فجأة لقيت نفسي قاعد في مكان واسع، مكان يشبه استقبال المستشفيات، أو الشركات الكبيرة، كنت لوحدي، وكان الجو سقعة جداً، والاضاءة خافتة بطريقة غريبة، وفي نفس الوقت تحس إنها قوية!!. فضلت اتلفت حواليا أدور على أي حد أسأله أنا فين، لكن مكنش فيه أي حد، سكون رهيب ومخيف، لحد ما فجأة المكان اتملى عفاريت!!..
وصحيت من النوم على صوت تليفوني بيرن!!، فضلت استعيذ بالله من الشيطان، شربت شوية ماية ورديت، وكان المتصل واحد من معارفي بيقولي أن قدامه شغل ليا، ولما لقى أنه باين عليا اني لسه صاحي من النوم من صوتي، قالي لما تفوق كلمني ضروري على الرقم ده لاني غيرت رقمي..
غسلت وشي وعملت قهوة، وبعد ما فوقت، رجعت كلمت عم (حسيني)، وبلغني أنه لقالي شغل مناسب لحالتي، بم اني صاحب اعاقة جسدية، واني ألاقي شغل مناسب ده شئ صعب، لأن مفيش حد ممكن يشغل واحد برجل واحدة زيي، رغم ده أنا عمري ما فقدت الأمل، وراضي بقضاء ربنا، وعشمان دايما في رحمته…
خلصت معاه المكالمة بعد ما بلغني اني هشتغل فرد أمن على عمارة سكنية في أحد أحياء الجيزة الراقية، في وردية ليليلة، قبلت بعدها بدون تفكير، وقفلت معاه المكالمة وبدأت احضر نفسي عشان استلم الشغل بليل..
الساعة 11 بليل قابلت عم حسيني في الدقي وخدني وفضلنا ماشيين، ومن شارع لشارع جوه شارع وصلنا بعد ساعة لمبنى من دور واحد، شكله يقبض القلب، مكتوب عليه انه مستشفى!!، للوهلة الأولى لما تبص للمبنى ده تقول انه مقبرة، وده خلاني أسأل عم حسيني باستغراب:
هو مش انت قولت ان الشغل أمن على عمارة، وقفنا هنا ليه؟!..
قال:
بصراحة، خوفت أقولك ان الشغل امن في مستشفى لترفض، وانا عارف انك محتاج للشغل، فحطيتك قدام الأمر الواقع، ونصيحة يا يحيي يا ابني، اشتغل، ما حدش لاقي شغل اليومين دول…
بعد كلام عم حسيني، حسيت بالعجز الحقيقي، وإن الناس بترتب الآخرين حسب مكتسباتهم من الحياة، واشكالهم وألوانهم، وأن مهما حاول البعض التصدى لده، إلا إن هتفضل الحقيقة ثابتة، حقيقة ان النفس البشرية لا تتقبل الآخر، مدام مختلف يبقى هيتحط في خانة تناسب اختلافه، أنا مقدر ان واحد زي حالاتي يعني مبتور القدم والساق وبيمشي على عكاز مش هيشتغل أي شغلانة، وطبيعته الجسدية هتفرض عليه طريق معين، لكن أظن من حقي اني كنت أقدر أختار ايه يناسبني جوه الطريق ده، أو حق الرفض والقبول لأبسط الأشياء، في النهاية التفكير مش هيفيد بحاجة، وكلام عم حسيني صح. ما حدش لاقي شغل..
ابتسمت لعم حسيني واحتفظت بتفكيري لنفسي، هزيت راسي اني موافق، فاتقدم عني وشاور لي احصله، ودخلنا المبنى العجيب ده، واول ما دخلت، افتكرت الحلم!!، لان المكان يشبه بالظبط المكان اللي شفته في الحلم!!، قلبي اتقبض اكتر، بطني وجعتني من الخوف، وحسيت كأن حاجة طابقة على نفسي!!…
بدأت أبص لجميع أركان وأرجاء صالة الأستقبال الواسعة، اللي فيها على اليمين، جدار بطول نص متر دائري، وعلى الشمال كراسي حديدية قديمة ملحومة في البعض، وراجل مسن قاعد في الاستقبال، قرب منه عم حسيني وقاله:
السلام عليكم، ازيك يا عم شحاته. الراجل بص له وكأنه بيستعيد ذاكرته اللي قضى عليها الزمن، وبعد ثواني من التدقيق في ملامح عم حسيني قاله:
ازيك يا واد يا حسيني، وأنت يا واد ياللي معاه ازيك..
رد عم حسيني وهو بيضحك:
كويسين يا عم شحاته، وبعدها شاور عليا وكمل كلامه:
أهو يا عم شحاته يحيي اللي قولت لك عليه، شاب أمين ويعتمد عليه، وهينفعك في الشغل..
رد عم شحاته وقال:
خلاص يا حسيني، سيبه وامشي انت، هو كده استلم الشغل خلاص..
مشي عم حسيني وساب لي جوايا احساس طفل امه سابته ومشيت أول يوم مدرسة في حياته، وعنيه منزلتش من عليها وهو بيترجاها بنظراته انها تاخده معاها وتنقذه من المصير اللي سابته فيه..
قام عم شحاته من مكانه وخرج بره الجدار، راجل عجوز، قصير القامة، تجاعيد الزمن باينة على ملامحه، بص لي وقالي:
هتتبسط اوي معايا يا واد يا يحيي، انا هروح اجيب عدة الشاي من جوه واجي لك، نعمل كوبايتين شاي واحكيلك على الشغل…
مشي عم شحاته لحد ما خلص الصالة الكبيرة، ودخل يمين، اعتقد انه ممر بيحتوي على غرف الكشف أو ما شابه، وفضلت أنا لوحدي في المكان المرعب ده، والأفكار المرعبة كلها هجمت على عقلي، قعدت على كرسي جلد كان جمب جدار الاستقبال، حاولت اتنفس اكتر عشان اخف من التوتر، واقول في سري قرآن، وبدأت اسمع صوت حد ماشي جاي من المكان اللي عم شحاته دخله، لكن الصوت فضل مستمر وعم شحاته مظهرش!!، بدأت اخاف فعلا، الجو فجأة بقى برد، وصوت الخطوات لسه مستمرة، حاولت اطرد الافكار دي من دماغي، قولت لنفسي:
مالك يا عم في ايه؟، ما احنا في ديسمبر، والجو مبقاش مضمون، شوية حر وفجأة بيبرد، فعادي يعني، واكيد صوت الخطوات دي هي خطوات عم شحاته، بس هو كبير في السن، فعلى مهله يعني…
صوت الخطوات اتقطع عن أول الصالة الكبيرة من ناحية الطرقة، وكان في حيطة كده صغيرة عاملة كيرف، ولما بصيت اشوف ليه الخطوات وقفت ليكون عم شحاته محتاج مساعدة ولا حاجة، لقيت واحد واقف باصص من ورا الحيطة وبيبص لي!!، محستش بنفسي غير وأنا عمال أصرح وجريت بالعكاز على الباب، لقيته مقفول ومش راضيتي يتفتح، وصوت من ورايا بيقولي:
انت رايح فين يا ابني؟!..
صرخت وبصيت ورايا لقيته عم شحاته!، راح وحط الحاجة اللي كان شايلها في ايده على جدار الاستقبال وقرب مني وقال:
راح قعد مكانه وبدأ يعمل الشاي، وقربت أنا ورجعت قعدت عل. الكرسي جمبه، قال من غير ما يبص لي:
_ بصي يا ابني، دي مش مستشفى، دي مشرحة، و..
مشرحة!!، كمان مشرحة!!، لا.. انا مش هقعد هنا دقيقة واحدة..
_ يا ابني اصبر لما أخلص كلامي وبعدها قرر تمشي أو تقعد براحتك بقى، هي زمان كانت مستشفى، لكن مع التطور، الناس مشيت واحنا وقفنا، فاتحولت المستشفى لمشرحة، هنا هدوء زي ما انت شايف، شغلك من 12 بليل، ل12 الضهر، لا حد هيضايقك ولا حد هيرخم عليك، الدكتور مصطفى بيجي يومين في الاسبوع يعمل شغله ويمشي، وده اصلا لما بيجلنا حالة، ميت يعني، قولي بقى، شايك ايه؟..
قولت وانا صوتي مش طالع:
خفيف.. خفيف سكر زيادة.
ناولني كباية الشاي وكمل وقال:
رديت بسرعة وسألته بخوف:
أشوف ايه واسمع ايه؟، هي المشرحة دي هنا بناءً على ايه؟!..
رد بغضب وقال:
يحيي. قولت لك متسألش ومتركزش، كُل عيش، اعتبر نفسك اخرس واعمى، اتأقلم زي ما اتأقلمت على رجلك، وكل ما تثبت انك مصدر ثقة، مرتبك هيعلى ويزيد..
سابني ومشي وغاب عن نظري، ومعرفش ايه خلاني أخاف اسكت، وليه مقولتلوش عايز امشي ومش موافق اكمل!، حسيت ان المكان ده شغال بطريقة شمال، وحسيني عارف ده وعشان كده جابني هنا، اكيد مقابل ده خد فلوس، جابني هنا عشان المرتب بالنسبة لواحد زيي خيالي، ومفيش شغل أصلا، فهرضى وهسكت بدل ما أموت للجوع. في النهاية أنا هنا، هنا لسبب ما، اكيد هستكشفه وهيبان لي…
لسه الجو ساقعة وبرد، الهوا جاي من تحت الباب وبيضرب في الكراسي وبيعمل صوت مرعب، مواء قطط مخيف جاي من بره، عنيا حايرة ما في كل المكان ومش ثابتة، ضربات قلبي سامعها من كتر الخوف، وجسمي بيرتعش، وحاسس اني مش لوحدي، حاسس ان فيه حركة حواليا، مجرد حركة مش ملموسة، يمكن بدافع الخوف، كنت بظن كده، لكن فجأة لقيت قطة داخلة من الباب!!!، الباب المقفول!!…
اتسمرت مكاني، عنيا برقت، وفتحت بوقي من الذهول، كنت زي الصنم!!، تابعت دخولها من الباب، قطة سودا، سوادها مخيف، وقفت قدامي وبصت لي بعنيها اللي بتلمع بنور أخضر!!، وبعد ثواني مشيت ودخلت ناحية ما دخل عم شحاته!!…
واول ما اختفت عن نظري، سمعت صوت. كان صوت همس بالاستغاثة، كأن حد بيقولي ألحقني، وبيتوجع، بيصارع الموت!!، حاجات كتير داخلة في بعض، مبقتش قادر اخد نفسي، الدم نشف في عروقي وجسمي تلج، وشعري انتصب، بدأ الصوت يقرب اكتر، صوت طلب استغاثة!!…
معرفش ايه الدفعة والفضول اللي امتلكوني فجأة، وخلوني قومت، وخدت العكاز ومشيت ناحية مصدر الصوت، الاضاءة حمرا وخافتة لكنها قوية!!، نفس الحلم بالظبط، ناديت على عم شحاته، مرة واتنين وتلاتة، لكنه مردش، الجو بقى برد أكتر، وصوت القطط اختفى، وفضل صوت الاستغاثة متواصل!، وكنت وصلت للمر اللي في آخر الصالة!!، الممر مكنش في الا 3 غرف بس، وال3 مقفولين، ندهت تاني على عم شحاته بصوت عالي، لكن بردو مردش عليا، وفجأة لقيت باب الغرفة اللي في وشي في آخر المرر بيتفتح!!!…
مقدرتش حتى أبص ورايا ولا جمبي، رقبتي نفسه رفضت تتحرك، وجسمي اتحنط، كأني متكتف!!، والباب اتفتح على الآخر، ولقيت نفسي فجأة بتحرك كأن حد بيدفعني عشان ابقى على باب الغرفة!!!..
كانت عبارة عن غرفة واسعة فيها سرير متحرك في النص، وعلى الشمال صندوق كبير في تجويف رف!!، وكانت درجة البرودة عالية جدا، والنور بيرتعش!!..
فجأة لقيت شخص نايم على السرير!!، جسمه بالكامل أزرق!!، وملامحه مطموسة ومرعبة، فجأة فتح عنيه، وكان بيضا والنني أزرق بلون جسمه ومايل للبياض!!، فجأة قام وفتح الدرج ودخل، والدرج اتقفل!!!…
جسمي فك، فضلت أصرخ، الباب اتقفل في وشي واتزقيت، ووقعت على ضهري، ولقيت عم شحاته واقف وبيبص لي بغضب، مشي راح ناحية العكاز وجابهولي، ساعدني أقوم، وخدني لبره، قعد قدامي وقال:
مش قولت لك متركزش؟، مهما سمعت ومهما شوفت!!..
قولت له وانا قلبي هيقف ومش مستوعب اللي شوفته:
هو ايه اللي بيحصل هنا بالظبط؟!، اللي انا شوفته ده ايه؟، قولي اني بحلم. قولي انه بيتهيألي…
قال لي:
بص يا ابني. دي مشرحة مش جنينة الفسطاط، مبيدخلها غير الميتين وبس، فطبيعي تشوف وتسمع هنا العجب، لو عايز تاكل عيش، اعمل نفسك مش من هنا، شغل لك فيلم اتفرج عليه، ولا لعبة تلعبها، وخلي بالك ان الدكتور مصطفى جاي الفجر عشان يشرح الميت اللي جوه، فلما يجي صحيني…
قولت له بخوف:
هو انت بردو هتسيبني لوحدي؟!.
قالي بسخرية:
أمال هقعد جمبك احضر لك الرضعة يعني؟!..
قام ومشي وهو بيقول: رجالة اخر زمن، قد البغل وخايف من العفاريت، ما عفريت الا بني آدم…
فضلت لوحدي، فات ساعة وانا هموت من الخوف، ولما بدأت اطمن شوية، فجأة لقيت واحد واقف قدامي، كان نفس هو هو الجثة اللي شوفتها في الأوضة، بس المرة دي كان غرقان دم!!.. اختفى في ساعتها، وباب المشرحة اتفتح، ودخل منه راجل بيزق سرير، ولقيت شحاته والحسيني بيساعدوه، ونفس الجثة نايمة على السرير، بس في حالة تانية، كأنه شخص لسه متوفي، مش بقاله مدة، ودخلوا بيه للممر ناحية الغرف!!…
اتغير المشهد لجوه الغرفة، والراجل ده بيقول:
الباب خبطت!!!، وصوت من وراه ببقول:
قفل شحاته الباب، وكانت نظراتهم عليا، قال شحاته:
ده يحيي يا دكتور مصطفى، من طرف الحسيني ..
ما ردش ومعقبش، بص لي من فوق لتحت، وشاور لشحاته يروح وراه، وفضلت لوحدي وانا مش مستوعب اللي انا بعيشه!!، وان اللي شفته ده كان بجد، وفهمت ليه الحسيني جابني هنا، وليه المرتب كبير كده، وليه كل الظروف بتدل ان المكان ده شمال!!!…
فضلت مكاني متحركتش، بس كنت قررت انا هعمل ايه أول ما امشي من هنا، وبعد ساعات كتير، خرجوا من جوه، ومشي الدكتور، بص لي شحاته وقال لي:
تقدر تروح، الساعة بقت 8.. ومد ايده في جيبه، وهرجها وهو ماسك فلوس كتير، واداهملي وقال:
قولت لك. كل ما تسكت، كل ما تاكل الشهد، روح يلا، وبكرة تيجي في نفس الميعاد…
خدت الفلوس منه ومشيت، وانا عارف انه مطمن، هو فاكر اني بس خوفت من الاجواء دي، وفاكر ان الحسيني مفهمني، او على الاقل ضامن سكوتي، لكن ده مش حقيقي، لأني أول حاجة عملتها بعد ما مشيت، روحت للقسم وبلغت عنهم، ومترددوش ثانية انهم يتحركوا لأن المكان كان حواليه شك كبير…
قبضوا على الحسيني وعلى شحاته، لكن الشرطة مقدرتش توصل لدكتور مصطفى، واعترفوا انهم تجار اعضاء، وان المكان ده بيستخدموه لكده في الليل، وده اللي الشرطة كانت شاكة فيه، بس مكنش فيه دليل، لأن المكان مفيش حواليه سكان، او يعني اللي حواليه بعيد شوية وناس في حالها والمنطقة كلها سكون، وكل ما كان يبعتوا حد مثلا، يلاقي المكان مقفول ومتهالك، ومفيش اي دافع لدخوله، كأني كنت سبب في كده، في ان الحقيقة تظهر….
بعد أسبوع، لقيت تليفوني بيرن من رقم غريب، ولما رديت لقيت الظابط المسؤل في القسم بيقولي:
احنا لقينا جثة مصطفى الهربان جوه المشرحة، لما روحنا عشان نقفل القضية خالص ونكمل باقي شغلنا، انا معرفش ازاي ده حصل واحنا قافلنها، وسايبين عليها قوة، تعالى عشان اقعد معاك شوية..
قفل معايا وافتكرت، لما سمعتهم بيقولوا ان شحاته هيقدر يهرب، وتاني يوم بلغت الظابط بكل اللي انا شوفته والحقيقة كاملة، ولما دوروا كويي، لقوا ممر سري ورا الصندوق الكبير اللي في الغرفة، ومكنش مجرد ممر، ده قبر حرفيا، ولقوا فيه بواقي عظام، وجثث متحللة، وجثث سليمة، بتدل على انهم كانوا عصابة فعلا!!..
أما موت الدكتور كان أثر انتح.ار، شن.ق نفسه…
وفهمت أن مهما كانت الظروف، إلا إن كل واحد ليه دور في الحياة، دور الظروف كلها بتتهيأ عشان تخليه يعمل ويقوم بدوره ده، ولو مكنتش فقدت رجلي، مكنتش هبقى سبب في الخلاص من العصابة دي، وكانت هيبقى فيه ضحايا أكتر وأكتر، أرضى دايماً، وربنا هيجازيك خير ..
لأن الظابط وقف جمبي، وعيني أمن في مستشفى الشرطة، ودي كانت مكافئة ربنا ليا…
تمت..
السبب