السراب
١
الماضي والمستقبل احيانا ما يكونوا صديقان في عالم ما وراء الطبيعة، فالحاضر يكون شاشة لشيء حدث في تلك الرقعة من الأرض، وأخر سيحدث بالمستقبل.. أراك وأنت مستمتع بذلك الحديث، لكن يجب أن يكون لديك ذلك اليقين الذي يخبرك بصعوبة كلماتي، وفي ذات الوقت خباياه.
أنا شادي أنيس… الملقب بشادي الونس، دبلوم تجارة… اللي منها اتخرجت وبقيت عريف بالجيش، واترقيت بقيت رقيب، وده تحديدًا في شمال سيناء أرضنا وأرض الشعب المصري كله أجمع.. ومن هنا تبدأ الحكاوي….
حكاوي ميري زي ما سميتها أنا مع الونس اللي بيظهرلي دايمًا.. الموضوع بدأ لما جالي مأمورية في يوم إني أروح بدل صف ظابط كان نازل اجازه وده كان ف نقطه تبعد عن الوحدة بتاعتي مسافة 9 كيلو ، وده لأن كان في عجز ف صف الضباط والعساكر بسبب العملية الشاملة.. يعني لغاية ما يجيبوا قوات أكتر، ده غير إن تبادل الخدمات كان صعب جدًا وإن في بعض العساكر كانت بتاخد بدل الخدمة خدمتين ورا بعض، وده كان صعب جدًا عليهم، وفي نفس الوقت ظلم ليهم بس ما باليد حيلة كله غصب عننا .
فانا أول ما وصلت النقطة دي ، قعدت مع العساكر شوية أكلنا.. تحديدًا اتغدينا مع بعض، وده لأني بحب أتعرف على العساكر بتوعي دايمًا ومحسسهمش بالخوف من ناحيتي أبدًا، وفعلًا كسرت حاجز الخوف، ومنه زاد الأحترام، هتيجي دلوقتي تقولي طب فين القصة وفين المرعب في اللي انت بتقولوا ده… ده انت يا راجل حببتني فيك زي.
هقولك تعالى بقى لأول حدث حصل معايه في أول ليلة ليا في الكمين، وقتها وزعت الخدمات بالعدل، ودخلت العنبر لأني بحب أنام وسط العساكر ده لاني منهم من الأساس ، فخدت سرير أرضي وريحت ضهري عليه شوية عشان تعب اليوم يروح، لكن من غير ماحس روحت في النوم ونمت نوم عمييق، أحلامي وقتها كانت متفاوتة، مش محدده يعني.. مره أشوف عسكري، ومره أشوف جيش.. مره أشوف النقطة بتتضرب لدرجة اني صحيت مخضوض بسبب رصاصة جت في نص دماغي،
لقيت ساعتها عسكري قاعد على السرير اللي جنبي، ومن الواضح إني مشوفتوش وقت الغداء مع بعض.. فبالتالي ماكنش عارف أنا مين، ولا جي منين.. كل اللي قاله وقتها حاجه واحده:
-ايه اللي نيمك هنا يا أخينا، ده سريري، بقالك ساعتين قاعد بتعمل في اصوات وانا قاعد بغني عليها لغاية ما تصحى واتخمد انا.
في الحقيقة انا من النوع اللي بحب اعامل باقي العساكر زي اخواتي، لان مهما كان انا كنت جزء منهم، فالواحد عارف بالضغط اللي عليهم.. فبصدر رحب ضحكت وقولت:
-اصوات، واخينا.. وتتخمد!.. انا اسف يا سيدي مالقتش حد على السرير فريحت ساعتين، كنت تناملك على اي سرير على ما اصحى.
لقيته قام من مكانه واتحرك ناحيتي عشان يقومني من على السرير وهو بيقول:
-قوم يا سيدي، انت لسه هتقولي اعمل ايه وماعملش ايه!.. انا راجل ماحبش انام غير على السرير ده، وفي الوقت ده.
بصراحه مرضتش ارتكب مشكلة او اسببله مشكلة، ولا حتى رضيت اعرفه بنفسي، قومت من مكاني طلعت بره للعساكر أشوف الدنيا ماشية ازاي.
وبالفعل طلعت من العنبر على المطبخ عشان أشوف الدنيا ماشية ازاي هناك، بالذات لأن الأكل كان سيء جدًا في الغداء، أول ما دخلت المطبخ اللي كان مكركب جدًا، والحاجات في قديمة، لكن ده كان طبيعي في الجيش الحقيقة، لكن اللي مش طبيعي هو ان المطبخ كان مُظلم شوية، والعسكري اللي بيطبخ ماكنش موجود، بالرغم إنه كان مطلوب منه يجهز أكل في الوقت ده، فضلت أنده وأقول:
-يا عسكري، أنت يا بيه..فينك؟
لكن زي ماكنت متوقع محدش بيرد، فالتفت عشان أطلع بره المطبخ، لكني سمعت صوت صرخة، التفت مره تانية للمطبخ وانا بقول:
-انت يا عسكري.. هجازيك.
محدش بيرد بردو، بعدها سمعت صوت حاجه.. غطاء بيقع على الأرض، وصوت الخبطة كان عمال يرن في ودني بشكل مرعب:
-أنا غلطان إني بهزر مع أمثالكوا وبعاملكوا بحسن نية، وديني لهخلي كل واحد فيكوا يعرف مقاموا عشان تهزروا مع الرقيب بتاعكوا كده.
التفت وقتها مره تاني لباب الخروج عشان اطلع من المطبخ، لكني سمعت صوت واحد من الواضح انه بيتألم:
-مش ده لما تعرف تجازيني او تعملي حاجه.
التفت مره تالتة واخيرة وانا بقول:
-انت ازاي بتتكلم كده يا عسكري، اوعى تفتكر ان بصوتك ده أنا ممكن اسكت على اللي بيحصل.
ضحك ضحكة مكتومة وكمل كلامة وقال:
-ومين قالك اني بهزر معاك، انا عارفك.. جبان، مش هتعرف تجازي حد فينا، بتهرب من ماضي مؤلم مش عايز تكررة مع حد تاني.
-انت ازاي تكلمني بالاسلوب ده يا عسكري؟
لقيت شخص بدأ يظهر من بين الظل اللي قصادي، شخص كان مُحترق تمامًا… ملامحة مش باين منها حاجه غير مُجرد انسجة لأنسان مقدرش ينجوا من حريق حاد، بدأت اتراجع بخوف لورا، نبضات قلبي بدأت تعلى بشكل مبالغ فيه، بدأت احس بالأختناق لما الشخص اللي قصادي ده بدأ يبتسم ابتسامة مرعبة ويقول:
-أنا كُنت عسكري…
اتكعبلت ووقعت.. وقعت على الأرض ولقيت عسكري من العساكر اللي كنت بتغدى معاهم بيقومني من الأرض وهو بيفوقني وبيقول:
-ايه يا باشا، مال حضرتك.. انت كويس؟؟؟
ماكنتش بنطق، ولا حتى كنت مركز معاه.. الحاجه الوحيدة اللي كنت مركز معاها هو الشخص اللي كان قصادي واختفى بلمح البشر، لكن اخد تركيزي شخص تاني قاعد في زاوية الأوضة وهو بيغمزلي قبل مايختفي في وسط ظل الأوضة .. شخص ملامحة مالحقتش انساها.. كان نفس العسكري اللي شوفته في العنبر..
قومت ونفضت هدومي وانا بقول للعسكري:
-انا عايز كل اللي في العنبر يجمعوا دلوقتي حالا، وكل اللي نايم يصحى.. عايز اعرف اعدادهم واسمائهم وخدماتهم ايه.
-بس..
-ما بسش اللي طلبته يتنفذ وحالا.. عشر دقايق والاقيهم قصادي برا.
-تحت أمرك يا باشا.
في أقل من عشر دقايق العساكر كلهم كانوا قصادي، بدأت أبص فيهم واحد ورا التاني عشان أشوف نفس العسكري اللي كان في الأوضة، لكنه ماكنش لي أثر، بعدها قولت:
-مين العسكري اللي في المطبخ؟
لقيت نفس العسكري اللي كان معايه في المطبخ قال:
-أنا يا باشا.
-كنت سايب المطبخ ورايح فين؟؟
-مفيش يا باشا انا بس كان معاد تجهيز العشاء لسه مجاش، ولما جيت لقيت…
قاطعته وانا بزعق:
-لقيت ايه ها.. لقيتني واقع على الارض بسبب كركبة المطبخ.
بعدها لقيت عسكري اتكلم من غير اذن وقال:
-مش هو ياباشا السبب.. ده علي اللي كان في المطبخ.
قفلت وشي عليه وقولت:
-بتتكلم من غير اذن ليه يا….
لكن مع لحظة نظري لوجه العسكري ده سكت.. سكت لانه نفس العسكري اللي شوفتوا في العنبر وشوفتوا في المطبخ!!.. فقربت منه مسكته من لياقة الافارول بتاعه وأنا بقول:
-انت مين؟!
في لحظتها ملامحه كانت اتبدلت، كان عسكري تاني… اعصابي كانت تعبت وقتها، سيبت العسكري واعتذرتلوا بعدها قولت لكل واحد يروح خدمته.. وانا وقفت علي تبه عالية كاشف الكمين فيها خدمة، ده بدل عسكر تاني عشان يرتاح، ده لانه كان مطبق خدمتين، كمان عشان اريح اعصابي في الطل لوحدي، وبالفعل أخدت خدمة العسكري ، والكميين ده كان في مكان مقطوع قريب من جبل، الدنيا هناك فاضية تمامًا.. يعني لا في حد بيخش ولا بيطلع.. انت والسما، انما حبيبك فغايب، وفينك بقى يا حبيبي وأنا شايفك بين النجوم.
لكن حبيبي طلعلي من وسط الصحراء، ده لما لقيت واحد قاعد جنبي، بالتحديد كان عسكري قاعد جنبي أول ما شافني قال:
-سيادة الرقيب، أنا قولت أجي اونسك في خدمتك بما إن مش جايلي نوم.
في الحقيقة أنا كنت محتاج حد أرغي معاه فعلًا، فرديت عليه وقولت:
-أول مره اشوف عسكري بيقعد مع حد ف خدمة مش خدمته، أو بيضيع وقت في حاجه غير النوم!!.. أومال أنتوا عايزين ليه عساكر زيادة طالما متعاونين كده؟
ضحك وقال:
-مش كده يا سيادة الرقيب.
-شادي.. قولي شادي، مهما كان انا كنت عسكري زيكم قبل التريقة.
ملامحة ماكنتش باينة من وسط الضلمة لكن ضوء القمر كان مبين الابتسامة اللي كانت على وشة، واللي بيها كمل كلام وقال:
-مش كده، بس انا مختلف عن اللي هنا شوية، انا اتعودت أصحى لمدة طويلة، النوم مش من اولوياتي.
-لا ده أنت تستحق الدراسة بقى!.. هو ايه اللي النوم مش من اولوياتك؟!.. أنت متأكد من اللي بتقولوا، هتخليني اوصي عليك تتنقل مكان مش هيعجبك، بس هيعجبهم انك صاحي.
ضحك مره تاني وقال:
-ياريت يا شادي يا ابني.. ياريت كنت اعرف اتنقل.
اتصدمت من اللي قاله لانها اريحية في الكلام غير مبررة:
-ابنك!.. انا قولتلك قولي شادي اه، بس ابنك ده في البيت.
من الملامح المطفية اللي قصادي بسبب الضلمة اللي احنا فيها لاحظت ان ابتسامته بدأت تختفي تدريجيًا لما قال:
-انت تعرف احلى حاجه في المكان هنا ايه؟
سقفت بسخرية:
-الصحراء، قلة النوم.. الاكل اللي ميتاكلش!
-الراحة ولو بعد عذاب.
بدأت استغرب كلامه اللي بدأ يبقى مريب بالنسبالي، ده غير شكي فيه اصلا اللي زاد بدون مبرر منطقي، لكن مشاعري والحاجات الغير منطقية اللي شوفتها من ساعة ماجيت هي اللي بتقولي ان اللي قدامي ده مش مظبوط، وده لما سألته وقولت:
-انت اسمك ايه، ولا عمرك ايه.. انت مين؟!
لقيته اخد نفس عميق وقال:
-أنا سلطان.. سلطان الجبار، سلطان دبابة.
-خلاص انا مش هطلعلك بطاقة، عندك كام سنة يعني، ولا بقالك هنا كام شهر.
-٧٣
-بقالك هنا ٧٣ شهر!!.. يا راجل، وايه اللي جابرك على ده كله.. ده انت معدي ال ٧٣ سنين.
-بقالي ٧٣ سنة.
وقتها التوتر اللي عندي قل، اكتشفت انه عسكري مجنون، دماغة مفوتة، فالتفت ناحية الجبل وقولت:
-طب اعملنا كوبايتين شاي يا سلطان يا جبار.
-بس انا مش مجنون يا شادي، انا معاك وونيسك.
التفت مره تانية لي، لكنه كان فص ملح وداب، اختفى من العدم زي ما ظهر من العدم، بالرغم ان لو حد اتنفس جنبي هقدر اسمع نفسه، فده متحركش اساسا عشان يمشي، مقدرش اقولك اني كنت قوي مترعبتش، بالعكس.. انا جريت على الكتيبة بكل سرعتي، 9 كيلو عدو عليا اكنهم 9 متر، محستش بنفسي غير وانا في العنبر بلم حاجتي وخدت ديلي ف سناني وجريت علي الكتيبة ، ومن حسن حظي قائد الكتيبة كان رجع من مامورية وسالني جيت ليه قبل ميعاد تبديلك.
ماكنتش عارف احكيلوا على اللي حصل، ولا اعمل ايه.. لكني طمنته وقولتله ان في صف ضابط مكاني راح هناك ورجعت الكتيبة بتاعتي عشان استقبل الدفعه الجديدة.
السراب
٢
بعد اللي حصل في النقطه، واني خدت ديلي ف سناني ورجعت الوحدة من الرعب، فأنا بعدها بمدة مش كبيرة روحت مأمورية تانية، بس المرة دي في وسط سيناء، المأمورية دي كانت في كمين وفيه خندق هناك.. فاللي يعرف المكان يقول في الكومنتات لأني مش هقدر اقول المكان بالضبط.
أول ما وصلت الكمين تفاجئت إن القائد مش موجود هناك، فبالتالي أنا اللي هكون بداله قائد الكمين دا لحين توافر ظابط او صف ظابط يجي بدالي .. لكن الأحداث المرعبة تبدأ بدري، قبل حتى ماعرف مكان العنبر فين، ولا اغير الأفارول اللي أنا لابسة، ده لما لقيت عسكري اسمه محمد جالي وهو باصص للأرض ومرعوب:
-هو انت يا باشا اسمك ايه؟
بحسن نية وبطريقتي المعتادة مع العساكر قولت:
-شادي انيس.. في حاجه ولا ايه يا عسكري؟
لقيته قال وصوته مرعوش:
-م م م مفيش حاجه.
لكن الرعشة اتحولت لأبتسامة مرعبة مش قادر انساها لما قال:
-اهلًا بيك يا شادي.
في لحظتها العسكري حط ايده على شفايفة وهو بيقول بصوت مرتعش:
-أسف والله يا باشا، أنا مقولتش حاجه.. فجأة واحده لقيت لساني هو اللي بيتكلم عني.
ماتكلمتش، كنت ساكت وهادي.. شاورت للعسكري انه يمشي وانا واقف مش بتكلم، اللي حصل ده كان معناه اني داخل قصة جديدة، لكن المرادي ماكنتش عارف هتخلص على ايه.. فخدت بعضي ودخلت العنبر احط شنطتي، لكني مالحقتش أتهنى دقيقتين الا ولقيت عسكري بيجري على العنبر وبيقول:
-باشااااااا،باشاااا .. في عسكري عايز ينتحر وواقف على برج المراقبة.
عقدت حواجبي وقولت بعصبية:
-وجايلي أنا ليه يابني؟!.. ما تلحقوا.
لقيته قال بصوت مرتعش:
-هو طلبك انت بالأسم ياباشا .
-طلبني انا!!.. انا مبقاليش ساعة هنا.
-ما هو ده محمد اللي كان واقف مع حضرتك.
اتصدمت، ومن الصدمة خدت بعضي وجريت على البرج..
طلعت في لحظات ولقيت محمد فعلًا كان واقف على الحافة وبينه وبين الموت أقل من خطوة، وشة كان شاحب، ابتسامته ماكنتش مفارقة وشة، عينه كان باين عليها القلق، شخصيتين في جسد واحد قادر اني اميزهم.. بحزم شديد قولت:
-انزل يا عسكري… انزل وهنشوف انت عايز ايه.
بدأ يضحك، ضحكة وسط دموع نازلة من عينه مُعبرة عن الخوف اللي هو حاسس بي دلوقتي.. اتبع ضحكته كلام عمري ما هنساه:
-ايه يا شادي، خايف عليه كده ليه!
-انت تعرفني عشان تعرف الماضي بتاعي؟
-مش قولتلك اللي شوفتوا بداية، افتكرني كويس.
صوته اتغير ورجع لصوت مرتعش مره تاني:
-مش عايز اموت يا سيادة الرقيب، هو اللي عايز يموتني.. ارجوك الحقني .
لكن الخطوة بتاعته كانت اسهل من الخطوتين بتوعي عشان الحقة، وقع.. لكن الموت مقدرش يقبضة لأن العساكر بحسن نية قدروا انهم يلحقوا الحمدلله، مش قادر انسى نظرات وجهة ليا المليئة بالرعب، ده غير نجدته ليا اللي مقدرتش البيها، لكن اللي في ايدي دلوقتي اني اعرف الحقيقة.. اعرف اللي ورايا ده يبقى ايه، كيان مرعب بيخترق الاجساد، ولا ده كيان جوه دماغي ومحتاج اتعالج منه، اه انا مستبعدتش اني اتجننت، لان كل اللي بيحصل ده مش طبيعي.
في النهاية القدر كان مع محمد إنه يعيش، ده بعد ما العساكر قدروا انهم ينقذوا عن طريق كام مرتبه وكام بطانية.. لكنهم مقدروش ينقذوني من الحرب اللي كانت دايرة جوايه، حرب سببها الأول والأخير مجهول، ما وراء الطبيعة اللي كنت دايمًا بستبعدها عن أي شيء بعيشة، بالرغم من تصديقي على وجود شيء ذي ده، لكن شعلة الحرب اللي كانت جوايا مازالت دايرة عن ماضي عيشته، تناسيته.. ابتديت حياة جديدة.. حياة لن تخلوا عن ماضي عيشته.
-يا سيادة الرقيب.
ده كان عسكري زود ضربات قلبي وقطع حبل افكاري لأني كنت شارد تمامًا:
-يا سيادة الرقيب، أنت معايه ولا ايه.. العسكري لسه عايش، نعمل ايه.
رديت بشرود:
-ايه.. امممم، تعملوا ايه؟.. اعملوا اللي تعملوا، بس قبلها انا عايز اشوفوا.
-دخلناه العنبر يا سيادة الرقيب لو عايز تشوفوا هو هناك، بس عايزين نعرف هنعمل في ايه.
قولت بشده وحزم:
-اعمل اللي بتعملوا كل مره يا عسكري، هي اول حالة انتحار نشوفها!!
-تحت امرك يا باشا.
اه نسيت اقولكوا، في الجيش بالذات في سينا حالات الانتحار بتزيد، اكتئاب بقى، ضغط.. تخيل كده تكون اول مره تضرب نار في حياتك يبقى في جسم عدو عشان تحولوا جثة، بالرغم من احقية القتل في حاله زي دي لانه دفاع عن الوطن، لكننا مهما كان ناس نضاف من جوه، فكرة القتل والدم عمرها ما خطرت في بالنا، لكن في لحظة بقى كل ده واقع بنعيشوا.
دلوقتي بقى دوري مع العسكري محمد، اول ما دخلت العنبر طلبت من كل العساكر يرجعوا خدماتهم، ووكلت عسكري تاني يراقب على البرج بدل محمد، بعدها اتصلت بالقوات عشان يتخذوا الإجراءات ويبعتوا حد بداله ويرجع الكتيبة.. لكن قبل كل ده كان لازم اعرف ايه اللي بيحصل.. بدأت كلام مع العسكر اللي كان منكمش على السرير وباصص للسقف وهو مبتسم وجسمة كله بينتفض:
-ايه اللي خلاك تعمل كده يا عسكري؟
-……
مبينطقش، لكن لساني كان لسه بيتكلم وقولت:
-انطق يا عسكري عشان مش هيحصلك خير كده، مين اللي كان بيكلمني.. وايه اللي بيحصل بالضبط.
في ثانية كان مسكني من رقابتي، ضوافرة كانت زي المخالب بالضبط ، كان بيتكلم بصوت أجش:
-مش هو يا شادي، مش هو اللي كان بيتكلم… اللي بيتكلم هو حاضر مع ماضي هتعيشة.. ده كله سبب في ماضي مؤلم.
محستش بنفسي غير وأنا بمسك في الأفارول بتاع محمد، بصرخ في وشة:
-انت عايز مني ايه!!… انت مين؟!
محمد ملامحة اتغيرت، بدا وشة يزرق بشكل غريب، كنت ماسك حنجرته وانا بخنق فيها وهو بيقول:
-النهاردة الحدث التاني.
وقتها لقيت مليون ايد بتشدني، جسمي كله كان سايب.. بلعت ريقي وانا شارد تمامًا.. عساكر كتيرة كانت بتصرخ في وشي، كلامهم ماكنش مفهوم.. ده لأني مخنقتوش، انا بس مسكته من الأفارول، أصل هخنقة ليه وهو مأذنيش.. السؤال المهم، هو مين أصلا، مين اللي بكلمة.. هل ده محمد ولا شخص مجهول عارف عني حاجه انا مش عارفها.. او يمكن مش عايز افتكرها، مش هطول عليكوا بس هطمنكوا محمد كان لسه عايش.. لحقوه من ايدي بأعجوبة، ولما فاق مرضاش يشتكيني، لكنه كان خايف مني، ممكن مرضيش يشتكيني عشان خايف، او الشخص المجهول ده حذرة.. لكن الواقع اللي انا فيه ومتأكد منه إني لسه في الكمين وهقضي فيها الليلة دي..
معداش ساعتين على بعض الا والليل كان ليل، قررت مطلعش امر علي أي خدمة بليل عشان ميحصلش ذي أخر مره، لا وكمان قررت أقعد في العنبر لوحدي عشان الليلة دي تعدي على خير، وبالفعل ده اللي حصل..
لكن يعدي الوقت والاقي صوت طلق ناري بره.. في الأول قولت طلقة طايشة من العرب وده كان بيحصل كتير هنا بسبب صدى الصوت، لكن المرعب اني سمعت صوت طلق ناري تاني، والمرادي صوت الرصاصة اكنها اتضربت في العنبر هنا.
في لحظتها جالي عسكري وقال ان في حركة جنب الكمين، وفي طلق ناري.. أمرت في لحظتها الكل يجهز في مكانه، والكميين ده كان جواه خندق، وحواليه زي دوران.. يعني لو العدو دخل الخندق عادي جدًا ممكن نلتف حواليه.. وده اللي عملناه فعلًا، شديت سلاحي وخدت معايا مجموعة والتفيت حوالين الخندق، لكن من الواضح انهم كانو عامليين حسابهم واحنا اللي اتحبسنا في الخندق، العدو التف حوالينا وبدأ الطلق الناري يشتغل.. كانت حرب بمعنى الكلمة، ولأول مره أحس اني في معركة.. لا ويوم ما يحصلي ده تبقى في وسط سيناء..
شوفت حواليا ناس بتموت.. عساكر كنت اول مره أشوفها في الكمين الصبح كان دمها سايح جنبي، فشديت عسكري من العساكر كان مصاب عشان احميه، لكني شوفت شيء خلاني اسيب سلاحي من غير أي حركة.. صدمة كنت حاسس بيها لما لقيت أبويا الحاج أنيس وسط الكمين وهو بيضرب نار!!.. المرعب اني لاقيته بيقرب مني وبيطلب مني وهو بينهج:
-خلي بالك من ابني شادي.. الواد مالوش ذنب في اللي بيحصل، أنا اللي فتحت الباب، وأنا اللي هقفلة.
بعدها جت رصاصة اخترقت قلب ابويا قصادي.. بدأت دموعي تنزل من الصدمة.. مش مستوعب اللي بيحصل اذا كان حقيقي ولا خيال، ولو الكلام ده حقيقي فأزاي ابويا قصادي!!.. ابويا اللي كنت لسه سايبة الاجازة الاخيرة في البيت.. بعدها جاتلي رصاصة وسط دماغي.. أخر حاجه شوفتها كانت نفس الابتسامة المرعبة لكنها من شخص طويل القامة مالوش اي صلة بالبشر:
-جزء من الحقيقة، الباقي عليك.
صحيت مره تاني وانا على سرير في العنبر وكنت بنقط عرق، جسمي كان بيرتجف من الخوف.. اول حاجه عملتها بعد ماقومت اتصلت بابويا اطمنت عليه:
-الو يا حاج.. عامل ايه اخبارك؟!.. انت كويس؟
قالي بصوته الغليظ:
-اه يابن انيس كويس، هو انا بعمل حاجه، اديني متلقح في البيت.
-الحمدلله انك بخير يابويا.
قفل في وشي… وقتها اتأكدت انه كويس مفيهوش حاجه، لكن اللي دخلت عليه بعد كده هو اللي كان مرعب أكتر، الكيان المرعب ده عايز مني ايه؟.. ابويا ظهر ليه في الحلم، صدقني اجابات كل الأسئلة دي انا مش عارفها، لكني عرفتها بعدين