دَقّة العَقرَب
“الجزء الأول”
**
“فلاش باك”…
“كانت أصعَب لحظة مرّت عليّا في حياتي، لمّا وَقَفت انا وابويا قُدّام أمّي وهي بتطلّع في الرّوح، فجأة كِدَه وبدون مُقدّمات حَصَلتلَها حالة تشنّج، وِلقيت حركة إيدها زيّ ما تكون بتقاوم حد قُدّامها، وفجأة برضو لون وشّها بدأ يتغيّر وهي بتمسِك رَقبتها وبتنزل على الأرض، كان بُوقّها مفتوح وبتحاول تتنفّس، وكان طالِع منها صوت حَشرَجة مُخيف، بالظبط زي ما يكون في حد بيخنُقها!
الصّدمة اللي كُنت فيها خلّتني مُش عارف اتصرّف، إحساسي بإن كُل حاجة بتنتهي مَنَعني من إنّي اروح للتليفون واطلب رقم أي دكتور ييجي يسعِفها، جَريت عليها وحاولت آخد إيدها واقوّمها من الأرض، مَطَلَبتِش من ابويا يساعِدني، من سنين طويلة وهوّ عنده مرض نَفسي محدّش عارف سَبَبُه إيه، بينسى وبيتصرّف تصرّفات غريبة ومَعَدش بيتكلّم، حتّى وهوّ شايف أمّي في الحالة دي كان بيبُصّلها والحُزن باين في ملامحُه، لكن دَه برضو مغيّرش أي حاجة من اللي هوّ فيه، مَرَضُه مَنعه من إنّه يعمل حاجة.
مَسَكت إيد أمّي وبَدَأت أقوّمها، في اللحظة دي سِمِعت دقّة عَقرَب السّاعة، استَغرَبت، واللي خلّاني استغرَب أكتَر ان أمّي رغم الحَالَة اللي هي فيها انتَبَهِت للصوت، حتى ابويا اللي تقريبًا مَبينتبِهش لحاجة خَد بالُه، وِلقِيت نَفسي انا كَمَان بَبُصّ للسّاعة، واندهَشت لمّا لَقيت العقرَب واقِف عند رقم 7!
طُول عُمري ودَقّة العَقرَب بتكون مَع السّاعة 12، إلا دلوقت!، قَبل ما افكّر انّ السّاعة ممكن تكون خرَّفِت أو حصل فيها خَلل سِمِعت صوت حَشرَجِة أمّي، بَصّيت عليها وهي على الأرض، لكن كُل شيء كان انتهى بطريقة مُرعِبَة، الدَّم كان نازِل من بوقّها ومناخيرها وودانها، جِسمها كان بيتنِفض وهي بتطلّع في الرّوح.
كُل حاجة انتَهت في ثواني، أمّي في لحظة مَبَقتش موجودة، مَفيش غير جثّتها اللي غَرقانة دَم، حسّيت ساعِتها بانهيار، رِجلي مَبقِتش شيلاني، نِزِلت على الأرض جَنبها اهزّ فيها بجنون، كُنت بَصرُخ فيها عَشان تقوم، لَكن للأسف، في اللحظة دي نِسيت انّ اللي بيروح مَبيرجَعش.
حاجة واحدة بَس خلّتني افصِل من اللحظة المُرعبة دي، لمّا سِمِعت صوت ابويا وهو بينطَق بصعوبة وبيقول…
-ا ع ت م ا د.
الدموع كانت نازلة من عينيه وهو بيبُص لأمّي وبينطَق اسمها، لأوّل مرة من سنين طويلة اسمع صوته، استغربت انّه بيتكلّم بعد السنين الطويلة دي، يِمكن عشان اللحظة اللي كُنّا فيها تِحَرَّك جَبَل من مكانه، بَعدها انتَظَرته يتكلّم تاني، لكن دي كانت آخر مرّة سِمِعت صوته فيها.
بَعد يومين أمّي اندَفَنِت، ويمكن سبب الوفاة اللي اتكتب في شهادة وفاتها هوّ أغرب حاجة مرَّت عليّا، النتيجة كانت وفاة بسبب خَنق وضَرب على الرّاس بآلة حادة! دا غير انّهم لقوا تحت ضوافِر أمّي آثار جِلد! والأغرب من الخَيال إن الآثار دي كانت لشخصين مُش شخص واحد!، كُل دَه كان في التقرير الطبّي اللي اعتمدته المَشرَحة بعد تشريح الجثّة، واللي طبعًا كان لازم يتحوّل للشرطة والنيابة لوجود شُبهة جنائية، ومَعَ الوَقت التحقيقات اتقَفَلِت بَعد تحليل عيّنات الجِلد اللي كانت تحت ضوافِر أمّي، واللي الفحوصات أثبتت انّها لأشخاص تانية غيري أنا وابويا، لَكِن مُش معروف هُمّا مين، دا غير طبعًا إن الآلة الحادة اللي استُخدِمَت في الجَريمة مَلهاش أثر!”
مِن بَعد اللي حَصَل وابويا راقِد في السرير، حتّى الخطوتين اللي كان بيمشيهُم انتهوا، وانا لحد دلوقت، بحاول افهم إيه اللي حَصل لأمّي الله يرحمها بالظَبط!
…
المكان: فيلّا في مزرعة.
الزَّمن: 2015.
الوقت: يوم سَبت، 6 مساءً.
احساس الخوف اللي جوّاك مُمكن يكون دافِع انّك تِفضل في المكان اللي انت خايِف منّه، أكيد حاجة غَريبة انّ حَد يقول كِدَه على المكان اللي اتولَد واتربّى فيه، لكن بعد اللي حَصَل لأمّي الله يرحمها، واللي بيحصل لابويا، واللي بدأ يحصلّي في الفترة الأخيرة، يخلّي الخوف من الفيلا شيء طبيعي، لكن عُمري ما فكّرت اسيبها، عَشان ابويا اللي راقِد في أوضته، مفيش حاجة بتتحرّك فيه غير عينيه، وعشان عندي أمل ولو بسيط انّ هَييجي الوقت واعرف فيه السَّبب اللي خَلّى حياتنا تِتقَلَب بالشَّكل دَه.
انا مُهنّد عُمر ابوالفتوح، طبيب، اتخرَّجت من 4 سنين واتخصَّصت في علم التشريح والأنسجة، ابويا مهندس ميكانيكا بارع، كان عَنده أحلام ومشاريع المَرَض اللي جالُه مَنَعُه من إنّه يحقَّقها، حتى بَعد ما تِعِب كانِت دماغُه شغّالة في الميكانيكا، لحد اللي حَصَل لأمّي، من وقتها وكُل حاجة انعَدَمِت عَنده، وأمّي الله يرحمها، كانت الوَريثة الوحيدة لجدّي، والفيلا اللي عايشين فيها دي جزء من وِرثِها، دا غير أطيان كِتير وفلوس، ورَغم كُل دَه كِبِرت ومَعرِفتِش غير إحساس واحد بَس، الخوف!
يِمكِن الطريقة اللي ماتت بيها أمّي هيّ اللي شجّعتني ادخُل طب واتخصَّص في التشريح، كان يِهمّني جدًّا اعرَف سبب اللي حصلّها، وقولت يِمكن دراستي في الطب تساعدني اوصَلّه في يوم من الأيام.
في الفترة اللي قبل ما أمّي تموت، كان باين عليها الخوف، زيّ ما تكون في حاجة مخبّياها عليّا، وكُنت بَرضو بلاحظ انّها متوتّرة، ولمّا كذا مرّة سألتها عن سَبب الحالة اللي انا ملاحظها عليها كانت تقولّي مفيش حاجة أنا بخير، وعشان أنا عارف انها كَتومة جدًّا مكُنتش بحبّ اضغط عليها في الكلام، وقولت يمكن عشان سِنّي صغيّر بيتهيّألي كِدَه، ولحد دلوقتي مش عارف هل دَه لُه علاقة باللي حصلّها ولا لأ.
مَخبّيش عليكم، دِماغي مَبتِفصِلش تفكير، بمجرّد ما ارجَع من شُغلي الساعة 5 المغرب وادخل الفيلا بفتِكر كل حاجة، الجَوّ العام كُلّه مُخيف، مِن فَترة طويلة بدأت اسمَع أصوات غريبة بَرَّه في الجِنينة، صوت واحدة بتستغيث ومعاها صوت طِفلة بتبكي، كُنت بَفتح شِبّاك أوضتي عَشان اشوف الصوت جاي منين، مَكُنتش بَلمَح حد تحت، لدرجة انّي أحيانًا كُنت بنزل الجِنينة ادوَّر فيها يمكن ألاقي حَد، دا الموضوع وَصَل إنّي كُنت بسأل عم محروس البوّاب لو في حد دَخل الفيلا، وكان دايمًا بيرُد عليّا إنّه قاعِد واخِد بالُه مِن كُل حاجة ومفيش حَد لا بيُدخل ولا بيُخرج غير المُمَرّضة اللي قاعدَة بابويا، وِكُنت دايمًا بيأس انّي اعرف الصوت جاي منين، فَباخُد نَفسي وادخُل الفيلا تاني، اعدّي اطّمن على ابويا اشوف حالته، واشوف لو المُمَرّضة قالِت على دوا قَرّب يِخلَص أو حاجة محتاجاها عَشان اجيبها تاني يوم وانا راجِع، وبَعد كِدَه ادخُل أوضتي واقَف في الشِّباك، واسمَع نَفس الأصوات اللي مُش عارِف بتظهر منين كل فترة والتانية!
…
في نَفس الليلة…
المكان: الفيلا.
السّاعة 6:30 مساءً.
خَرَجت من أوضتي، أوّل حاجة عَملتها انّي روحت أوضة ابويا، وِطبعًا قبل ما ادخُل الأوضة خبَّطت على الباب عَشان المُمَرّضة تِعرف انّي هَدخُل، بَعدها فَتَحت الباب وِدَخَلت، قرَّبت من ابويا اللي نايم كالعادة لا حولَ له ولا قوّة وعينُه بتبُص علطول للسَّقف، حطّيت ايدي على صِدرُه من باب الاطمئنان عليه وانا بَبُص للمُمرّضة وبقولّها…
-ازّيك يا ميَّادة.. إيه الأخبار النهاردة؟
-الله يسلّمك يا دكتور مُهنّد.. زيّ ما حضرِتَك شايف مفيش جديد.
-في دَوا قَرَّب يِنقص أو حاجة؟
-لحد دلوقت لا.. لو في حاجة هعرَّف حضرِتَك.
شَدّيت كُرسي وقعدت جَنب سرير ابويا، انا في العادة كُل يوم بَقعُد جنبه في الوَقت دَه، لحد ما ميَّادَة تعطيه الدَّوا اللي ميعادُه الساعة 7، النُّص ساعة دي تقريبًا كُنت بقضّيها في صمت، بَفَكّر بَس في مُهندس الميكانيكا اللي كان كُلّه طموح، وفي الحالة اللي هوّ عليها دلوقت، وِبَفتِكر الورشة بتاعته اللي في سرداب الفيلا، واللي اتقَفَلت من ساعة ما تِعِب وبَطَّل يِشتَغَل، وقَد إيه الحياة مُمكن تِخطَف من الإنسان أحلامه ومُستَقبَله في لَحظَة.
وِزَي كُل يوم، السّاعَة 7 إلا دقايق بسيطة، مَيّادة طَلَبِت منّي اساعِدها نِقَعّد ابويا عَشان تعطيه الدَّوا، ولأوّل مَرَّة ييجي في بالي اسألها…
-اومّال بتعطيه الدَّوا ازّاي وانا بَرَّه؟
ولقيتها بتقولّي وهي بتفتَح عِلَب الدَّوا…
-أوقات بَندَه لِعم محروس البوّاب.. وأوقات تانية بحاوِل اقعَّدُه لوحدي، بَس بيصعب عليّا لأنّه بيتفرهَد مِنّي.
وِوَقفت لحد ما خَد الدَّوا، وساعِدت ميّادة في إنّنا ننيِّمُه تاني، وطبعًا كالعادَة، عينيه كانت مفتوحة وبيبُص للسَّقف طول ما هو صاحي.
في الوقت دَه، سِمِعت صوت دَقّة عَقرب الساعة، بَصّيت في ساعِة إيدي لقيتها 7، ساعِتها افتكَرَت اللي حَصَل لأمّي لمّا السّاعة رَنَّت في الوقت دَه، بَس اللي لَفَت انتباهي أكتر، إن ابويا اللي مبيقدَرش يبُص غير للسَّقف، انتبَه للرَّنّة وِبَص ناحية باب الأوضة، استغرَبت انّه انتبه للصوت، حتى المُمَرِّضة كانت مِستغرَبة هي كمان، لدرجة انها قالتلي…
-دكتور مُهنّد.. البَشمُهندس عُمر حرَّك راسُه وبَص ناحية الباب!
بَصّيتلها من غير ما ارُد عليها، وعلطول خَرَجت من الأوضة وانا عيني على ابويا اللي كان لسّه بيبُص ناحية البَاب!
…
في نَفس الليلة…
المكان: الفيلا ” قُدَّام السّاعة”.
السّاعة 7:05
المرّة دي مَخَرَجتِش من أوضة ابويا على أوضتي، انا نِزِلت تَحت، وَقَفت قُدّام الساعة، مُش من طبيعتي انّي اتأمّل في حاجة كتير، كُنت طول الوقت مشغول بدراستي وابويا والتفكير في اللي حَصَل لأمّي، لكن قرَّرت اركّز شويّة مع الساعة، اللي عقرَبها دَقّ قبل كِدَه الساعة 7، ساعِتها أمّي ماتت بطريقة غريبة، ولمّا العقرب دَق للمرة التانية في نفس الوَقت من شويّة، ابويا اللي مبينتِبِهش لأي حاجة انتَبَه!
شَكل السّاعة قَديم جدًّا، بَس دَه مُش حاجة غريبة، الفيلا أغلبها أنتيكات وِتُحَف، عَشان أمّي الله يِرحَمها كانت غاوية تِشتري الحاجات القديمة والنّادرة، لثواني فكّرت ان ممكن عَشان الساعة قديمة تكون بتخرَّف وعَقرَبها بيرِن بالخطأ، لكن ممكن تكون صُدفَة انّه يِرِن المرتين الساعة 7؟! وصُدفة بَرضو انّ في المرة الأولى يِحصل اللي حَصل لأمّي وفي المَرَّة التانية ابويا يِنتِبِه؟!
قرَّبت من الساعة، وبدأت امشّي ايدي عليها، أوّل ما لَمستَها حسّيت جِسمي بيرتِعش، قولت يِمكِن من الخوف، بِعِدت إيدي وبدأت أبُصَلها، أكتر حاجة لَفَتِت انتباهي هي العَقارب، مَكانِتش مُستقيمة زي أي عقارب ساعة شوفتها، ده اللي لاحظته لمّا دقَّقت فيهم من قُريّب لأوّل مرة، بَس لَقيتني بقول لنفسي السّاعة كُلّها شَكلها مُريب، زيّ حاجات كتير في الفيلا هِنا.
وحاوِلت اقرَّب إيدي من الساعة تاني، ولمّا لَمَستها جِسمي ارتِعش مرَّة تانية، بَس المرَّة دي الرَّعشة كانت أقوى، مُش كِدَه وِبَس، دا الشَّجر اللي في الجِنينة بدأ يتهزّ، الفروع كانت بتخبَّط في بعضها بطريقة مُرعبة، دا غير صوت الهوا اللي خلّى الشبابيك تِتفَتَح فجأة والستاير تطير، وِساعِتها سِمعت الأصوات تاني، صوت السِّت اللي بتصرُخ والطفلة اللي بتعيّط، جاي من الجنينة تَحت!
بِعدت إيدي عن الساعة وِرجِعت بضَهري ورا، طلعت جَري على أوضة ابويا، فَتحت البَاب ودَخَلت وانا مرعوب، ساعِتها لقيت ابويا بيبُص ناحية شِبّاك الأوضة اللي بيبُص ع الجنينة، ولقيت ميّادة واقعة في الأرض مُش في وعيِها، حاولت افوّقها، وساعِتها حسّيت ان الدنيا بتتهزّ لدرجة انّي قرَّبت افقِد توازني، زي ما يكون في عملاق ماسِك الفيلا بإيده وبيهزّها زي علبة كبريت، حاجة كِدَه أقوى من إنّها تكون زلزال!
واتمكّنت أخيرًا انّي افوَّق ميّادة، واللي اوّل ما فتَّحت عينها قالتلي…
-أوّل ما الشَّجر اتهزّ وسِمِعت صوت بَرَّه بصّيت من الشّباك، شوفت واحدة سِت وطِفلة، السِّت كانت بتُصرخ والطِفلة بتعيّط، أوّل ما نَدَهت عليهم عَشان اعرَف هُمّا مين بصّوا ناحيتي، وكانت عينهُم بتنوّر! ساعِتها وَقَعت مادريتش بنفسي، لغاية ما حضرِتَك فوَّقتني.
على ما ميّادة خلَّصت كلامها كانت الدُّنيا رِجعت هادية زي الأوّل، حتّى ابويا، مبقَاش يبُص ناحية الشِّباك، رِجع من تاني يبُص للسقف.
شَدّيت ميّادة من إيدها وقولتلها…
-تعالي معايا.
-على فين يا دكتور؟!
-هننزل الجنينة.. مُش بتقولي شوفتي واحدة سِت وطفلة؟
مَنتظرتهاش تجاوب، شدّيتها وخرجت من الأوضة ونزِلنا على تَحت، خَرَجنا من الفيلا للجنينة، وساعِتها سألتها…
-شوفتيهم فين بالظبط؟
بصَّت كتير لأكتر من مكان في الجنينة قبل ما تقول…
-هناك.. عند الباب دَه.
دا باب ورشة ابويا اللي مقفولة من سنين طويلة مَتفَتَحش، قُدّامُها كَراكيب كتيرة، ولقيتني بسأل ميّادة للمرّة التانية…
-متأكّدة انّك شوفتيهم هنا؟
ردّت وهي بتبُصّلي وبتأكّد على كلامها…
-أيون متأكّدة يا دكتور مُهنّد.
نَدَهت بصوت عالي على عَم محروس اللي أوّل ما سِمع صوتي لقيته جاي بيجري…
-خير يا دكتور مهند في إيه؟
سألته بعصبية وقولتله…
-أنت متأكّد يا عم محروس انّ مفيش حد بيدخل أو يخرج من الفيلا؟
ولقيته بيرُد بكُل ثقة وبيقول…
-يا دكتور مهنّد لو نملة عدّت البوابة هاخُد بالي منها.
سيبتهُم واقفين في الجنينة ودَخَلت، كُل اللي بيحصل دَه بيتكرَّر من فترة للتانية ومُش لاقي تفسير منطقي يعرَّفني هو بيحصل ليه، لدرجة انّي بدأت احس انّ الحكاية دخلت نَفَق ضلمة مُش باينلُه نهاية.
وَقَفت تاني قُدّام الساعة، بَصّيتلها والخوف مِكَلبِش في قلبي بضوافره، مُش عارِف ليه كُنت مرعوب مِن دَقّة العَقرب الجاية!
مَحبّيتش اسبَق الأحداث، كُنت حاسس نَفسي زي اللي راكِب قَطر، ولازِم هيعدّي على كُل محطّة في وقتها.
اتحرَّكت مِن قُدّام الساعة، لكن وانا بعطيها ضَهري عشان اطلع أوضتي سِمعت صوت حَشرَجَة، الصوت مُش غَريب، دا صوت الحَشرَجة اللي سِمعتُه وأمّي بتموت، وِلقِتني بَبُص على المكان اللي ماتت فيه، وشوفت اللي مَكُنتش متوقّع انّي اشوفه، شوفت أمّي من تاني غرقانة في دَمّها، نَفس المَشهد اللي مَكَنش بيروح من قُدّام عيني، بَس دِلوَقت موجود قُدّامي من تاني على الأرض!
بدأت اتحرَّك ناحيتها ورِجلي مُش شيلاني، ولمّا قرَّبت منها ونزِلت على ركبي وحاولت المِسها حسّيت الرّؤية عندي بتشوّش، ولقيت أعصابي بتِفلِت منّي، حسّيت كأن في حاجة بتُخنُقني، الدُّنيا بدأت تضلّم، وانا بَستَسلم…
فوقت على إيد بتهزّني في كِتفي، فَتَحت عيني لقيتني نايم في الأرض، وبدأت انتبه على صوت عم محروس وهو بيقولّي…
-يادكتور مُهنّد.. يادكتور مُهنّد.. استر يارب!
لمّا بدأت استوعب اللي انا فيه لقيت ميّادة واقفة جنب عم محروس وإيدها على بوقّها والصدمة باينة عليها، ولقيت عم محروس بيمِدّلي إيده عشان يساعدني اقوم، ولمّا بدأت استعيد توازني بصّيت لعم محروس وسألته…
-أنت مَبتسمَعش أصوات ياعم محروس في الجنينة؟!
-لا يا دكتور مُهنّد مَبسمَعش حاجة.
كان بيبُصّلي وهو مستَغرب سؤالي، وانا كَمان كُنت مستَغرب، أنا بسمع الأصوات دي من فترة للتانية، دي حتّى ميّادَة المُمَرّضة سِمعِتها وشافت السّت والبِنت، اشمعنى عم محروس؟!
…
تاني يوم…
المكان: مَشرحة المستشفى اللي بيشتغل فيها دكتور مُهنّد.
الوقت: 11 صباحًا.
كُنت في مَكتَبي بكتب تَقرير عن جثّة واحدة سِت مقتولة وصلت المَشرحة عندنا من وقت قٌصيّر، وكُنت مُكلّف بتشريحها وكتابة تقرير عنها، لكن لأوّل مرّة يِحصل معايا انّ اشوف ملامح أمّي على ملامح الجُثّة!
محاولتش اتأثّر باللي بيحصل، عشان أنا عارف انّ الشُّغل مفيهوش عواطف، اتحامِلت على نِفسي وتجاوزت الحالة اللي كُنت فيها وكمّلت، يِمكن اللي حَصَل امبارح في الفيلا هو السَّبب في اللي حَصل معايا وانا بَشَرَّح الجُثّة، حَسّيت انّي بَسرَح وانا بَكتِب التقرير، بَس انتَبَهت على دَقَة عَقرب الساعة!
اتنفضت من على الكُرسي، إيه اللي يخلّيني اسمع دقّة عقرب الساعة اللي في الفيلا وانا هِنا؟
خَدت نَفَس عميق لمّا فهمت انّ كل دَه من تأثير الأحداث اللي بمر بيها، وبدأت اكمّل كتابة التَّقرير اللي بشتغل فيه، لحد ما باب المكتب خبَّط ودَخَل عم أمين فَرد الأمن وقالّي…
-في واحدة سِت ومعاها بنتها عايزة تقابلك يا دكتور مُهنّد.
بصّيتلُه باستغراب وسألته…
-يعني انت مُختفي من الصُّبح يا عم أمين ولمّا اشوفك تقولي واحدة ست عايزة تقابلك.. مين دي اللي جاية مَشرَحة عشان تقابِل دكتور بيشتغل فيها؟
-بتقول انّها بتدوَّر على واحدة قريبتها مُختفيّة.. واحتمال كبير تكون ماتت.. وبيدوروا في المُستشفيات يمكن يلاقوها.. وطلبت منّي تقابِل الدكتور النبطشي.
-طيّب خليها تِدخُل.
ساعِتها عم أمين خَرَج من المَكتب، وسِمعته وهو بيقول للسّت…
-اتفضَّلي يا أستاذة.
َبعدها دَخَلت عليّا واحدة سِت جميلة جدًّا، ملامحها لَفَتِت انتباهي، ماسكة في إيدها طفلة، لكن كانت بتتكلّم ونبرتها كُلّها حُزن…
-ازيك يادكتور.. احنا بندوّر على بنت خالتي مختفية من فترة وعندنا شَكّ انها ممكن تكون ماتت.. لو المشرحة فيها حالات موصلتوش لأهلها ممكن اتعرّف عليها؟
لقيت نفسي بقولّها…
-في حالات عندنا لسّه مُش عارفين عنها أي حاجة.. اسم بنت خالتك إيه؟
-اعتماد.
حسّيت زيّ ما يكون صاعق كهربائي لَمَس راسي أوّل ما سِمِعت الاسم، الألم كان رهيب وكُنت على وَشَك انّي اصرخ من شدّته، لكن مِسِكت نفسي، وبرغم انّ اللي حَصَل لأمّي كان بيتعاد قُدّام عيني في اللحظة دي لكنّي تجاهلت شعور الخوف اللي كان جوايّا، وساعِتها كانت بِتبُصّلي زي مايكون عندها أمل انّها تلاقي بنت خالتها، كان باين على ملامحها أوي انّها زعلانة، بصّيت للبنت اللي في إيدها وانا بفكّر، وبعدها قولتلها…
-تِقدري تيجي معايا التّلاجة يِمكن تتعرّفي عليها في الجثث اللي هناك.
خَرَجت من المَكتب وهيّ ورايا وفي إيدها الطفلة، وساعِتها طَلَبت منها تسيبها مع عم أمين عشان مَينفَعش طِفلة تتعرّض لموقف انّها تشوف جثث في تلاجة مَشرَحة، وافقِتني على رأيي وسابِت البِنت معاه عند مكتبه اللي في أوّل الطُرقة، وخدتها وروحنا التلاجة، وجوّه طلبت من الممرض اللي ماسك النبطشية يِفتح لنا التّلاجات اللي فيها جثث سيدات لسّه محدّش اتعرّف عليها، وفعلًا بدأ يفتح تلاجة ورا التانية ويِكشِفلها وِش كُل جُثّة، كل جثة بتشوفها مكَنِتش بتطلع بنت خالتها، لَكن انا كانت بتحصل معايا حاجة غريبة، كُل جُثّة وشّها كان بيتكشف كنت بشوف ملامح أمّي في وشّها!
لحد ما النور اتقطع فجأة، وفجأة كمان احساسي بإن حد موجود معايا انعَدَم!
لَكن صوت الحَشرَجة اللي سمعته من أمّي وهي بتموت بدأ يِظهر، الرّعب اللي كُنت فيه خلّى رجليّا تتسمّر في الأرض، وخصوصًا لمّا بدأت اسمَع صوت خَبط جامد، مَكُنتش شايِف حاجة بَس دَه كان صوت بيبَان التلاّجات، زي ما يكون حد عمّال يِفتحها ويِقفِلها وهوّ غَضبان!
كان فاضِل ثواني والخوف يِفقِدني الوَعي، تقريبًا جِسمي في الوقت دَه مكنش يِعرف يعني ايه أعصاب، مكُنتش عارف اتحكّم في نفسي.
قَبل ما احاول ادوّر على الباب عَشان اخرج النور اشتَغَل، لفّيت حوالين نَفسي عشان اشوف السّت والممرض، لكن مَفيش حَد، والباب كَمان كان مقفول، زي ما يكونوا اتبخّروا.
مشيت ناحية الباب وفَتَحتُه، خَرَجت في الطُّرقَة وانا بحاول اتلم على أعصابي، وروحت عند مكتب عم أمين عَشان اشوف السّت يِمكن تكون راحت هناك عشان تاخد الطفلة، لكن لقيت المكتب فاضي وعم أمين مُش موجود، ولا الطفلة اللي كانت معاه، ولا السِّت اللي كانت معايا جوّه، بَقيت واقِف مِستني حد منهم يِظهر، لكن الوحيد اللي ظَهر هو الممرض اللي طلبت منّه يِفتَح التلاجات للسِّت عشان تتعرف على جثة بنت خالتها، كان جاي من آخر الطُرقة من ناحية الباب الخَلفي، ولمّا قرَّب منّي قولتله…
-السِّت اللي كانت معانا فين؟
بَصّلي باستغراب وهو بيسألني…
-أي سِت يا دكتور مُهنّد؟
ساعِتها ردّيت عليه بعصبية وقولت…
-السِت اللي كانت معانا في التلاجة جوّة دلوقت عايزة تتعرَّف على جثّة بنت خالتها.
لقيت المُمَرّض بيبُصّلي وهو مذهول وبيقولي…
-يا دكتور انا كُنت واخد إذن ساعتين وبرَّه ولسّه داخل المُستشفى دلوقت حالًا.
-أنت بتقول إيه؟!.. بقولّك السِّت كانت معانا دلوقت جوّه.
-يادكتور انا مِشوفتِش سِتّات ولسّه جاي دلوقت!
حاولت اهدّي نَفسي عَشان كان واضح عليّا الانفعال جدّا وسألته…
-طيّب فين عم أمين؟!
-عَم أمين تعبان يا دكتور وعامل مَرضي ومجَاش النّهاردة.
وسابنِي منتَظَرنيش اتكلّم ومِشي، وَقَفت كأنّي تايه، دِماغي عمّاله تودّي وتجيب، لكني رِجعت لمكتبي، خدت مفاتيح عَربيتي وخَرَجت، مِشيت بسُرعة زي ما اكون عايز اهرب من المشرحة، لأن صوت الحَشرَجة اللي كُنت سامعه من أمّي وهي بتموت كان موجود في كل مكان، زي ما يكون بيطارِدني!
خَرَجت من المَشرَحة، ولمّا وصلت للبوابة وقبل ما اركب عَربيتي سألت واحد من الأمن وقولتله…
-مَشوفتِش عَم أمين النهاردة؟
ولقت الرَّد اللي مَكُنتش عايز اسمعه لمّا قالّي…
-عم أمين تعبَان ومجاش النهاردة يا دكتور!
ركِبت عربيتي ومشيت، كان كُل اللي شاغِل تَفكيري ليه كُل دَه بيَحصل معايا، إيه الحكاية بالظَبط، لَكن للحظة وَقفت تفكير لمّا وَصَلت لسؤال جِه في بالي، لمّا سألت نَفسي مين السِّت والطفلة اللي معاها اللي ظهروا النهاردة واختفوا وكأنهم فص ملح ودابوا؟! وساعِتها قِدرت اربط بين ظهوروهم وبين الأصوات اللي بسمعها من وقت للتاني في الفيلا لصرخات واحدة سِت وعياط طِفلة، وبين السِّت والطفلة اللي ميّادة الممرضة شافتهم!
وانتَبَهت وانا سايِق لواحدة سِت ومعاها طفلة بيعدّوا بعرض الطريق قُدّام العَربية، ضَرَبت فرامِل بكُل قوّتي عشان اسيطر على العربية ومخبطهومش، ولمّا العربية وقفت قبل ما تخبطهم بمسافة بسيطة راسي خَبَطت في الدركسيون خبطة بسيطة، بَعدها رَفَعت راسي عشان اطمّن إن السّت والطفلة محصلهومش حاجة، لكنهم مكانوش موجودين، كان اللي شوفته راجل كبير في السّن واقِف قُدّام العربية، وكان بيقولّي…
-امشوا بالراحة يابني الناس الكبيرة اللي زيي بتعدّي الطريق بالعافية!
…