقيلة، في مادة لزجة كانت عالأرض. فتح النور وبص تحت لقى مادة حمرة وفيها كتل بنفس اللون وعلى مسافة منها اتمددت جثة عنيها مفتوحة للآخر وباصة عالسقف وبوقها برضه مفتوح كإنها كانت مفزوعة وبتصرخ، الجثة دي كانت جثة أمه، بطنها وصدرها كانوا مشقوفين، أحشائها خارجة منها وجلبيتها متغرقة في الدم، أما المادة الحمرة اللزجة اللي عالأرض فكان دمها السايح والكتل كانت أنسجة….
“منتصر” مصرخش، معملش أي رد فعل… من سكات مشي من الأوضة واتوجه لأوضة أخوه.. المرة دي الدم مش بس كان مغرق الأرضية ده كان مطرطش على الحيطان.. جثة أخوه كانت ممددة عالأرض، في شق بالطول في راسه كلها ووشه ولحد دقنه وصدره وبطنه مشقوقين وأحشاءه عالأرض جنبه…
كان ف حالة صدمة، بيراقب المشهد في صمت، مبدأش وصلة الصريخ إلا لما سمع صريخ جي من الشقة اللي جنبه….
أصحاب الصرخات عند الجيران كانوا “أمنية” و”سماء”، أختين ف نفس الأوضة.. واحدة قلقت وقامت من نومها، كانت عايزه تشرب ميه، عدت على أوضة إخواتها الصغيرين اللي أعمارهم “10 سنين” و”8 سنين”، لكن وقفت، مكملتش لحد المطبخ وده لإنها لقت بابهم مفتوح، وهم متعودين كلهم يقفلوا أوض نومهم قبل ما يناموا وحتى لو حد قلق بليل عشان يدخل الحمام أو يشرب ميه بيقفل الباب لما يرجع..
وقفت للحظات قرب عتبة الباب وبعدين قررت تدخل بدل ما تكمل عالمطبخ… الأوضة كان فيها سرير واحد، الولدين كانوا بيناموا جنب بعض. “سماء” سمعت صوت نقط ميه واضحة، زي ما يكون حد مش قافل حنفية كويس، حنفية في المطبخ أو الحمام، المشكلة إن الصوت كان من الأوضة اللي هي فيها، أوضة إخواتها.. فتحت النور، وأول حاجة عنيها جت عليها هي النقط اللي كانت بتنزل عالأرضية تحت مفرش السرير المدلدل، مية إيه دي اللي بتنقط من فرش السرير؟ وليه لونها مش شفاف، ليه لونها أحمر؟
قربت أكتر، وواحدة واحدة بدأت تفوق وتدرك اللي بيحصل قدامها، دي كانت نقط دم والمصدر السرير نفسه…
بهلع بصت عالسرير، إخواتها الاتنين كانوا نايمين على بركة دم، دمهم هم، الملامح ف وشوشهم كانت مشوهة ومتغطية بالدم..
جريت على “أمنية”، فضلت تهز فيها وهي بتعيط وصوتها بيترعش… “أمنية” اتفزعت، قامت وجريت ورا “سماء” اللي اتحركت بسرعة أول ما اختها فتحت عينها من غير ما تقول كلمة واحدة.
“أمنية” شافت جثث اخواتها وأول حاجة جت ف بالها بعد كده إنها تروح تبص على أبوها وأمها، وده اللي عملته…
وف أوضتهم الوضع مكنش مختلف كتير، تقريبًا التفاصيل واحدة، الأب والأم غرقانين ف دمهم، مدبوحين ، جسمهم متقطع من حتت مختلفة وأحشائهم خارجة بره أجسامهم. البنتين بدأوا يصوتوا وأصواتهم حفزت صوت تاني….
صريخ “منتصر” المكتوم، وعجزه ف وسط المشهد البشع اللي كان فيه… أصواتهم اختلطت ببعض والجيران والناس ف الشارع اتخضوا ومبقوش فاهمين اللي بيحصل، إيه مصدر الصريخ، أنهي جهة؟ ليه في بيتين خارج منهم الأصوات دي؟ إيه اللي بيحصل؟؟
أعداد كبيرة اتجمعت، مجموعة طلعت على البيت ده ومجموعة على البيت التاني. والكل بقى يخبط بهستيرية عالبابين، والبابين اتفتحوا تقريبًا ف نفس الوقت…
أبواب جهنم اتفتحت على آخرها….
حاجة بره الدنيا، متتوصفش، بشاعة ملهاش أي تبرير، إزاي وليه وامتى؟؟
السكوت هو اللي كان غالب على المشهد، كل اللي دخلوا البيتين كانوا ف حالة ذهول، مين عمل كده وليه؟ وإزاي محدش لمح القاتل، إزاي المقتولين مستنجدوش، مصوتوش؟ ويعني إيه حتى اللي معاهم ف نفس البيت محسوش بحركة القاتل، دخل وخرج كإنه طيف عدى من الحيطان، لا من شاف ولا من دري….
الناس كانت لسه متجمعة جوه البيوت وبراها لما “سلمان” جه من بره…
“سلمان” كان بايت عند جدته اللي ساكنة قريب منهم.. وكان عنده درس ثانوية عامة ف السنتر بعد كام ساعة فقرر يرجع بيته يغير هدومه ويقعد شوية مع أبوه وأمه واخواته وبعدين ينزل يروح الدرس…
بعد ما كان طالع بسرعة خطواته بقت بطيئة، راسه ثبتت عالمشهد العجيب اللي قدامه، إيه كمية التجمعات دي وليه في صريخ؟ سمع شوية كلمات زي “اتدبحوا” “الدم ف كل حته” “أجسامهم مش سليمة” “إيه علاقة البيتين ببعض؟”… شقة “سلمان” كانت جنب الشقتين المفتوحين واللي عليهم الزحمة. كان بيقدم رجل ويأخر رجل، برغم حالة التوهة اللي كان فيها لكن لاحظ حاجة غريبة، غير الزحمة والكلام المرعب المش مفهوم، أبوه وأمه ليه مكنوش معاهم؟ إزاي مجالهمش فضول يخرجوا من الشقة ويشوفوا اللي بيحصل؟ مشدتهمش الدوشة ولا قلقتهم؟
-أنت كويس يا بني؟ محتاج حاجة؟
ده كان راجل كبير وسط الناس الواقفين. شاف إن “سلمان” مهزوز فقال له الكلمتين دول.
“سلمان” قبل العرض. ساب الراجل الكبير يدخل معاه الشقة. كان خايف من الكلام اللي عمال يسمعه..
سكوت… سكوت رهيب، نوع السكوت ده اللي بيسبق العاصفة…
حتى لو أهله مقرروش يخرجوا من البيت ويشوفوا الدوشة اللي براه مش ممكن يفضلوا نايمين، بالذات “جنة” الرضيعة اللي مكملتش سنة. “جنة” تقريبًا مكنتش بتنام، طول الوقت بتعيط لكنها زيها زي الباقي كانت ساكته…
حالتهم مكنتش هتتغير، مش ساكتين وهيفوقوا، مش نايمين وهيصحوا، هيفضلوا بوضعهم ده لحد يوم الحساب، وده لإنهم زيهم زي جيرانهم اتقتلوا، نفس المصير، نفس طريقة الموت، حتى الأطفال مسلموش، لا الولد اللي عنده 4 سنين ولا الرضية، كلهم اتشقوا وأجسامهم اتقطعت…
“سلمان” ربنا نجاه.. ليلة الجرايم قرر يبات عند جدته وكان متردد، راح بس عشان جدته فضلت تزن عليه، يعني لو كان فضل، لو كان بات ف بيته مكنش هيصحى، ومجموع الضحايا كانوا هيبقة 11 مش 10…
10 جثث بني آدمين وعشر حمامات!
كل جثة كان مرمي جنيها حمامة بيضة راسها مقطوعة…
إيه اللي مشترك ما بين ال3 بيوت؟ ولا أي حاجة! لا ليهم صلة قرابة ببعض ولا أعداء مشتركين ولا بيشتغلوا ف نفس الأماكن ، الحاجة الوحيدة اللي بتجمعهم كونهم جيران واتعرضوا لنفس طرق القتل السادية…
معقول؟ ليه لأ؟ إحنا ف قرية في المنيا وتقريبًا كل شبر ف أرضنا تحتيه حاجة، بيوتنا ومصالحنا كلها مبنية على مومياوات وكنوز ومقابر، إحنا وأجدادنا الفراعنة عايشين على أرض واحدة، العايشين على قد الميتين ويمكن الأموات أكتر بكتير…
هو ده الكلام اللي دار في القرية في الكام يوم اللي بعد كده وبما إني منهم فالكلام وصل لي.. مكنتش مستغرب، ممكن جدًا يكون ده السبب، المقابر عشان تتفتح لازملها مفتاح والمفتاح بيبقى دم سايل وأعضاء بشرية وأنفاس تتكتم ومترجعش، هو ده بيبقى التمن ف حالات كتير. الجن اللي بيتم التواصل معاه عشان يساعد ف فتح المقبرة بيطلب قرابين بشرية واللي يدعم النظرية دي هو عدد الضحايا والطيور اللي اتدبحت جنبهم وإنهم ف نفس المكان، ده معناه إن المقبرة في الغالب تحت البيت اللي فيه ال3 شقق…
يعني المقبرة المفروض تكون اتفتحت…. والجاني أو الجناة ممكن يتقفشوا… اللي يهوب ناحية البيت أو حواليه أو يظهر معاه فلوس أو آثار فجأة هيبقى هو اللي عملها.. لكن مفيش حاجة بانت، لا في ناس ظهرت بتراقب البيت ولا في مقبرة اتفتحت أو على حد علمي يعني..
اللي برضه يدعم النظرية دي هو إن 10 ماتوا ف نفس الوقت أو قريب جدًا من بعض من غير ما حد فيهم يقاوم أو يصرخ واللي مماتوش محسوش بالقتلة، يعني اللي عملوها محترفين، متعودين على النوع ده من الجرايم…
كل ده مكنش شاغل بالي، أخد مني مجرد دقايق تفكير خلال الأيام اللي بعد الحادثة، الحقيقة إنه مكنش فارق معايا، لا مخضوض ولا خايف ولا قلقان إني ألاقي نفس المصير…
مش عشان أنا الرجل الحديدي ولا حويط ولا مأمن نفسي وليا عين تالتة ف قفايا ولا الكلام ده، عشان حالتي هي اللي بتخليني بالبلادة دي، كمية الأدوية اللي باخدها بتعمل فجوات ف ذاكرتي وبرود ف مشاعري، بالبلدي كده بتخليني متخدر، إني أبقى سليم أو اتأذي، أعيش أو أموت مش هتفرق بالنسبة لي كتير، زي الناس اللي بنشوفها بتعدي الشوارع العريضة من غير ما تبص على العربيات اللي بتجري بسرعة الصاروخ، اللي هو عدينا تمام معديناش واتخبطنا خير وبركة!
أنا مكملتش تعليمي، مكملتش حتى ابتدائي وده عشان الإصابة اللي حصلت لي. على كلام عمتي كنت بلعب مع العيال في الشارع كورة واتخبطت ف سور طوب، راسي اتفشفشت وكانوا فاكرين إني خلاص سلمت نمر، لكن اتكتبتلي حياة جديدة بس بسبب الإصابة جالي مرض عقلي أو نفسي، بجد معرفش لحد دلوقتي ومبسألش! باخد الأدوية من سكات، نفس الأدوية اللي اتكتبتلي لما كنت ف المصحة الأخيرة من كام سنة. أما أمي بقى فأنكرت الكلام ده تمامًا وكان ليها رواية تانية، بتقول إننا كنا ف حنة واحدة معرفتها، وفي ست بصتلي وفضلت متنحة وقالت بنبرة سِماوية كده : “إبنك ده اتحط فيه جمال يوسف ونباهة سليمان وأكيد هيبقى ليه ملكه، أنا أعرف يختي ليه بختي كده، ليه إبني مينوبوش من الحب جانب، لا نافع ف دراسة ولا طالع شبهي، واخد أبوه بسحنته وشعره الأكرت ودمه اللي يلطش” . وبس، عينك ما تشوف إلا النور، ليلتها جتلي حُمى وجسمي ولع، حاولوا معايا بكل الطرق، حرارتي فضلت زي ما هي لمدة يومين كاملين ومن بعدها قمت واحد تاني، مش عارف أمسك قلم ولا أقرا حرف ولا بفتكر اللي بيتقال لي ولا مركز في اللي بيحصل قدامي…
كل اللي يهمني من بعدها ولحد دلوقتي هو هكمل يومي إزاي، هاكل وأشرب منين، خصوصًا إن أهلي جابولي بيت أو نقول أوضة كبيرة كل حاجة فيها سايحة على بعضها، تلاقي السرير والدولاب المحندق قريبين من البوتاجاز أبو عينين والتلاجة الصغيرة والحوض وبعدها بخطوتبن باب صغير مش بيتقفل للآخر وراه دورة ميه. سابوني لوحدي ورجعوا لبيتهم، اللي كان ف يومي بيتي أنا برضه… من الواضح كده إن حالتي أوحش بكتير من اللي مستوعبه لدرجة إن أهلي قرروا يعزلوني، مش بس عشان جابولي الأوضة دي وخلوني أعيش لوحدي، كلام الناس اللي بيوصل لي ونظراتهم بتأكد كده، كل القرية رأيهم فيا إني مختل….
عشان كده مسألتش الشرطة لما جم بيتي ليه عايزين يقبضوا عليا، مسألتش عملت إيه. أنا كده كده مغيب، في فجوات في الذاكرة بتاعتي، معرفش بكون فين ف أوقات كتيرة وبعمل إيه، وده اللي خلاني برضه فضلت ساكت لما سألوني كنت فين وقت ارتكاب الجرايم… مهو يأما كنت ف البيت، يأما ف ورشة تصليح العربيات، مفيش مكان تالت، وبما إن الجرايم حصلت بليل متأخر وصاحب الورشة أكد إني مكنتش معاه يبقى المفروض إني كنت في البيت نايم، إلا لو….
إلا لو كنت مشغول، بقتل 10 اشخاص مثلًا!
“يتبع”
“الجزء الثاني والأخير”
الحاجة الوحيدة اللي فلحت فيها هي تصليح العربيات، كنت أحسن ميكانيكي أي حد ممكن يروحله، لدرجة إن الناس من مراكز وقرى تانية كانت بتجيلي مخصوص وبعترف، برغم حالتي المرضية والبرود وعدم قدرتي على الإحساس بأي حاجة، لكن كنت شبه فرحان بده، بإني محبوب، وإن مكنتش محبوب بجد، مش عشان يعني شخصيتي لكن الناس حبه شغلي وبتيجي مخصوص ليا، حتى لو مصلحة، ده كان بيديلي نوع من الرضا. لكن خلاص حتى ده مبقاش موجود، حتى ده خسرته ورسميًا بقيت أكتر واحد مكروه ومطلوب ف القرية وفي كل الأحوال هتعدم….
أنا حقيقي معرفش، مش متأكد من مكاني ليلتها، الليلة دي زيها زي ليالي كتير ضبابية بالنسبة لي، تفاصيلها مش واضحة، زي حياتي كلها من ساعة الحادثة وأنا صغير، أيًا كانت الحادثة دي، لكن برضه استغربت الكلام اللي اتقال لي مرة واتنين وتلاتة، جثث، تقطيع، حمامات مقتولة، أطفال وكبار وشيوخ، ليه، ليه ممكن أعمل كده؟ مش منطقي أبدًا، ليه أروح اقتل أشخاص من 3 بيوت مختلفة، هستفيد إيه؟ مش فاكر أبدًا إذا كنت قتلت إنسان أو حيوان قبل كده، ولا فاكر إذا جاتلي رغبة زي دي ف أي مرحلة من حياتي، وبعدين هم مش كانوا قالوا إن في مقبرة تحت البيت ولازم قرابين بشرية والذي منه، أنا بقى دوري إيه ف كل ده؟
أكون متسلط من جماعة كانوا عايزين يفتحوا المقبرة؟ أنا، هههه، أنا دونًا عن الخلق كلهم هيلجأولي للمهمة الحساسة العظيمة دي، هيثقوا إني أنفذ عشر جرايم بالاحترافية دي؟
يجوز، يجوز…..
الأكيد في المرحلة دي هو إن مصيري اتحدد خلاص، مفيش مفر من الموت، أخيرًا هتيجي العربية اللي ماشية بسرعة جنونية عشان تخبطني وأنا معدي الشارع ومش فارق معايا، أخيرًا هستريح، مش هيبقى في فجوات وألغاز ولا ضباب، ولا أهل مكسوفين مني ولا ناس خايفة وفاكرنني الغول….
من كتر ما نفس الكلام اتردد قدامي كتير، خلاص بقيت مقتنع بيه، خصوصًا إني مكنتش قادر أنكره ، معنديش دفاع أقوله عن نفسي ولا حجة غياب أكيدة، أنا القاتل، أنا اللي قتلت ال10 دول بدم بارد ومعاهم ولحكمة ما الطيور ال10…
وإيه يا ترى السلاح بتاعي، ساطور، الساطور يبان سلاح منطقي ومعقول، طب وطلعت إزاي من غير ما حد من الشارع يشوفني؟ من خلال سلم خشب لحد السطوح ومن السطوح نزلت على رجلي خبطت على ال3 بيوت وفتحولي ودخلوا أوضهم ودخلت وراهم وقتلتهم، ماشي، تمام، توكلنا على الله…..
هو ده اللي اعترفت ىيه قدام النيابة وبناء عليه بقى في قضية واتحولت لمحكمة الجنايات….
استنيت الجهة اللي استعانت بيا تظهر، اللي غرضهم فتح المقابر والغرف من كنوزها لكن محدش ظهر، محدش زارني ولا عبرني ولا أهلي طبعًا زاروني، مسألوش عليا السنين اللي فاتت، هيسألوا عليا لما بقيت مجرم؟
يعني ممكن أكون نفذت الجرايم لغرض تاني غير موضوع المقبرة ومفيش حد سلطني؟ يجوز…
استعديت لأول جلسة، هرضى بأي حكم عليا، مش هتكلم ولا هدافع عن نفسي ولا هبرر، هو ده اللي المفروض كان يحصل لولا إن حد ظهر….
وش جديد، محامي كبير اتطوع عشان يدافع عني، يدافع عني أنا! ليه؟! إيه مصلحته؟
أول كلمة قالهالي:
-أنت اعترفت؟
=أيوه.
-أنت مستحيل تكون عملتها يا “أنيس”، اعترفت ليه؟!
=معرفش، هو، بص أنا مش فاكر كنت بعمل إيه ليلتها، بس كل الناس في القرية بتقول إن أنا اللي قتلت فأكيد عملتها….
-أنت عارف نتيجة اعترافك ده إيه؟
=أكيد هتعدم.
-لأ، مش ده بس، الناس في القرية اتطمنت، مبقوش حذرين، مبقوش يعملوا مناوبات بليل في كل مكان عشان يحرسوا القرية ويراقبوا إذا كان في دخيل أو شخص مشبوه، مبقوش يسألوا على بعض زي الأول…
-=كويس إنهم اتطمنوا وبالهم ارتاح.
-لأ مش كويس، عشان القاتل الحقيقي زمانه بيترصدلهم، بيشوف مين الهدف التاني وممكن يعمل خطوته الجايه قريب، كل ده عشان انت استسلمت، استسهلت، اعترفت على نفسك وخلاص، قلت تمشي ورا كلام الناس…
=أنا مستسهلتش، مخترتش حالتي، كل أيامي عبارة عن سحابة ضباب كثيفة بتحجب أي حاجة بتحصل، حقيقي أنا مش فاكر حاجة عن الليلة إياها، مش متأكد…
-طب بعيدًا عن ذاكرتك اللي عارف إنها اتأثرت بكم الأدوية اللي بتاخدها وحالتك، أنت متعرفش نفسك؟ متعرفش طباعك؟ متعرفش إذا كنت تقدر تقتل حد ولا لأ؟
=معرفش، مظنش، مش فاكر إذا كنت قتلت أي حاجة أو كان عندي رغبة ف ده..
-“أنيس” إحنا لاقينا آثار أقدام في ساحات الجريمة كانت متربة، كإن الشخص ده مشي ف تراب، أنت مقاس رجليك 42 ومقاس الآثار 45! يعني مش أنت بالدليل القاطع، مش أنت القاتل، ده غير بقى إنه منطقيًا مش ممكن تكون قتلت، إزاي قدرت لوحدك تجيب سلم خشب وتطلع عالسطوح وتعمل الجرايم دي كلها؟ وحده وحده كده، يعني الناس في الشارع كانوا هيشوفوك لو دخلت من مدخل العمارة بس مش هيشوفوك وأنت بتجيب سلم خشب وبتطلع عليه؟ وبعدين فين السلم الخشب ده وفين الساطور اللي استخدمته، وطريقة القتل مش بتاعة ساطور، دي مشارط! وعادي كده هتخبط عال3 بيوت وهيفتحولك من غير ما يستغربوا ويقولولك اتفضل معانا أوض النوم واقتلنا؟ وجبت الحمام اللي هتدبحه جنبنا ولا لأ؟ وإزاي خلتهم ميطلعوش صوت وهم بيتدبحوا؟ اللي خلاني أتطوع عشان أدافع عنك هو الاستفزاز، اه والله استفزتني ووقائع القضية استفزتني، واضحة بشكل مستفز، مسرخية كوميدية!
كفاية، كفاية، كلامه كان عامل زي المطرقة على دماغي، صح، كل حاجة بيقولها كانت منطقية، مش ممكن أكون الجاني، مش ممكن أعمل كل ده بس برضه كلامه كان بيزعجني عشان بيخليني أفكر، أنا كنت خلاص سلمت لفكرة إني أنا القاتل وارتحت وريحت دماغي، رجعت تاني اتلخبط، مين دول اللي عملوا كده؟ وليه؟ ليه؟
اللي زود اللغز وكان دليل تاني قوي على براءتي، هو إن القتل تم بطريقة جراحية احترافية! أيوه، الجاني استخدم مشارط وقطع الجثث بشكل جراحي ومش بعد تخديرهم، ده كل واحد فيهم اتخبط خبطة قوية على راسه أفقدته الوعي أو موتته وبعدها شرحهم وخرج أعضائهم بمنتهى هدوء الأعصاب، وواضح جدًا إن ده مش جديد عليه أو عليهم، ده اجراء معتاد…
يعني 100% مش أنا! أنا أصلًا مكملتش تعليمي ومش بعرف افك الخط، هبقى طبيب جراح؟!
طب ليه، اللي عمل كده إيه كان غرضه؟
جلسة في التانية الأمور بقت واضحة، القاضي والحاضرين وحتى الرأي العام صدق إني بريء….
قبل الجلسة التانية المحامي قعد معايا، كان باين عليه متوتر ووشه مخطوف. في الآخر بدأ يتكلم بالعافية.. قال إنه مقاليش كل حاجة، وإن في حاجة احتفظ بيها لنفسه ومقالش لأي حد عنها ببساطة لإنها غريبة وملهاش تفسير…
آثار الأقدام اللي كانت موجودة في ساحات الجريمة، كانت مختلفة عن أي آثار تانية، المفروض يبقى في 5 صوابع، لكن مكنش في غير صوباعين، صوباع عريض جدًا وصباع صغير، شكل قدم مشافوش قبل كده!
يعني هو مش مستحيل يكون في الشكل ده عند أي حد في العالم كله، لو دورنا ممكن نلاقي حالات زي دي بس هو مكنش مطمن وحاسس إن في حاجة مش طبيعية ورا الآثار، قصة مش عادية أبدًا…
مقالش الجزء ده في الجلسة بس قال حاجة تانية…
قال إن في ناس من القرية، عدد مش قليل شافوا عربيات إسعاف شكلها غريب مش تبع وزارة الصحة، وقفت جنب العمارة اللي كان فيها ال3 شقق وواحد من اللي كانوا فيها نزل وعلم بطباشير أحمر على العمارة ودخل العربية وانطلقوا….
وقال إن فعلًا لما النيابة والمباحث عاينوا المكان حوالين العمارة لقوا علامة الإكس اللي بالطباشير الأحمر!
لأ، لأ! عربية إسعاف، طباشير أحمر، علامة، أقدام بصباعين، جراحة، شق بطون ورؤوس، مشارط.. افتكرت! ساعتها افتكرت، كل اللي حصل ده حصل قبل كده، زمان، بس مكنتش مجزرة جماعية، واحد بس اللي اتقتل، أبويا!
كنت خارج بلعب قدام بيتنا كالعادة، بلعب لوحدي، راسم رسمة الأولى عالأرض وبنط على الأشكال. اللي وقفني صوت العربية اللي ركنت قدام البيت… واحد نزل مر من جانبي كإني طيف، مش شايفني ولا فارق معاه.. طلع من جيبه طباشيره حمرة وعلم عالحيطة، علامة إكس. لف ببرود كإنه روبوت وطلع عالعربية اللي اتفتحتله ، والعربية مشيت…
قلت لأمي ولأخويا الكبير ولأبويا ولعمتي، مهتموش، مردوش أصلًا عليا، يمكن مصدقوش أو مكنش فارق معاهم…
ليلة تاني يوم قلقت، في حاجة خلتني اصحى من عز نومي… حركة، لكن مكنتش حركة معتادة، المفروض مكنتش أصحى…
في حد غريب كان ف بيتنا. قمت ووقفت قدامه، جسمه كان منور، هو نفسه مصدر النور، نور أزرق قوي، مع كل خطوة كان بيسيب أثر، تراب على شكل قدم عالأرض، رجله…
كان عنده صوباعين بس، صوباع عريض وصوباع عادي، ووشه…
كان عنده 3 عيون ومكنش في شعر على راسه وصوابع إيده كانت طويلة جدًا، مش إنسان! حتى بتفكيري البريء الساذج وقتها أدركت ده، اللي قدامي وجي عليا مكنش إنسان.
وصل لحد عندي ، بصلي ف عيني وبعدين مشي من جنبي وتخطاني، مكنش جي عشاني، مش أنا الهدف… كان ف إيده مشرطين، أحجامهم واشكالهم مختلفة…
لفيت وراقبته.. دخل لأوضة أبويا وامي. دخلت وراه. وقف جنب بابا وبصل له شوية وبعدين رفع إيده وخبطه خبطة واحدة قوية على راسه.. كل ده وأمي لسه نايمة، مقلقتش حتى، كإنها مش سامعاه ولا حاسة بحركته…
مقدرتش أميز إذا كان أبويا نام بعمق، أُغمى عليه ولا مات… مش فارقة، كده كده مكنش بيتحرك وجسمه معملش أي رد فعل. بمشرط منهم الكائن فتح دماغه وخرج مخه. وبالمشرط التاني فتح صدره وخرج قلبه وشق بطنه بالعرض وخرج الكليتين والكبد. كان عارف إني واقف براقبه وكان واثق إني مش هصرخ، أدرك الحالة اللي كنت فيها، الصدمة، الرعب اللي وصل مداه لدرجة إني مخي وقف، مقدرش يترجم اللي بيحصل….
شفته بيعمل حركة بصوابعه كإنه بيفتح شنطة بس الشنطة مكنتش مرئية، دخل فيها الأعضاء وقفلها والأعضاء برضه اختفت لما دخلت فيها….
بعدها لف ومشي لحد ما وصل لحيطة الأوضة واخترقها. كل ده وأنا بلف وبتابعه وهو مش بيلتفت ليا…
جريت على البلكونة بشكل تلقائي. وقفت وبصيت عالشارع.. على بعد مسافة كانت واقفة، عربية الإسعاف العجيبة اللي شفتها اليوم اللي قبله… بابها اتفتح مع إن مكنش باين إن حد قدامها، لكن هو كان موجود، أنا متأكد، الكائن اللي معاه الأعضاء، الباب ده إتفتحله عشان يدخل…
بعد لحظات الباب اتقفل والعربية انطلقت….
لا راسي اتخبطت ف سور بطوب أحمر ولا في واحدة بصتلي وحسدتني، هو ده اللي حصل لي وطير عقلي…
اللي شفته ليلتها هو اللي اتسبب ف حالتي العقلية، والذكرى دي محتها من دماغي… اللي خلى الناس متعرفش اللي حصل لأبويا هو إن أمي قررت متبلغش، مين كان هيصدقها؟ اللي هيحصل إنها هي اللي كانت هتشيل الجريمة، هي اللي كانت هتتحاكم ومش بعيد تتعدم وأنا وأخواتي كنا هنتيتم.، بلعت صدمتها ورعبها وقالت إنه مات بسلام وهو نايم، وظبطت إجراءات دفنه بسرعة قبل ما حد يركز..
هي دي القطعة المفقودة، الإجابة عن أسئلة كتير زي إزاي واحد أو حتى عدد من الأشخاص يقدروا يدخلوا بيت فيه 3 شقق ويقتلوا العدد الكبير ده من غير ما يعملوا دوشة وإزاي ده كله يحصل ف نفس الوقت تقريبًا؟ وبالحرفية دي، وإزاي الضحايا كلهم ميصرخوش ولا يقاوموا؟ والقتلة يخرجوا بنفس الهدوء ومن غير ما يستخدموا الأبواب؟ ده لإن الفاعل المباشر جن، دكتور من الجن استعان بيه شياطين البشر…. في جماعة من تجار الأعضاء مش بس اكتفوا بصناعة الشر اللي اتخصصوا فيها، دول فكروا بره الصندوق، بره كل الصناديق، بما إن التجارة دي مبقتش في الخفا زي زمان، العالم بشكل عام بقى مدرك لخطورتها، كان لازم يمارسوها بشكل مختلف، مبتكر، يكونوا حذرين ومبدعين، يتعاونوا مع دجالين يقدروا يخلوهم يتصلوا بالعالم الآخر، عالم الجن والكائنات الماورائية، وزي ما احنا عندنا دكاتره ومهندسين وحرفيين ومحاسبين هم عندهم نفس المهن والتخصصات وبشكل ما قدروا يعملوا صفقات الله أعلم بيها مع الجن الشريك في المهام القذرة. اللي شق الناس في قرية المنيا وأخد اعضائهم هو دكتور، دكتور من الجن!
وبعدها سلم الأعضاء للطرف التاني، البشر التجار، زي ما حصل بالظبط مع والدي ويمكن مع حالات تانية منعرفهاش….
كل اللي كانوا في القاعة اتاخدوا من منظري، ملامحي الثابتة، عيوني اللي مش بترمش ووشي اللي خطوط العرق كانت بتنزل عليه وره بعض.. كل الذكريات رجعت دفعة واحدة لما المحامي أتكلم في التفاصيل. مسكت القضبان بإيدي الاتنين، كورت صوابعي عليهم وجزيت على سناني….
أخدت براءة، بقيت حر، بس هو فعلًا أنا حر؟ هخرج أروح فين؟ هرجع قريتي؟
كل من ليه علاقة بالقضية وأطلع عليها وكل المتابعين اتأكدوا من براءتي، أهل قريتي بقى حالهم كان مختلف، كانوا مستنيين اللحظة اللي هخطي فيها القرية عشان يقتلوني، في الغالب كانوا هيضربوني لحد ما كل حتة ف جسمي ما تنزف ويعلقوني على شجرة لحد ما أموت من الجوع والعطش والنزيف والجروح المفتوحة الملوثة.. أصل مفيش بديل، مفيش حد تاني اتمسك ولازم كانوا يحملوا حد المسؤولية، حتى لو هيبقى كبش فدا، حتى لو مش هو القاتل الحقيقي، والحد ده كان هيبقى أنا. عشان كده مكنش ينفع أرجع، مفيش قدامي غير إني ابدأ حياة جديدة، أندمج ف وسط ناس كتير ف محافظة كبيرة، ابدأ من الصفر، وفيها إيه، مانا كنت في الصفر طول السنين اللي فاتت…
وده اللي حصل…
بمساعدة المحامي اللي دافع عني اتنقلت القاهرة واشتغلت في المهنة اللي شاطر فيها، ف ورشة تصليح عربيات…
أنا كنت متخيل إن القرية بتاعة الصعيد مثالية لأصحاب النفوس المريضة والأجندات المشبوهة عشان تنفيذ الجرايم إياها، على أساس إن مش هيبقى في ضجة، في الأول والآخر القرى دي بتبقى معزولة نسبيًا والدنيا هناك ملمومة، لكني طلعت غلطان… ف يوم وأنا ماشي ومش مركز في شارع من شوارع القاهرة كعادتي فجأة عيني وقعت على حاجة، علامة معينة عارفها كويس، حرف إكس كبير بالطباشير الأحمر على حيطة عمارة، ولما مشيت حبه لقيت علامة تانية وبعدها بمسافة علامة تالتة، وبعدها علامات كتير، حواليا ف كل حته، واكتشفت إن الزحمة مناسبة أكتر لجرايمهم، الزحمة بتغطي على صرخة الضحايا وبيدوب جواها الجاني مع المجني عليه…..
“تمت”
#دكتور_الجن
#ياسمين_رحمي