قصص

قصه الورده الحمراء (كامله)

“القصة مستوحاة من أحداث حقيقية”
أنا معرفهاش، مش معرفة عميقة يعني، لكن حافظة ملامحها وصوتها كويس وأقدر كمان أقول شوية طباع عنها، زي إنها دايمًا مستعجلة، حركتها وخطوتها سريعة، بتجري كإن وراها أتوبيس هيفوتها لو ملحقتوش، ودودة لكن مش بتحب تعود الناس عليها، بتحب العلاقات تبقى سطحية، طريقتها رسمية جدًا لكن مش انطوائية ولا قليلة الذوق، مثلًا أول ما بتخبط في أي حد، لأ ، من قبلها كمان، لما بتلمح حد تعرفه واقف بعيد وتكون هتعدي من جنبه، هتقابله، بترسم الابتسامة الواسعة اللي بتنور وشها، ابتسامة تحسسه إنه مرحب بيه، إنها بتحبه، إنها صديقة وإن الدنيا بخير..
لحد كبير البنت دي بتشبهني، أو خلينا نقول كانت بتشبهني..
مش مصدقة لحد دلوقتي إنها بقت في خبر كان، كل لما أجي أتكلم عنها، أتكلم بصيغة الحاضر، كإنها لسه موجودة، لسه عايشة..
“نيهال” جارتي من سنين كتير، أنا اللي مستجدة، لما جيت كانت ساكنة في العمارة هي وأهلها بقالهم زمن، أنا أكبر منها بعشر سنين، وقت ما جيت كان عندي 21 سنة وهي لسه طفلة عندها 11، وبرغم سنها الصغير كان واضح ليا وللناس كلها إنها ملفتة جدًا، جميلة بجد، مفيش لسه لا مكياج ولا عمليات ولا الحيل اللي البنات بيعملوها عشان يبانوا حلوين، جميلة بطبيعتها من غير أي تدخل بشري..
وأظن إنها كانت مدركة لده كويس، مكنتش مغرورة ولا بتعامل الناس وحش، لكن كانت واثقة من نفسها جدًا، مش مهزوزة زي بقية المراهقين اللي بيبقوا في سنها، ودايمًا مهتمة بلبسها وشعرها، عمري ما شفتها منكوشة ولا هدومها مكسرة، برغم إنها علطول بتجري، يعني جميلة وعملية برضه..
أول لقاء ما بيننا كان في اول يوم اتنقلنا فيه في العمارة الجديدة في المنصورة، من 10 سنين، وصلنا الصبح بدري أنا وأمي، قضينا اليوم بنوضب في العفش وكمية الحاجات المهولة اللي اتنقلت، نركب في السراير ونوزع الحاجات ما بين مطبخ وحمام وصالة وأوض، طول اليوم متكلمتش مع امي كلمتنين على بعض ولا حتى بصتلها، وده وراه قصة تانية هبقى اقولها بعدين، المهم إني بما إني لا اتكلمت ولا عملت أي تواصل حقيقي مع الإنسانة الوحيدة اللي عايشة معاها فأكيد حالتي مكنتش قد كده، مش فاكره كان بقالي قد إيه مبتسمتش، متهيألي كنت نسيت إزاي أحرك عضلات وشي عشان أعمل ابتسامة..
كنا منهكين أوي أنا وماما، لما دخل علينا المغرب قررنا أنا وهي من غير ما نتكلم مع بعض إننا نوقف توضيب ونستريح، لسه قدامنا وقت، أيامنا الجايه كلها، مكناش هنروح في حته يعني، مفيش داعي نهلك نفسنا من أول يوم..
ويدوبك ريحت جسمي على كنبة الصالة لما لاقيت باب الشقة بيخبط، لأااااا..
لأ بجد، مكنتش مصدقة، مش قادرة أحرك حتى صوابعي، مين ده أصلًا اللي بيخبط علينا؟ مين يعرفنا هنا؟ اللي يعرفونا مش ساكنين في الشارع ده ولا يعرفوا إننا جينا وهنعيش في الشقة..
وش غريب، بنت جميلة معرفهاش، شايله في إيديها علبة بلاستيك كبيرة، لما فتحت الباب وشفتها فضلت سرحانة شوية، مش عارفة أقول إيه، أكيد البنت دي غلطت في العنوان، كانت رايحه لحد تاني..
لكن طلعت غلطانة، البنت كانت جيه عندنا إحنا، ودي كانت أول مرة أشوف فيها “نيهال”، العلبة البلاستيك كان جواها أكل مامتها طابخاه، وكمان فيها حلويات، وده عشان لسه معزلين وأكيد مكنش عندنا وقت نعمل أكل، عملوا حسابنا معاهم..
أخدت منها العلبة ودموعي نزلت زي المطر من عنيا، انفجار معملتش حسابه ولا اتحكمت فيه، الحركة الذوق دي، التفكير فينا مع إننا أغراب عنهم حسستني إن الدنيا بخير وفكرتني برضه بكل الق.سوة اللي شفناها، كنت عاملة زي اللي شايل طوبة كبيرة أوي على ضهره، أكبر من وزنه واحتماله، وفضل ماشي بيها مسافة كبيرة، يطلع على جبل وينزل على سهول ويعدي بيها طرق وعرة لحد ما وصل مكان يقدر يريح فيه ويشيل الطوبة من على ضهره، وأول ما نزلت من عليه جسمه كله انهار! كان مستني الراحة أو الخير أو الحنية عشان ينهار، صموده قبل كده مكنش حقيقي، كان ليه هدف، عشان يقدر بس يعدي الطريق..
عنيها كلها كانت قلق وشفقة عليا، فضلت واقفة مكانها مستنياني أقول لها تدخل، مش عشان تتضايف عندي مقابل الأكل اللي قدموه لينا، عشان كانت بجد قلقانة عليا وعايزه تسمع مني وتخفف عني، من غير كلام فردت دراعي وفتحت الباب عشان تدخل..
حكيتلها شوية من اللي حصل لي، مقدرتش أقول تفاصيل، البنت كانت صغيرة أوي ومكنش ينفع أخوفها، بس بعد التفكير، بعد كل السنين دي كلها ندمت إني محكتلهاش كل حاجة! يمكن كانت خدت بالها، يمكن كانت فضلت عايشة..
حكيت عن البيت المثالي بتاعنا في القاهرة، عن أبويا اللي كان مش مخلينا محتاجين لحاجة، كان بيدينا اللي عايزينه وزيادة، مش بنلحق أصلًا نطلب حاجة، المصروف مكنتش أعرف أوديه فين من كتره، مكنتش بقدر أقعد في أماكن ضيقة عشان اتعودت على البراح والمساحات الواسعة، أوضتي لوحدها كان مفروش فيها سرير وعفش، كنبه وكراسي لايقه على لون خشب السرير والدولاب، وكان عندي كوميدينو بمرايه وعليها لمض زي بتاعة بروفات الفنانين، الأوضة كانت مدهونة بالأبيض اللولي وكل سنتين بالكتير بتدهن تاني قبل ما اللون يلحق يبهت، أنا مكنتش واحدة متنمرة، عمري ما حسيت إن اللي حواليا أقل مني ولا اتعاملت مع حد بتكبر، بس أكيد كنت متدلعة، على الأقل مكنتش أقدر أعيش في ظروف أقل، ده أنا حتى مكنتش بستحمل أقعد كتير مع قرايبي اللي مستواهم أقل عشان بيوتهم وعيشتهم أبسط من عيشتي برغم إني بجد كنت بحبهم وعشان كده كنت بشجعهم ييجوا عندنا البيت أكتر، هم اللي ييجوا، أنا مروحش..
كنت متخيلة إن الوضع هيفضل على ما هو عليه لبقية عمري، لحد آخر يوم في حياتي، مهو أنا اصلي كنت بصحى كل يوم على نفس المشهد، زقزقة العصافير بتصحيني، بعديها بقلق عشان نور الشمس اللي بيخترق سريري، عادة بلاقي الفطار متحضر لي ونوع القهوة اللي بحبه موجود، الوشوش هي هي، تأثير الزمن مش بيبان عليهم إلا بالبطيء، اللي بيتغير هي المراحل اللي في حياتي، العناصر الخارجية، زي إني بتنقل من مرحلة ابتدائي لاعدادي لثانوي للجامعة، في صحاب جداد بيظهروا وصحاب بيختفوا، عادي يعني كلها تغييرات مش جذرية، الأيام مهما اختلفت فهي كانت شبه بعضها، عشان كده متخيلتش إن هييجي يوم وحياتي هتتقلب من فوق لتحت وهتخبَط زي اللي سفينته بتتلطش من بحر هايج..
أبويا م.رض وفجأة صحته اتدهورت بسرعة جدًا، كإنه نازل بأقصى سرعته من على منزل، يوم عن يوم خس ودبل ومبقاش قادر يشتغل، الشغل اصلًا والفلوس والكلام ده مكنش هاممني، كل اللي يهمني كانت صحته وسلامته، عشان مفيش داعي للقلق من الناحية دي، الأمور المادية كانت تمام، لو عشنا عاللي عندنا 70 سنة قدام مش هنحس باحتياج، هههه، هو ده اللي كنت فاكراه، مغفلة!
المهم إنه في يوم نام مقامش، وده كان جزء من المصيبة اللي أنا فيها…
ملحقناش نغ.رق في حزننا عشان عرفنا إنا غرق.انين في الديون، في السنين الأخيرة بابا كان معيشنا في مستوى غير مستوانا الحقيقي، عايشين في كدبة، عشان كان شايف إننا مش هنستحمل نعيش في مستوى أقل من اللي متعودين عليه، ولو هنواجه الحقايق ونبص في المراية، هو كان بيكدب على نفسه، الفكرة مش في إنه مش عايزنا نعاني أو نتصدم أو نعيش في مستوى أقل، الفكرة إنه هو شخصيًا مكنش قادر على ده، مكنش عايز يتنازل، يستغنى عن الرفاهية اللي متعود عليها ومن ضمنها الرفاهية اللي أنا وأمي فيها، أي مظهر من مظاهر البساطة في البيت أو فيما يتعلق بيه أو بماما أو بيا كانت هتتحسسه بالأزمة وهتسببله اكتئاب، عشان كده فضل إنه يعيش في كدبة، ياخد قروض ويستلف من ناس مبالغ كبيرة على أساس إنه في يوم ما هيقدر يسددها، وعمره خلص قبل ما يقدر يسدد واحنا اللي سددنا بداله..
الحمد لله إننا بعد ما بيعنا كل اللي حيلتنا اتبقى بيتنا اللي في المنصورة، البلد بتاعتنا، اللي مروحتهاش غير مرتين طول حياتي..
البيت كان في عمارة حلوة وفي منطقة راقية جدًا، مش زي بيتنا في القاهرة، بس برضه بيت محترم، ناس كتير تتمنى تعيش فيه وفي المنطقة…
هو ده اللي حكيته للبنت الصغيرة اللي اسمها “نيهال” اللي كانت وقتها لا طفلة ولا كبيرة، في بداية التحول، البرزخ ما بين البراءة والاصطدام بالواقع، المراهقة بكل تقلباتها ومرارها والمشاعر الحادة اللي فيها، ودي كانت أول وآخر مرة نقعد فيها قعدة فضفضة، من بعدها علاقتنا كانت سطحية جدًا، سلامات وطيبون وأخبار مذاكرتك إيه والنتيجة، وإحساسك إيه بعد ما دخلتي الجامعة وإيه الحلاوة دي يوم بعد يوم بتحلوي، وشفت الposts بتاعتك على إنستجرام هتبقي أحلى موديل، وهي بترد على قد الأسئلة وتقريبًا بتفتح معايا نفس المواضيع، وبرضه بتمدح فيا وفي جمالي وستايلي وبتتكلم عن إنها نفسها تبقى زيي لما توصل سني، عشان مهتمة بشكلي ووزني وشكلي تقريبًا مش بيكبر، أهو كلام من ده..
حسيت بمرارة غريبة، حزن رهيب معشتش زيه من ساعة وف.اة بابايا لما عرفت أخبارها من النت زيي زي أي حد ميعرفهاش، كانت لسه مق.تولة، د.مها مبردش، شفت فيديو بتتق.تل فيه في نفس الوقت اللي سمعت صر.خات جايه من شقتها، حضرت المأساة، لكن كنت متفرجة ومقدرتش أكون هناك عشان أنقذها، ليه المرارة دي، ليه حاسه بالطع.نات اللي اخترقتها كإنها بتخترقني أنا، يمكن عشان بسهولة كنت ممكن أبقى مكانها؟
من حوالي 12 سنة بعد ما ابويا مر.ض وبقى ملازم السرير يا عندنا في البيت يأما في المستشفى دخلت أوضتي، وقبل ما أوصل سريري كالعادة كنت رميت الهدوم اللي عليا ولبست أي هدوم قدامي مرمية على الكنبة، سبت جسمي يقع بكل تقله على السرير، وغمضت عيني وفتحتها بسرعة تاني عالآخر!
وده عشان حصل لي استيعاب متأخر، زي ما بيحصل معانا كلنا، أوقات كده بنشوف أو نسمع حاجة وبناخد كام ثانية عشان عقلنا يترجمها ونبدأ نستوعبها، في حاجة غلط!
في حاجة معينة في الأوضة مش معتادة، أنا طبعًا مدركة إن الدنيا فوضى، الأوضة مقلوبة على بعضها وده النظام من ساعة تعب بابا، حركتي كتير، ما بين الجامعة والمستشفى والدكاترة والمصالح فلا عندي وقت أنضف وأرتب ولا كان عندي دماغ أتفق مع واحدة تيجي تساعدني في التنضيف، لكن برغم الفوضى دي ومهما اختلفت أماكن الحاجات، لكن مكنتش حالتها بتختلف اختلاف جذري من يوم للتاني، ايه اللي عيني لقطته كان مختلف وخلاني أفتح عيني في قلق بالشكل ده؟
وإيه اللي ممكن أكون سمعته، أو بمعنى أصح مسمعتوش؟
زقزقة العصفورين!
العصفورين اللي ماما جبتهملي هدية بمناسبة عيد ميلادي من شهرين، “ميمون” و”ميمونة”، قفصهم كان في أوضتي، قرب الشباك، ده غير إن عيني جت عليهم ومنظرهم كان مختلف شوية…
ليه “ميمون” و”ميمونة” مش بيصوصوا أو بيعملوا حركة كعادتهم؟ إيه اللي شفته من كام ثانية ده؟
افتكرت، كانوا ثابتين في أماكنهم، رقبتهم معووجة وأجسامهم الصغيرة ممددة بعيد عن بعض، والريش بتاعهم كان منتف وفي لون غير الأخضر والأصفر عليهم، لون أحمر!
ياريت اللي كنت شفته ده كان هلاوس، من كتر التعب اللي أنا فيه، أكيد، أكيد هلاوس..
قمت تاني مرة واحدة، قعدت لحظات، ببص في الفراغ قدامي وبعدها وقفت، اتحركت ببطء في اتجاه القفص، لسه مفيش صوت، سكون تام، مسكت بصوابعي سقف القفص وبصيت جواه…
معملتش أي رد فعل، لا صرخت ولا عيطت ولا اتهزيت، العصافير كانت م.يتة، غرقانة في د.مها، العصافير اتق.تلت!
كنت داخلة الج.حيم على عربية سريعة زمامها فلت، مفيش حاجة في إيدي أقدر أعملها عشان اتفادى اللي كنت داخلة عليه،أو بمعنى اصح دخلت من فترة بس الج.حيم كان درجات، كل ما أتقدم حرارته بتعلى وعذا.به بيكبر، يمكن عشان كده صوتي اتكتم جوه جوفي ومتحركتش، ده ميمنعش إني جوايا كنت برتجف، بصرخ وبعيط وبخبط بأقصى قوتي في حيطان سج.ن اتحطيت فيه غصب عني، غصب عني..
بعد الحادثة دي بشهر، كنت واقفة قدام باب الشقة، من جوه، مديه ضهري للباب ووشي لأوضتي، عيني بتعكس شعلات حمرة بتعلى وتعلى لحد ما طالت السقف، النار بتاكل أوضتي وكل حاجة فيها، وأهم حاجة كانت الذكريات، كل اللحظات الحلوة اللي عشتها في الأوضة، الأمان اللي كنت بحس بيه في كل شبر منها…
كل الفوضى دي أصلها لقاء، قدر…
أول يوم ليا في الجامعة…
اللي سمعته إن الجامعة نمط مختلف تمامًا عن المدرسة وإني لازم كنت أخد بالي كويس جدًا، لإن المجتمع غير المجتمع والناس غير الناس، في الأول والآخر ومهما كانت الاختلافات ما بيني وبين زمايل المدرسة فغصب عننا هنبقى إلى حد ما شبه بعض، لإننا اتربينا في بيت واحد، بيت إسمه المدرسة، أكبر شوية من بيوتنا المتحددة، ما بين السور والتاني مسافات حلوة، مسافات تشيل أعداد من التلاميذ، لكن مهما كانت المساحات والمسافات في الآخر بيتقفل علينا بوابة واحدة وبالنسبة للفصل كمان بيتقفل علينا باب فصل واحد، ونفس الدفعة بتتنقل من سنة لسنة بيزيد عليها شوية، بينقص شوية، بنتطبع بطباع بعض وبنتأثر بالمدرسين بتوعنا وتوجيهاتهم وكلامهم، زي ما قلت بيت كبير بنتربى فيه كلنا…
لكن الجامعة بقى حاجة تانية خالص، كل شوية بخلفية اجتماعية مختلفة، بتربية وستايل مختلف وعقليات مختلفة، حتى الفهم للدين والعادات مختلف، فلازم كنت أخد بالي، متعودش على زمايلي بسهولة ولا اسيبهم يتعودوا عليا، أسطح العلاقات على قد ما أقدر ومسيبش سري مع حد، وأحط حدود، وحدود عالحدود…
أنا سمعت كل النصايح دي من هنا وحطتها قدامي، من أول يوم ربطت شعري ولبست أوسع هدوم عندي، وبصيت في الأرض أو حتى قدامي من غير ما أبص عالناس، طبقت النصايح بحذافيرها، كان ناقص يسموني “رسمية” بدل “جنة”، لكن القدر، محدش يقدر يهرب من القدر…
وقدري كان “إسماعيل”…
ولد تايه زيه زي أي حد فينا في أول يوم جامعة، متوتر، حركته عصبية، حاسس بوحدة رهيبة وبتخبط، وكمان متأخر عن أول محاضر ليه عشان اتلخبط في المدرج…
فاكره مكاني كويس، كنت قاعدة في تاني صف، على الطرف من الناحية اليمين، وباب المدرج كان في أقصى الشمال، يعني المفروض ابقى مخفية عن الأنظار، ومع ذلك…
كلنا عنينا اتحركت على الباب عشان اتفتح بعد ما دكتور المادة كان دخل واستقر وبدأ يشرح، وأكيد نفس الخاطر جه في بالهم زي ما جه في بالي، اللي دخل مخبطش، مستأذنش ولا اعتذر، فتح ودخل علطول، وطبيعي رد فعل الدكتور إنه اداله كلمتين وخلاه يرجع يخبط ويستأذن وبعدين دخل تاني، وفي وسط كل العيون عيوننا إتلاقت!
أنا اللي مرمية في الطرف التاني، اللي المفروض مستخبية، عينه تقع عليا وتتثبت للحظات بس، لحظات كانت كافية تسببلي رعشة معرفش مصدرها، حسيت ببرد في اللحظات دي، والبرد راح بسرعة أول لما بص قدامه وقعد في مكان بعيد..
لما المحاضرة خلصت الكل اتحرك مرة واحدة، كان في دوشة وزحمة، كل واحد ماشي في اتجاه، فضلت واقفة مكاني مستنية المدرج يفضى شوية عشان أتحرك، بعد دقيقتين مثلًا الدنيا فعلًا بقت أروق كتير، وهو كان ماشي ببطء، شبه ثابت في مكانه، مكنش على بعضه، عمال يطقطق في صوابعه، باين عليه التوتر…
كان فاضل لي خطوتين وأبقى جنبه، كان قدامي اختيارين، يأما أعدي واسيبه وأقول مليش دعوة وأخليني في حالي، يا اقف واسأله عن مشكلته وأحاول أساعده..
وصلت جنبه، مبصتلوش وتخطيته، بس اتلفت ورجعت تاني، للأسف اخترت الاختيار التاني…
سألته عن سبب وقوفه بالشكل ده، وإذا كان محتاج مساعدة، وشه نور كإنه شاف شمس وسط ضلمة، ابتسم وقال إنه ميعرفش إذا كانت في محاضرات فاتته ولا دي كانت أول محاضرة، وإنه في حالة توهة رهيبة وخايف حاجة تفوته، طمنته إن مفيش حاجة فايتاه وإن دي فعلًا كانت أول محاضرة وموقفتش ثانية بعديها، كنت ودودة بس برضه رسمية جدًا معاه…
………………………..
أنا كنت دايمًا مركزة مع دكتور المادة بس في الأوقات القليلة اللي كنت بسرح فيها وببص لاتجاهات تانية لاحظت إن “إسماعيل” كان بيبصلي، كل مرة عيني وقعت على البنش اللي كان قاعد فيه، مش معقول الصدفة دي، كل مرة؟
مكنتش برتاح أبدًا لنظراته، مكنش فيها حاجة يعني، مش حاجة أقدر أعبر عنها بكلام، لكن معرفش، معرفش إيه بالظبط اللي مكنش مريحني…
“يتبع”
“الجزء الثاني والأخير”
الوضع فضل على ما هو عليه كام شهر، لحد الترم التاني من السنة الأولى، كنت بلاحظ إن “إسماعيل” بيحاول يخلق الفرصة عشان يتكلم معايا، لكن أنا كل مرة كنت بنجح أهرب، وهو كان بينسحب بسرعة، بيتحرج ويتراجع، لحد اليوم ده…
فوت المحاضرة الأخيرة، حركتي كانت سريعة وده عشان يومها كنا مسافرين أنا وأهلي، روحت وحضرت شنطة سفري بسرعة وقعدت مستنية بابا يقول إننا هنتحرك، موبايلي رن، كان رقم غريب…
أول كام لحظة لما سمعت الصوت الغريب افتكرت إن الشخص اتصل بالغلط، كان قاصد حد تاني وده لحد ما قال إسمي..
-“جنة”؟
=أيوه مين معايا؟
-“إسماعيل”!
كإن مثلًا في صاعقة نزلت على دماغي، معقول؟ هو ده نفسه “إسماعيل”؟ هو زميلي في الدفعة؟ إزاي؟ منين جاب رقمي؟ إزاي؟
هو طبعًا أخد باله إني مستغربة، مصدومة، فقال:
-أنا أخدت بالي إنك كنتي متوترة أوي وفوتتي المحاضرة الأخيرة، قلقت، بصراحة كدبت على صحبتك “سلمى” وقلتلها إنك نسيتي واخدتي كشكول الملاحظات بتاعي بعد ما طلبتيه مني والمفروض كنتي ترجعيه قبل ما تمشي، آسف طبعًا إني أخدت رقمك بالطريقة دي، بجد آسف، بس من طريقتك حسيت إن في مشكلة كبيرة عندك، أتمنى تكوني بخير…
صوته وطريقته في الكلام كانت سلسة واسلوبه مؤدب جدًا، بغض النظر عن الحركة نفسها، والطريقة اللي أخد بيها الرقم وإنه أصلًا متابعني وواخد باله إني مشيت قبل ما اليوم خلص، لكن كانت فيما يبدو حركة شيك، زميل بيرد الجميل لزميلة أول يوم طمنته، هي الوحيدة اللي اهتمت وقالتله كلمتين يهونوا عليه التوتر…
كان قدامي اختيار من الاتنين، يأما أهزقه وأقول له إنه مكنش ينفع يعمل كده ومش من حقه ياخد رقمي ويكلمني من غير ما أنا أديله الرقم بنفسي وأنبه عليه ميتصلش تاني وميتعداش حدوده، أو إني محرجوش وأقول له حصل خير وإني بخير وبس كنت مستعجلة عشان مسافرة مع أهلي..
وللأسف اخترت الاختيار التاني…
مرضتش احرجه، اتكلمت برسميه، قلتله إني مفيش مشكلة عندي وإني كان لازم أمشي عشان مسافرة وشكرته كزميل إنه قلق عليا…
وفات إسبوع كمان…
لقيته بيتصل تاني، الساعة كانت 10 بليل، ليه بيتصل بيا 10 بليل، ليه بيتصل بيا أصلًا؟
رديت عليه، فضلت ساكتة مستنياه يتكلم، يقول اللي عنده، هو كمان فضل ساكت حبه وبعدين قال:
-آ..آلو، أنا آسف، بجد آسف إني اتكلمت في المعاد ده، ولو قفلتي هتفهم…
=في حاجة يا “إسماعيل”؟
-أنا مش عارف أقول إيه، مش مصدق إني بكلمك، لكن صدقيني إنتي اللي جيتي في بالي، أنا…عندي مشكلة، مشكلة خاصة…
كان قدامي اختيار من الاتنين، يأما أقول له إنه فعلًا غلط لما كلمني وإنه مينفعش مهما كان السبب يتكلم في وقت زي ده، أو إني أسمعه، أسمع مشكلته…
كنت مترددة جدًا، على وشك إني أختار الاختيار الأولاني، لكني ضعفت واخترت الاختيار التاني…
نبرته كانت مهزوزة، صعب عليا، حسيت إنه واقع في مشك.لة جامدة، يمكن أنا أكون الخلاص ليه بمجرد إني أسمعه…
قلتله:
=اتفضل…
-المفروض إننا كبار مش كده، نبقى قد الصدمات والأوضاع اللي بتتغير، المفروض نكون جامدين وكده.
=لأ خالص، مش شرط، موضوع إحنا كبار ولا صغيرين ده نسبي، كبار بالنسبة لمين وبالنسبة لإيه وصغيرين بالنسبة لأنهي موقف وقدام مين..
-أهو أنا قدام الموقف اللي فيه حاسس إني عيل صغير، بجد عا.جز، ومش قادر أتقبل الوضع، ده غير إن مطلوب مني إني أتصرف وأبقى إيجابي، وأي خطوة هعملها زي اللي بيمشي على حقل ألغام، أي خطوة غلط نتايجها هتبقى وحشة، وحشة أوي…
=طب ما تفهمني أكتر.
-أبويا وأمي بيتطلقوا، تخيلي، بعد العمر ده كله، المشكلة مش بس في الأوضاع اللي فجأة اتغيرت وإني لازم اتعامل مع الواقع الجديد، أبقى مقسوم نصين ما بينهم، المشكلة الأكبر إن كل واحد فيهم مش راضي بالنص وعايزني في الجهة بتاعته، أمي عايزاني أعيش معاها وأبويا نفس الكلام، وكل واحد فيهم بشوف في عيونه عتاب رهيب لما بيحس إني هختار التاني، بفكر بس، من كام يوم ظبطت علب مهدئات ومنومات في أوضة نوم أمي وعرفت إن أبويا بيروح لدكتور نفسي، قوليلي لو مكاني هتعملي إيه، ولا أقولك بلاش، أنا مش طالب أكتر من إنك تسمعيني، مش عدل أصلًا أخليكي تتخيلي إنك في نفس الموقف، ويمكن ميكونش عندك إجابات..
حقيقي حسيت بالشفقة عليه، كان مكسور أوي، اللي حكهولي كان مر.عب، سبته يتكلم لساعة كاملة من غير ما أقاطعه تقريبًا إلا في كام مرة علقت فيهم على اللي بيقوله، كإنها كانت جلسة علاج نفسي وهو قاعد على الشيزلونج قدامي، كلام كتير كان جواه، أول ما خلصه قفل معايا
اليوم اللي بعد كده شفته في المدرج، وشه كان منور، وفي ابتسامة مفارقتش وشه، حسيت بجد إن مكالمة امبارح فرقت معاه مع إني فعليًا مقدمتلوش أي حلول، مجرد سمعته، والراحة اللي شفتها عليه فرحتني، إني قدرت أساعد إنسان بأي طريقة ولو بأبسط الطرق…
اليوم عدى وجه اليوم اللي بعده واللي كان إجازة، صحيت الساعة 6، قلقت، عيني فتحت بصعوبة، صحيت ليه؟
اه صحيح، أنا سمعت صوت خبطة خفيفة، كنت بحلم، أكيد كنت بحلم، الخبط هييجي منين يعني؟ لو كان في حد خبط على أوضتي كان هيخبط تاني بصوت أوضح، أو هيفتح الباب علطول، وبعدين لا ماما ولا بابا هييجوا الساعة دي على أوضتي، ليه حد فيهم ييجي الساعة 6 الصبح؟!
رجعت نمت تاني كام ساعة وبعدين صحيت…
المرة دي كنت فايقة، قبل ما أقعد على الطربيزة عشان أفطر ماما طلبت مني أفتح باب الشقة وأشوف الجرايد قدام الباب ولا لأ، روحت على الباب بسرعة وفتحته…
لقيت الجرايد ومسكتها، وقبل ما أقوم وأفرد ضهري لمحت حاجة على مسافة، وردة حمرة متربة، الوردة مكنتش قدام بابنا، بعيدة شوية، عماله تتحرك في الطرقة ما بين الشقق، في حاجة خلتني أقف، اسرح فيها، خاطر خلى الدم يتجمد في عروقي، الوردة دي ممكن تكون ليا؟؟
الوردة كانت بعيدة، يدوبك لمحتها وكان ممكن مشوفهاش، لكن كان في إحساس قوي بيقول لي إنها كانت موجودة قدام باب بيتنا واتحركت من الهوا، وإن ده ممكن يكون مرتبط بالخبطة بتاعة 6 الصبح!
الخبطة الخفيفة اللي تخيلت إنها كانت على باب أوضتي بس ممكن كان مصدرها باب الشقة نفسه، حد خبط خبطة واحدة وحط الوردة قدام الباب ومشي…
لا، لا، لأ، إيه الخيال الواسع ده، مين يعني هيعمل كده وأنا مين عشان يتعمل معايا كده، بس في الحقيقة، في أعماق أعماقي، كان عندي فكرة عن الشخص اللي ممكن يعملها والفكرة مرع.بة، مرع.بة أوي، عشان كده طردتها بسرعة لدرجة إني نسيتها، قصدت أنساها..
ومن هنا، من اللقطة دي، حياتي أخدت شكل مختلف، شكل مظلم، مخ.يف، مفهيوش راحة ولا أمان…
بعدها بكذه يوم تعبت، بطني وجعتني جدًا، وده في الغالب بسبب أكلة دسمه أكلتها وانا أصلًا معدتي مبتستحملش الأكل التقيل، المهم إني كتبت على الأكونت بتاعي على ال facebook إني تعبانة، أهو كانت موضة منيلة، كنا فرحانين أوي بالfacebook وحاسين إننا واجبنا نكتب عليه حالتنا وكل اللي بنمر بيه، ونشارك أصحابنا اللي قريبين والبعاد كل أخبارنا…
لقيت اللي بيبعتلي رسالة على حسابي بعد ما نزلت البوست بساعة ونص وبيقول لي أفتح باب شقتي، واللي بعت هو “إسماعيل”…
جريت على باب الشقة، بطني كانت بتت.قطع ومع ذلك جريت زي أسرع نمر في الدنيا، وبعدين وقفت قدام باب الشقة، إيدي متجمدة على مقبض الباب، بجد كنت هفتح؟ إيه اللي ممكن يبقى ورا الباب؟ إزاي يعني؟ هو إيه اللي بعته ده؟ معناه إيه؟؟؟
في الآخر فتحت الباب، مكنش في حد وراه بس كان في شنطة على الأرض مليانة أدوية لآلام المعدة ومسكنات!
كان لازم أواجه مرايتي، ابص فيها وأشوف المخاوف، “إسماعيل”.. هو..اللي..جاب..الحاجة..وعرف..يجيب..عنواني!
والوردة، الوردة الحمرة، كانت موجهة ليا زي ما حسيت، واللي جابها كان هو “إسماعيل”، “إسماعيل” بيراقبني! في الغالب بيمشي ورايا، وبالطريقة دي عرف بيتي ويوم أجازتنا نزل من بيته بعد الفجر عشان يحط الوردة الحمرة قدام الباب وكمان خبط عليه، كان بطريقة ما عارف إني هسمع الخبطة، ونزل من بيته مخصوص عشان يحيبلي كل الأدوية دي، “إسماعيل” شخص مخت.ل وبيترصدني باسم الحب!
كان قدامي اختيار من الاتنين، يأما أبلغ أهلي عن الشخص المريب ده عشان يحموني ويوقفوه عند حده، يأما مقولهومش وأحاول أتصرف معاه بنفسي ولو مقولتش مكنوش هيعرفوا عشان وقت ما جاب الأدوية مكنوش في البيت.
وللأسف، للأسف اخترت الاختيار التاني، وده عشان خفت، خفت يفتكروا إني بقول نص الحقيقة، إني بكدب عليهم وإني على علاقة بيه والموضوع اتطور ومبقتش عايزه العلاقة وده اللي خلاني أشتكي، كنت فاكره إنهم مش ممكن يصدقوا إني دي تصرفات واحد دخيل، عمري ما شجعته أو فتحتله سكة عشان يتجرأ معايا بالشكل ده…
الأيام اللي بعدها كنت بتفاداه، أشوفه في مكان أبعد عنه على قد ما أقدر، أمشي في سكة غير السكة اللي ماشي فيها، أدوب وسط الناس والزحمة، المهم أهرب..
واضح كده إنه اتصدم من رد فعلي، كان متوقع مثلًا إني أدوب في هواه بسبب الحركة دي، قلقان عليا ونزل من بيته وجالي مشوار واشترى بمصروفه كله أدوية عشاني، متخيلش إني هترع.ب منه وهترجم اللي عمله على إنه هوس وتصرفات مريبة، وده ببساطة لإن مفيش علاقة تجمعنا ولا عمري أديته إشارات إني معجبة بيه.
فاتت حوالي 10 أيام، نجحت فيهم إني اتهرب منه ومكنتش برد على مكالماته، في كل يوم منهم كان بيحاول يتكلم معايا، بيندهني، بيقف قدامي، بس أنا كنت دايمًا أسبق بخطوة، قادرة أفلت ومسيبلوش فرصة..
لحد اليوم ده…
زمايلي كلهم مشيوا، وأنا قررت أفضل شوية في المدرج، أذاكر، جه في بالي إن بعد 10 محاولات أكيد “إسماعيل” فقد الأمل فيا، زمانه أصلًا نسيني، بس كنت غلطانة..
اتفاجئت بيه داخل عليا المدرج، يعني برضه كان لسه بيراقبني وعارف مكاني..
أنا كنت لوحدي، لوحدي تمامًا معاه، حسيت قلبي هيتخلع من صدري بالذات مع نظراته النارية اللي شايفاها وخطواته المتحفزة..
اتنفضت من مكاني، مشيت بسرعة، حاولت إني أهرب، لكن النتيجة هي إني اتكعبلت على سلمة من سلالم المدرج، حسيت بوجع رهيب في عضمة رجلي، ومع ذلك حاولت أكمل مشي في اتجاه المخرج..
حط إيده على المخرج، سده!
-ينفع يعني اللي بتعمليه ده؟
أول مرة كنت أسمع النبرة دي، كان غض.بان، صوته تخين، مر.عب..
ردبت عليه بصوت مهزوز:
=من فضلك يا “إسماعيل” سيبني أمشي..
-يا “جنة” أنا بحبك!
وشه كان قريب أوي من وشي، كنت حاسه بأنفاسه القوية، نبرته رقت في جملته الأخيرة، وبالنسبة لي كانت مرع.بة أكتر من النبرة اللي قبل كده، وكنت حاسه باشم.ئزاز رهيب..
=أنت مجرد زميل، من فضلك، أنا مش بتاعة الكلام ده.
-كلام إيه، هو إنتي فاكراني عايز العب، أنا عايز اتجوزك.
=جواز إيه وبتاع إيه، أنا لسه صغيرة على الكلام ده، من فضلك احفظ حدودك، أنت زميل وبس..
-يعني مش بتحبيني زي ما بحبك.
=خالص، مفيش الكلام ده.
عينه غرغرت بالدموع، نزل إيده وبص في الأرض بانكسار وقال:
-أنا آسف إذا كنت ضايقتك يا “جنة”، أنتي بجد بالنسبة لي حاجة كبيرة، كبيرة أوي، واعتبريني من هنا ورايح أخ ليكي، إنسي كل اللي قلته وعملته معاكي، آسف..
يااه، أنا كنت قاس.ية كده، زودتها حبتين؟ اللي جه في بالي وقتها، إن “إسماعيل” غلبان، يمكن اتسرع شوية بس ده عشان كان معجب بيا، لكن خلاص أهو اعتذر، وواضح إني كسفته وكنت قاس.ية عليه، مفيش داعي أبقى قليلة الذوق أكتر من كده..
……………….
الامتحانات جت والسنة خلصت وطول الصيف مسمعتش حاجة عن “إسماعيل”، وبدأت السنة الدراسية الجديدة…
كنت بلاحظ إنه من وقت للتاني بيبصلي، لكن محاولش يتكلم معايا، اللي بقى كان منغص عليا عيشتي الفترة دي هو العامل إياه بتاع المدرج، كان بيعاكس البنات كلها لكن مستقصدني أنا بالذات، في الرايحة والجايه تعليقات وسخافات..
وكان بيقصد يلقطني طبعًا وأنا لوحدي، وفي مرة “إسماعيل” عدى وشافه وهو بيعاكس..
وشه اتحول لنفس المنظر اللي شفته لما جالي المدرج وكنا لوحدنا، المارد الغ.اضب، اللي فاقد عقله واتزانه، العامل خد باله من “إسماعيل” وانسحب بسرعة، خاف منه، لكن الغريبة إني أنا خف.ت أكتر منه!
ده الوش التاني اللي نسيته لإسماعيل، الشخص المتهور اللي عنده قدرة رهيبة على الأذ.ية وعامل زي القن.بلة الموقوتة، مستعد ينفجر في أي لحظة..
مشيت علطول، مستنتش يسألني أو يتكلم معايا وبعدها بيوم واحد سمعت الخبر…
عم “سعد” عامل المدرج اتخبط بعربية قدام الجامعة واتنقل المستشفى!
فقد دم كتير وضهره اتكسر، اتشل وهيفضل طول عمره على الكرسي المتحرك…
العربية خبطته بسرعة وجريت، ملحقش يشوف السواق، بس أنا بقى كنت متأكدة، عارفه بالظبط مين اللي خبطه..
اللي خبطه كان “إسماعيل” وده لأنه هو الوحيد اللي عنده مصلحة إنه يأذ.يه وثانيًا لإن عنده عربية كل يوم كان بييجي بيها الجامعة..
كان قدامي حاجة من اتنين، ياما أروح احكي لأمي أو أبويا على اللي بيحصل، أو استنى واسكت، يمكن “إسماعيل” ميأذ.نيش أنا والموضوع ينتهي لحد كده..
واخترت الاختيار التاني، لساني اتشل ومقدرتش احكي، واقنعت نفسي إن القصة خلصت، “إسماعيل” مش هيقربلي..
فاتت على الحاد.ثة دي سنة كمان، صحيح “إسماعيل” محاولش يكلمني خلالها، لكن كان عندي إحساس عجيب، كنت حاسه إن في حد بيراقبني طول الوقت، كيان موجود دايمًا معايا، حتى حوالين بيتي وتحت شباك أوضتي، جوه الجامعة وبراها…
وجه مرض بابا…
الوقت كان مقسوم نصين ما بين المستشفى والبيت..
نسيت موضوع “إسماعيل” ده تمامًا، نسيت إنه موجود أصلًا في الحياة، مكنش فيه في بالي غير بابا وصحته وبس، لكن رجعت افتكرته، وده عشان في زيارة من الزيارات ولما فتحت الباب على أوضة بابا وقبل ما أقعد جنبه عيني لقطت حاجة..
كان في وردة حمرة على الكرسي اللي جنب السرير!
جريت عليها ومسكتها في ه,لع، الشوكة اللي فيها اخترقت جلدي وصباعي ن.زف، الج.رح كان عميق، ومع ذلك مكنتش حاسه بالألم، فضلت مسكاها وباصة فيها، عيني مش بترمش..
بابا اتخض عليا، قال لي أروح أنده ممرضة تشوفلي الج.رح وأنا كدبت عليه وقلتله إن الج.رح سطحي، بعدين قال:
-الوردة دي سابها زميلك، طيب أوي، جه زارني من شوية، شكله إبن حلال وبيحبك، أنا عن نفسي موافق يا “جنة”..
=موافق على إيه يا بابا؟
-تتجوزيه بعد ما تتخرجي، واضح إنه بيحبك بجد.
قلت بعصبية:
=مفيش حاجة بيننا يا بابا، ده مجرد زميل..
ساعتها جاتلي الفرصة، كان ممكن أحكيله على كل اللي “إسماعيل” عمله، على مضايقته ليا ومراقبته والراجل اللي داسه وأذ.اه، وزياراته المريبة لبيتنا وإنه بيراقبني وبيتج.سس عليا، لكن معملتش كده، خفت على بابا، خفت يخ.اف عليا ويتعب أكتر، وسكت…
……………..
كان عندي زميل تاني بدأنا نقرب من بعض، علاقة صداقة عادية، مكنش فيه غراميات يعني، بنقف نتكلم كتير وأوقات بناكل مع بعض في الكافيتريا، وفي مرة لمحت “إسماعيل” واقف بيراقبنا، عينه بتطق شرار، بس بعدها اختفى، واضح كده انه انسحب وقال ميكسفش نفسه…
زميلي مشي وسابني وأنا بقيت لوحدي…
كان قدامي بوابة الخروج، على بعد خطوات بس، خلاص كنت هخرج، لكن في حاجة وقفتني، عربية جت بسرعة ووقفت بالعرض، “إسماعيل”…
عرض عليا أركب وأنا رفضت، كرر عرضه بس بعصبية، برضه أصريت ورفضت، مشيت وسبته وركبت تاكسي وروحت…
التاكسي جري بسرعة البرق أول ما وصلنا الشارع بتاعي ونزلت، وقبل ما أمشي خطوتين على بعض، عربيته وقفت قدامي بالعرض، برضه “إسماعيل”! المرة دي في الشارع بتاعي، تحت بيتي، بقى عائق ما بيني وبين مدخل عمارتي..
كان قدامي اختيار من اتنين، يأما أص.رخ واستنجد بالبواب والناس، يأما أشوفه عايز إيه وأحاول أمشيه بهدوء عشان معملش شوشرة..
وكالعادة اخترت الاختيار الغلط، فتحت باب العربية ودخلت جواها…
=عايز إيه؟ هو ينفع اللي بتعمله ده؟؟
مردش عليا، شغل العربية وانطلق!
أنا بتخ.طف؟ هعمل إيه وأنا لوحدي مع واحد مخت.ل سيك.وباتي، مش واعي كفاية ومخه مش فيه، كنت هموت من الر.عب، “إسماعيل” لو قرر ينط بالعربية من فوق الكوبري على النيل كان يقدر يعملها ومحدش كان هيعرف عني حاجة ولا يقدر يوقفه…
فجأة الشخص اللي مش بيتكلم ده بقى يرزع بإيديه الاتنين على الدريكسيون، عروق رقبته نفرت وبقى يصرخ زي المج.نون، شت.مني بأبشع الألفاظ وش.تم زميلي واتهمنا بإننا على علاقة مش تمام..
سرعة العربية فضلت تزيد وتزيد، كذه مرة نبقى على وشك نخبط في عربية تانية، كنت متأكده إنه مستعد يم.وت وأم.وت معاه في الدقايق دي، معرفش إمتى وإزاي بس لقيت العربية بتدخل في الشارع بتاعنا، وبتبطء لحد ما ركن قصاد عمارتي…
سكوووت…
بعد البركان اللي انفجر، “إسماعيل” كان ساكت تمامًا، لون وشه بدأ يرجع للطبيعي بعد ما كان أحمر لون الد.م، بصلي بحب وندم، قال:
-يا “جنة” سامحيني، أنا مش عارف عملت كده إزاي، إفهميني أنا بحبك ومش ممكن أاذيكي، أنا أكتر واحد بيحبك في الدنيا، أكتر حتى من أبوكي وأمك، مفيش راجل هيحبك زيي، ولا يمكن أعمل فيكي حاجة وحشة، أنا بس بتج.نن لما اتخيل إنك ممكن تكوني لحد غيري، أو مبقاش معاكي، بس في كل الأحوال متقلقيش، عمري ما هستحمل عليكي حاجة، مش هأذ.يكي ابدًا.
معرفش إزاي قدرت أنزل من العربية وأطلع على الشقة، أنا رجليا كانت بتخبط في بعض، بقيت متأكدة إني ممكن أنزل في يوم من البيت ومرجعش، أيوه للدرجة دي، كنت متأكده إن حياتي بقت في خ.طر…
ومع ذلك فضلت ساكته، ماما مكنتش مستحملة، بابا صحته كانت عمالة تتدبل، هقول لهم إيه، هقول لهم إيه..
واللي قال إنه مش هيأ.ذيني قتل العصافير بتاعتي وحر.ق أوضتي، أنا عارفة إزاي عملها، ببساطة الأيام دي عقلنا مكنش فينا، كنا أوقات كتير بننسى وبنسيب باب الشقة مردود عشان كل شوية نجري على المستشفى بعد ما بنتبلغ إن بابا حالته حرجة، “إسماعيل” كان بيدخل الشقة ويبدع، المرة الأولى ق.تل العصافير بد.م بارد، دب.حهم، والمرة التانية ولع في أوضتي، وشفت النار وهي بتاكلها بنفسي ولولا إن الجيران اتدخلوا الشقة كلها كانت اتح.رقت…
بعدها بأيام أبويا اتوفى، يعني رسميًا مبقاش ليا ضهر، و”إسماعيل” في لحظة كان ممكن يق.تلني، وعرفت بعد الوفاة بمفيش بموضوع الديون اللي علينا، بس أنا فرحت!
فرحت عشان هنبيع الشقة وهنروح للمنصورة، أدركت إن ربنا بعتلي طوق النجاة، واللي يبان ش.ر ده هو تدابير ربنا عشان يتكتب لي عمر جديد، هي دي كانت الطريقة الوحيدة، إني اختفي تمامًا، وابدأ في مكان جديد..
وبعد ما استقريت في المنصورة عشر سنين، شفت السيناريو بيتكرر لكن للأسف المرة دي البطلة اتق.تلت، المهووس المخ.تل اتمكن منها، كان ممكن جدًا أكون مكان “نيهال”، و”إسماعيل” مكان “عادل”، الله أعلم بتفاصيل قصتهم، علاقتي ب”نيهال” مكنتش قوية، لكن أنا أكتر واحدة أعرف إن الدخان ممكن يكون من غير نار، ممكن واحد مريض يبني عالم خيالي بالكامل من غير ما تكون الضحية ليها يد، لا أعجبت بيه ولا شجعته ولا إدته ريق حلو، من نفسه كده يتهوس بيها ويقرر يخليها سجينته، سجينة خيالاته…
“نيهال” اتط.عنت في الشارع، في عز النهار، في وسط الزحمة، وكل ده اتصور والفيديو انتشر، وأنا كنت من ضمن المتفرجين، كان حلم حياتها تبقى عارضة أزياء، دي حتى عملت جلسة تصوير بفستان فرح، كان لايق عليها أوي، لايقة عليها الفرحة، لايقة عليها الحياة، وجه هو قت.لها عشان عالم وهمي عايش فيه وحده، وأنا، أنا كالعادة اخترت غلط، اخترت محكلهاش عن تجربتي…
بتخيل لو من 10 سنين وقت ما خبطت على بابي ودخلتها، كنت حكيت كل حاجة، كان زمانها بتعمل الاختيارات الصح من وقت ما قابلت “عادل” عشان بقت على إدراك بالنموذج ده، عارفاه كويس، عارفاه من خلالي، من خلال تجربتي، كانت قالت لأهلها من الأول، أو صدته ومرضتش تكلمه ولا نص كلمة، ويمكن كانت تبقى لسه عايشة، لسه بتتنفس…
“تمت”
#الوردة_الحمراء
#ياسمين_رحمي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى