وسقطت حكمت ٢ ، قبل ستة اشهر من الان فى العام 1820 وفى صباح أحد ايام الشتاء القارص فى الفردوس المفقودة عادت الاسرة الصغيرة من أحد اسواق مدريد المزدحمة بالإسبان ولفيف من الجنود الفرنسين بعد ان اشترى كلاً منهم ما يحتاجه ويحتاج البيت.
وقد كانت حكمت تلاعب طارق آن ذاك وهو يحمل بعض الحقائب وحكمت بيدها سله من القش متوسطة الحجم وضعت بها بعض الاعشاب والعطارة الخاصة بالوصفات الطبية التى تصنعها وتقتات على ما تدُرها عليها وعلى أسرتها من اموال .
وإلى جانبهم خديجه التي ضيقت جفونها في تشكيك بصحة بصرها حول هوية الواقف امام باب بيتها ، ولكن لا بصرها سليم بعد ان صاح طارق وهو يشير الى باب البيت قائلاً بحماس : أمي هذا اثانيوس .
هزت راسها بنعم وقد دُهشت بشدة وأخذت فى تبادل الانظار مع حكمت في دهشه وحيرة من الأمر وتلك أول مره يأتي فيها ابن اخيها اثانيوس -” عثمان” -الى بيتها من اقصى الجنوب من غرناطة الى قلب اسبانيا مدريد مع العلم أن اثانيوس ليس بالغلام أو الصبى بل شاب في الثلاثين من عمره ولديه ثلاثة اطفال لكن الطريق بعيدة ووعرة في ظروف الاحتلال تلك .
وقد فضلت خديجه الاخذ به الى داخل البيت أفضل وهى تشعر أن الجميع يحملق في هذا الغريب عليهم وقد دخلوا جميعًا و افرغوا ما بيدهم وهى نظره واحده في عيونهم الدهشة والريبة !
ولكن اثانيوس ليس على ما يرام قد يكون اجهاد السفر ولكن وجهه مسود وتظهر عليه أثار العصبية نتيجة ضيق ما في صدره . وعلى العكس تمامًا من شخصيته المرحة المعتادة فقد اقبل على عمته و صافحها بهدوء و كذلك حكمت و طارق .
وما ان فرغ حتى نظرت له اليزبيث فى شك قائله : ما الامر هل الجميع بخير هل ابوك بخير؟ لا تثر ريبتي.
طأطأ اثانيوس راسه وهزها بنفى قائلاً بأسف : لا عمتى … ابى بخير … لكن جدى فى السماء .
لطمت خديجه _اليزبيث _ صدرها بعنف وصرخت بقوة قائله فى نواح عالٍ مقهور : ابى …ابى مات … منذ متى … وكيف؟!
ثم جلست على اقرب كرسي وأخذت فى البكاء بقهر و حرقه وهى على كلمة واحده : ابى … لقد كنت اريد رايته … لما لم ينتظر … لما رحل وتركني … ابى؟!
وقد نظر اثانيوس لها بشفقه ولحكمت _جوليانا _ و طارق _ اخيلا_ فى خجل من هذا الجو السلبى الذى نشرة فى البيت ولكن الموت حقًا مكروة ولا بد منه حتى ولو طال الزمن سيأتي سيأتي لا محال .
جلست حكمت على ركبتيها وأخذت راس خديجه الى صدرها وأخذت فى ترويح عنها وكفكفت دموعها و بطت على ظهرها فى مواساه هادئه حتى لا تمرض من الانفعال والحزن وقد أقبل عثمان وبيده كوب من عصير الليمون وبه عشبة العُصفر ليُزيل عنها التوتر والهلع ومن خلفهم طارق الذى اغلق النوافذ وشد الستائر بأمر من حكمت حتى لا ياتى احد الجيران اليهم وهى فى تلك الحالة لبائسه .
وبشق الانفس وصعوبة بالغه قبلت أن ترتشف العصير وعلى مدار اكثر من ساعة وهى تشعر بان كل رشفه كالعلقم المرير فى حلقها وما أن انتهت حتى تحدثت حكمت بهدوء قائله وهى تمسك بكفيها وما تزال على ركبتيها امامها وعلى شفتيها ابتسامه مشجعه : أمى أمر من الرب ونفذ ليس بيدنا شئ الان أهدئى واسمعى ما يريد اثانيوس قوله .
ثم اتجهت الى كرسى بجوارها وقد هزت خديجه راسها التى يعصف بها الدوار بصعوبه ورفعت عينيها ذات الجفان المتثاقله ونظرت الى اثانيوس الذى تحدث بهدوء قائلاً : ليلة امس غادر جدى الى السماء ولم يدفن بعد… برغبه منه أن يدفن فى وجودك ووجود ابى و عمى الفريد … وما ان تنتهى مراسم الجنازه … جدى وكل لابى امر تقسيم اراضيه وميراثه بعد وفاته بأسبوع فوجودك مهم فى غرناطه الامر لن ياخذ سوى اسبوعين على الاقل … وستاتين معى وقد اجرت لكى ركوبًا تنتظر فى أى وقت .
قلبت الامر فى راسها ولكنها لا تأمن على ترك طارق الصغير وحده مع حكمت اسبوعين وفى نفس الوقت اعملها تحتاج الى ان تُسلم فى معادها وظروف الحرب تلك تجعلها لا تأمن على سفر حكمت فى هذه الاجواء ولكن ماذا تفعل الان وكل الامور تتعقد وتتشابك ؟ مسحت علة جبهتها براحة يدها قائله فى تعب : انا أوكل ابيك والفريد عنى ألا يمكننى قضاء العزاء والعودة لمدريد لا يمكنني ترك اخيلا هنا وحده ولا يمكنني استحطاب حكمت والجنود تملئ حدود المدن . وهناك بعد الاعمال التى ستُسلم غدًا… هل تفهمنى ؟
هز اثانيوس راسه بنعم واستطرد قائلاً : الحق كله معكى لكن هذه وصية جدى ولن تنفذ من دونك الامر متوقف كله عليكى .
زفرت خديجه فى ضيق وأغمضت عينيها بإرهاق وأخذت حكمت تلاعب اصابعها فى توتر وهى تحاول إيجاد حل ولكن عجزت عن التفكير فى حل مرضى لجميع الاطراف وقد اثقلت وجنتها اليمنى على راحت يدها اليمنى فى ياس من ايجاد حل .
ولكن خرج شعاع نور وأمل من اصغرهم عندما تحدث طارق بحماس قائلاً : اذهب مع امى واثانيوس وجوليانا تظل فى المنزل وتعمل .
ابتسم اثانيوس و صفق بحماس قائلاً : لما لم نفكر فى ذلك … نذهب الى غرناطه وجوليانا تظل هنا تسلم الاعمال عنكى وتبقى فى مأمن هنا وإن احتاجت شئ بيت العم جورج موجود، لا يبعد كثيرًا عنها والجيران هنا كلهم يعرفونكم ولن تكون ازمه، ما رايكم؟
أمالت حكمت راسها ونظرت الى خديجه قائله : ليس لدى اى مشكله فى هذا … ما رايك يا امي.
الآن أمك ليس لديها حل اخر ولا مجال للرفض ستوافق بالتأكيد و هى ترى تلك النظره المتأملة و الراجية من الجميع تحثها على الموافقه مرغمه وهزت راسها على مضد قائله : فقط اسبوعين لا اكثر .
زفر الجميع براحه وهدوء وأمسك عثمان براس طارق تحت ابطه وبدأ باللعب فى شعره قائلاً بمرح : انقذتنا يا عبقري .
—————————————————————————————
عند شروق الشمس الذهبيه على سماء شبه الجزيرة الايبيريا استيقظت ذات الشخصيه المزدوجه فى وقتها كالعادة و اخذت فى حك شعرها الكثيف بنعاس غالب وهى تنظر حولها الى الغرفه والنافذة بنعاس وما كادت تنظر للستائر التى تتراقص بفعل الهواء حتى هرب النعاس وأفاقت وتوسعت حدقتيها وهى تتذكر كم الاعمال التى يجب ان تقوم بها اليوم نيابة عن أمها.
وقد هبت من سريرها على عجله من امرها وقد خرجت ترتب الاعمال كما اخبرتها امها وفهمتها وبدأت فى إعداد البيت لاستقبال الضيوف والمشترين وأخذت فى تغير ماء الغنم ووضع الطعام ومن ثم العمل على تلك الوصفات الطبيه المطلوبه منها ومن ثم اذ فجاةً بدأ الوافدون بالقدوم ولم ينفك أحد يستلم اغراضه حتى يسال عن خديجه تحكى نفس القصه لقرابة عشرة نساء وتجاوب على اسئلتهم المتشابهه وتقبل العزاء والدعاء للمتوفى بالراحة والمغفرة والرحمة ولها بالزوج الصالح وتضايف الجميع ومن تريد تعديل على ملابسها تحفظ تلك التعديلات ومنهم من لم تحضر وعليها أستقبالهن فى اليوم التالى فى نهايه اليوم عند غروب الشمس تذكرت انها لم تعد لنفسها طعام وقد تهاوت على الكرسى تنظر الى هذا الفراغ من حولها وكادت ان تبكى لا تعلم هل بسبب لتعب أم أنها اشتاقت إلى أمها وأخيها، أم لأنها قدرت مدى تعب أمها و أثرها على حياتها، أم لأن هذا اليوم المُتعب سيتكرر غدًا.
بحق لا تعلم وكل ما قالته بعد ان استردت وعيها من تلك الدوامه ” أريد أمى “.
—————————————————————————————————————————
آهً على مدريد و مجدها الفاني!
وقد كانت “مجريط ” كما سماها مسلموا الأندلس والعرب وهى مجرى الماء او مجرى الجليد اذا نظرت اليها ترى مجد امة ذهب وتناثر كتناثر الرماد فى ريحًا يوم لم تقم فيه صلاة الفجر فى بلاد الأندلس … يومًا يتباكى عليه الشعراء والفنانون والمسلمون فى كل يوم ومن كل حدبًا وصوبًا فها هو أحمد شوقي ينعى الفردوس المفقود قائلاُ: يا ارض اندلس الخضراء حينا اضعناكى فى زمن شقاوتنا .
و لسان الدين بن الخطيب العلامة و الفقية ينعى فقدانه لأندلسه ويناجى ربه السميع بكل المًا وحرقه قائلاً : فاعيدوا عهد انسًا قد مضى تعتقوا عبدكم من كربه .
وكيف لا وهناك اعينًا تسير فى الليل ترقب كل شئ فى المدين على فرسًا تتفتل فى احياء الجميله مدريد وها هى مرت من جانب كاتدرائية المُدينه وقد كان مسجد المُدينه ، وحديقة الأمير محمد بن عبد الرحمن الاوسط بانى مجريط ولو انهم أخذوني على فرسًا معهم لكحلت عيني بنظرة الى جمال بلاد ايبيريا !
وقد كسر على تلك اللحظة من الشجن التى أصابتنى وأصابت جدران المدينه الفاقدة لمجدها الغابر صوت همس فى هدوء ” الزى العسكري لائق بك يا حنا … اصبحت دوق بحق يا حافظ الامن … لا ينقصك سوى العروس كما تقول امى ” تفوه بتلك الكلمات بلايو اخو حنا الاكبر و قد كانا فى نزهه على خيولهم يتجولون فى احياء مدريد المتطرفه والبعيدة عن الاعين بعض الشئ ومن خلفهم حارس واحد للحمايه فقد كان هذا ترحيب صغير بحنا الذى عاد من الشمال بعد أن قضى على العصيان وأستتب الامن على يديه هناك ونال مرتبه عاليه من الملك والدولة و الكنيسة أيضًا ولله الحق قد أستحق هذا بجداره لما يقدمه من أعمال باسله .
لكن هذا الباسل مرهق بحق ويقلقه توغل الفرنس فى مدريد وفرد سطوتهم عليها .
ابتسم حنا فى هدوء قائلاً : شكرًا … كم اتمنى ان اراك فى صفوف الجنود معنا … ومع عروسك قبلى .
امال بلايو راسه ورفع يده باستسلام قائلاً : انا رجل سياسه لا حرب يكفينى هذا لا طاقة لى بالحرب … الحرب خدعة سيئة للغايه … ويكفينى ما اناله من الزواج وهمه ما احمل واطيق .
ضحك حنا فى سخريه ووكز رأس فرسه بخيله قائلاً : لو سمعك احد الجنود او بابا الكنيسه سنرى راسك يحلق غدًا فى سماء مدريد .
نظر له بلايو شرزًا قائلاً فى مرح خشن : راسك قبل راسى يا وغد … هيا ارينى قوة خيلك .
ثم فر من امام حنا هاربًا بخيله ومن خلفه حنا الذى يلاحقه بسرعه وتارة يسبقه بلايو وتاره هو وضحكاتهم تتعالى بمرح وصخب وسعادة حتى وصلا الى نقطة ما وقد كان الفائز بلايو وقد ضاق منه حنا الذى صاح فى حنق : انت تغش … لقد كنت اسبقك بكثير .
ابتسم بلايو فى غلظة و كبر وشماته ثم نظر اليه بفخر قائلاً : انها السياسة … تركت لك وقتًا حتى يتعب فرسك و يُنهك وما ان تعرق وتعب حتى صب فرسى كل قوته يا رجل الحرب .
وضع حنا يده على صدرة قائلاً بفخر : اذًا قصر الجواد لا الفارس .
————————————————————————————–
فى مساء احد الايام فى مريد وقد اشتد الليل وثقلت الجفان بالنعاس وبات الجميع فى هدوء وامتلأت السرائر بأهلها بمن شق عليهم عمل النهار وجد الظهيره و برد الليل الا جفنى حكمت فقد كانا على وسعهم ولم يغمرهم النوم للحظه وهى فى سرداب البيت تؤدى صلوات اليوم مجمعه خشيه من ان يراها احد و تلقى حدفها . وما ان انتهت حتى نظرت الى اعلى و كانها فى عالم اخر فسيح و ترفع يديها الى السماء تناجى الله بالخلاص والحرية التى تتمناها وتحلم فقط بها وبأن يعجل الله بفرجه عليها وعلى اسرتها وأن يأتى اليوم الذين سيهربون فيه من بين فكى محاكم التفتيش وأغلال الخوف و اصفاد المكر المحيط بهم من كل مكان .
مسحت دموعها ما ان فرغت من دعائها وعدلت حجابه بحيث يشابه غطاء الشعر المشابه لنساء اسبانيا وخرجت من السرداب وهى متوجهه الى مضجعها حتى استوقفها طرق على الباب الخلفى المواجه للحظيره الصغيرة وقد كان طرق بشع لا يُصف من شدته وبالتاكيد لا نحتاج لاستنتاج قد دب الرعب فى اوصالها و مازاد الطين بله ان الطارق اخذ فى استعطافها قائلاً بهلع : ارجوكم معى مصاب سيموت افتحوا الباب .
لطمت حكمت على وجنتيها وأخذت تدور حول نفسها فى توتر والطرق يشتد وكان الذى يطرق مُتيقن من ان احدًا ما فى البيت وما جعلها تحسم امرها الصراخ الذى بدأ فى التعالى عندما صاح الطارق بهلع قائلاً : ارجوكم اخى سيموت ارجوكم انقذوه ولكم ما تريدون فقط انقذوه .
زفرت بهدوء وقوة ثم حزمت امرها وفتحت الباب وياليتها لم تفتحه ، اذا برجلين احدهم فى الثلاثين من عمره وهو المصاب والأخر فى الخمسين من عمره وقد بدا الشيب يخط راسه وكانا يحملان فوق رؤسهما شعر كثيف بنى اللون و لحيه مثلها والمصاب يبدو أصغر سنًا من حامله وقد كان الاول يرتدى زي عسكرى ومن رتبه عاليه والأخر يرتدى ملابس فخمه من ملابس النبلاء ولكن ملوثه بالدماء وكذلك وجوههم مخبضه بالدماء والكدمات البنفسجية وبالتأكيد كانا فى حرب و ما تراه الان اقل الخسائر وفى خصر الحامل سيف فى غمدة مرصع باحجار كريمه .
افسحت الطريق وقد ساعدته على حمل المصاب الى أقرب غرفه وهى غرفة اخيلا ومددوه على السرير.
هرولت تحضر شموع تملا بها الغرفه المظلمه حتى ترى الجرح وقد بدأت فى تحسس الجرح الواقع فى بطنه ولم يكن عميقًا لكنه فقد الكثير من الدماء وكان غائبًا عن الوعى .
ألتفتت الى هذا الواقف قائله فى هلع : من انتم وماذا حدث ؟ انا لا أريد أى مشاكل .
امسك بيدها باستعطاف قائلاً برجاء : ارجوكى انقذيه وساخبرك بكل شئ فقط انقذى اخى .
سحبت يدها من يده وهرولت الى المطبخ تسخن قدر من الماء وعقمت سكين فى الماء الساخن وأخذت القهوه الجافه المطحونه وذهبت الى غرفتها تحضر قطن نظيف ثم عادت الى الغرفه وأزاحت من طريقه هذا الرجل الذى يجلس على ركبته امام المصاب قائله فى نفاذ صبر : ابتعد هيا … وأحضر الماء الساخن ووابور الناروالسكين بسرعه هيا .
أمتثل الى امرها بالفعل وهرول يحضر ما امرت به وقد كانت توقف النزيف بالبن الجاف وتمسح الدماء حتى يتبين حجم الجرح وهو يقف بتوتر فى الزاويه يكاد يبكى مثل الاطفال خوفًا على اخيه وهو يتابعها والوقت ينقضى حتى قامت بكى الجرح بالنار حتى التحم جرحه اخيرًا وأخذت فى لفلفة الجرح وتضميده وما أن انتهت حتى زفرت بهدوء ثم باشرت العمل على ندبات وجروح وجهه حتى داوتها.
ثم همت بالخروج من الغرفه الصغيره بارجل مرتعشه متثاقله وقد تلوثت ثيابها بالدماء وجلست على أقرب كرسى بتثاقل وارهاق وهى لاول مره توضع فى مثل تلك التجربه التى اثبتت فيها انها ذات جسارة هى لم تتخيلها ، ولكن الوقت ليس للفخر أو الجساره بل وقت الاستفسار والفهم .
رفعت راسها ونظرت الى هذا الرجل الذى جلس على اقرب كرسى هو الاخر وقد سالته فى حزم وسائم : من انتم ؟
مسح الرجل وجهه بكفه فى محاوله بأسه للصمود و الهدوء قائلاً : نحن من… من جنود الكنيسة !
و لا حاجه للشرح فانا و انتم تعلمون رد فعل حكمت فى المرة القادمه سأسرد ذلك.
فى امقبل ستة اشهر من الان فى العام 1820 وفى صباح أحد ايام الشتاء القارص فى الفردوس المفقودة عادت الاسرة الصغيرة من أحد اسواق مدريد المزدحمة بالإسبان ولفيف من الجنود الفرنسين بعد ان اشترى كلاً منهم ما يحتاجه ويحتاج البيت.
وقد كانت حكمت تلاعب طارق آن ذاك وهو يحمل بعض الحقائب وحكمت بيدها سله من القش متوسطة الحجم وضعت بها بعض الاعشاب والعطارة الخاصة بالوصفات الطبية التى تصنعها وتقتات على ما تدُرها عليها وعلى أسرتها من اموال .
وإلى جانبهم خديجه التي ضيقت جفونها في تشكيك بصحة بصرها حول هوية الواقف امام باب بيتها ، ولكن لا بصرها سليم بعد ان صاح طارق وهو يشير الى باب البيت قائلاً بحماس : أمي هذا اثانيوس .
هزت راسها بنعم وقد دُهشت بشدة وأخذت فى تبادل الانظار مع حكمت في دهشه وحيرة من الأمر وتلك أول مره يأتي فيها ابن اخيها اثانيوس -” عثمان” -الى بيتها من اقصى الجنوب من غرناطة الى قلب اسبانيا مدريد مع العلم أن اثانيوس ليس بالغلام أو الصبى بل شاب في الثلاثين من عمره ولديه ثلاثة اطفال لكن الطريق بعيدة ووعرة في ظروف الاحتلال تلك .
وقد فضلت خديجه الاخذ به الى داخل البيت أفضل وهى تشعر أن الجميع يحملق في هذا الغريب عليهم وقد دخلوا جميعًا و افرغوا ما بيدهم وهى نظره واحده في عيونهم الدهشة والريبة !
ولكن اثانيوس ليس على ما يرام قد يكون اجهاد السفر ولكن وجهه مسود وتظهر عليه أثار العصبية نتيجة ضيق ما في صدره . وعلى العكس تمامًا من شخصيته المرحة المعتادة فقد اقبل على عمته و صافحها بهدوء و كذلك حكمت و طارق .
وما ان فرغ حتى نظرت له اليزبيث فى شك قائله : ما الامر هل الجميع بخير هل ابوك بخير؟ لا تثر ريبتي.
طأطأ اثانيوس راسه وهزها بنفى قائلاً بأسف : لا عمتى … ابى بخير … لكن جدى فى السماء .
لطمت خديجه _اليزبيث _ صدرها بعنف وصرخت بقوة قائله فى نواح عالٍ مقهور : ابى …ابى مات … منذ متى … وكيف؟!
ثم جلست على اقرب كرسي وأخذت فى البكاء بقهر و حرقه وهى على كلمة واحده : ابى … لقد كنت اريد رايته … لما لم ينتظر … لما رحل وتركني … ابى؟!
وقد نظر اثانيوس لها بشفقه ولحكمت _جوليانا _ و طارق _ اخيلا_ فى خجل من هذا الجو السلبى الذى نشرة فى البيت ولكن الموت حقًا مكروة ولا بد منه حتى ولو طال الزمن سيأتي سيأتي لا محال .
جلست حكمت على ركبتيها وأخذت راس خديجه الى صدرها وأخذت فى ترويح عنها وكفكفت دموعها و بطت على ظهرها فى مواساه هادئه حتى لا تمرض من الانفعال والحزن وقد أقبل عثمان وبيده كوب من عصير الليمون وبه عشبة العُصفر ليُزيل عنها التوتر والهلع ومن خلفهم طارق الذى اغلق النوافذ وشد الستائر بأمر من حكمت حتى لا ياتى احد الجيران اليهم وهى فى تلك الحالة لبائسه .
وبشق الانفس وصعوبة بالغه قبلت أن ترتشف العصير وعلى مدار اكثر من ساعة وهى تشعر بان كل رشفه كالعلقم المرير فى حلقها وما أن انتهت حتى تحدثت حكمت بهدوء قائله وهى تمسك بكفيها وما تزال على ركبتيها امامها وعلى شفتيها ابتسامه مشجعه : أمى أمر من الرب ونفذ ليس بيدنا شئ الان أهدئى واسمعى ما يريد اثانيوس قوله .
ثم اتجهت الى كرسى بجوارها وقد هزت خديجه راسها التى يعصف بها الدوار بصعوبه ورفعت عينيها ذات الجفان المتثاقله ونظرت الى اثانيوس الذى تحدث بهدوء قائلاً : ليلة امس غادر جدى الى السماء ولم يدفن بعد… برغبه منه أن يدفن فى وجودك ووجود ابى و عمى الفريد … وما ان تنتهى مراسم الجنازه … جدى وكل لابى امر تقسيم اراضيه وميراثه بعد وفاته بأسبوع فوجودك مهم فى غرناطه الامر لن ياخذ سوى اسبوعين على الاقل … وستاتين معى وقد اجرت لكى ركوبًا تنتظر فى أى وقت .
قلبت الامر فى راسها ولكنها لا تأمن على ترك طارق الصغير وحده مع حكمت اسبوعين وفى نفس الوقت اعملها تحتاج الى ان تُسلم فى معادها وظروف الحرب تلك تجعلها لا تأمن على سفر حكمت فى هذه الاجواء ولكن ماذا تفعل الان وكل الامور تتعقد وتتشابك ؟ مسحت علة جبهتها براحة يدها قائله فى تعب : انا أوكل ابيك والفريد عنى ألا يمكننى قضاء العزاء والعودة لمدريد لا يمكنني ترك اخيلا هنا وحده ولا يمكنني استحطاب حكمت والجنود تملئ حدود المدن . وهناك بعد الاعمال التى ستُسلم غدًا… هل تفهمنى ؟
هز اثانيوس راسه بنعم واستطرد قائلاً : الحق كله معكى لكن هذه وصية جدى ولن تنفذ من دونك الامر متوقف كله عليكى .
زفرت خديجه فى ضيق وأغمضت عينيها بإرهاق وأخذت حكمت تلاعب اصابعها فى توتر وهى تحاول إيجاد حل ولكن عجزت عن التفكير فى حل مرضى لجميع الاطراف وقد اثقلت وجنتها اليمنى على راحت يدها اليمنى فى ياس من ايجاد حل .
ولكن خرج شعاع نور وأمل من اصغرهم عندما تحدث طارق بحماس قائلاً : اذهب مع امى واثانيوس وجوليانا تظل فى المنزل وتعمل .
ابتسم اثانيوس و صفق بحماس قائلاً : لما لم نفكر فى ذلك … نذهب الى غرناطه وجوليانا تظل هنا تسلم الاعمال عنكى وتبقى فى مأمن هنا وإن احتاجت شئ بيت العم جورج موجود، لا يبعد كثيرًا عنها والجيران هنا كلهم يعرفونكم ولن تكون ازمه، ما رايكم؟
أمالت حكمت راسها ونظرت الى خديجه قائله : ليس لدى اى مشكله فى هذا … ما رايك يا امي.
الآن أمك ليس لديها حل اخر ولا مجال للرفض ستوافق بالتأكيد و هى ترى تلك النظره المتأملة و الراجية من الجميع تحثها على الموافقه مرغمه وهزت راسها على مضد قائله : فقط اسبوعين لا اكثر .
زفر الجميع براحه وهدوء وأمسك عثمان براس طارق تحت ابطه وبدأ باللعب فى شعره قائلاً بمرح : انقذتنا يا عبقري .
—————————————————————————————
عند شروق الشمس الذهبيه على سماء شبه الجزيرة الايبيريا استيقظت ذات الشخصيه المزدوجه فى وقتها كالعادة و اخذت فى حك شعرها الكثيف بنعاس غالب وهى تنظر حولها الى الغرفه والنافذة بنعاس وما كادت تنظر للستائر التى تتراقص بفعل الهواء حتى هرب النعاس وأفاقت وتوسعت حدقتيها وهى تتذكر كم الاعمال التى يجب ان تقوم بها اليوم نيابة عن أمها.
وقد هبت من سريرها على عجله من امرها وقد خرجت ترتب الاعمال كما اخبرتها امها وفهمتها وبدأت فى إعداد البيت لاستقبال الضيوف والمشترين وأخذت فى تغير ماء الغنم ووضع الطعام ومن ثم العمل على تلك الوصفات الطبيه المطلوبه منها ومن ثم اذ فجاةً بدأ الوافدون بالقدوم ولم ينفك أحد يستلم اغراضه حتى يسال عن خديجه تحكى نفس القصه لقرابة عشرة نساء وتجاوب على اسئلتهم المتشابهه وتقبل العزاء والدعاء للمتوفى بالراحة والمغفرة والرحمة ولها بالزوج الصالح وتضايف الجميع ومن تريد تعديل على ملابسها تحفظ تلك التعديلات ومنهم من لم تحضر وعليها أستقبالهن فى اليوم التالى فى نهايه اليوم عند غروب الشمس تذكرت انها لم تعد لنفسها طعام وقد تهاوت على الكرسى تنظر الى هذا الفراغ من حولها وكادت ان تبكى لا تعلم هل بسبب لتعب أم أنها اشتاقت إلى أمها وأخيها، أم لأنها قدرت مدى تعب أمها و أثرها على حياتها، أم لأن هذا اليوم المُتعب سيتكرر غدًا.
بحق لا تعلم وكل ما قالته بعد ان استردت وعيها من تلك الدوامه ” أريد أمى “.
—————————————————————————————————————————
آهً على مدريد و مجدها الفاني!
وقد كانت “مجريط ” كما سماها مسلموا الأندلس والعرب وهى مجرى الماء او مجرى الجليد اذا نظرت اليها ترى مجد امة ذهب وتناثر كتناثر الرماد فى ريحًا يوم لم تقم فيه صلاة الفجر فى بلاد الأندلس … يومًا يتباكى عليه الشعراء والفنانون والمسلمون فى كل يوم ومن كل حدبًا وصوبًا فها هو أحمد شوقي ينعى الفردوس المفقود قائلاُ: يا ارض اندلس الخضراء حينا اضعناكى فى زمن شقاوتنا .
و لسان الدين بن الخطيب العلامة و الفقية ينعى فقدانه لأندلسه ويناجى ربه السميع بكل المًا وحرقه قائلاً : فاعيدوا عهد انسًا قد مضى تعتقوا عبدكم من كربه .
وكيف لا وهناك اعينًا تسير فى الليل ترقب كل شئ فى المدين على فرسًا تتفتل فى احياء الجميله مدريد وها هى مرت من جانب كاتدرائية المُدينه وقد كان مسجد المُدينه ، وحديقة الأمير محمد بن عبد الرحمن الاوسط بانى مجريط ولو انهم أخذوني على فرسًا معهم لكحلت عيني بنظرة الى جمال بلاد ايبيريا !
وقد كسر على تلك اللحظة من الشجن التى أصابتنى وأصابت جدران المدينه الفاقدة لمجدها الغابر صوت همس فى هدوء ” الزى العسكري لائق بك يا حنا … اصبحت دوق بحق يا حافظ الامن … لا ينقصك سوى العروس كما تقول امى ” تفوه بتلك الكلمات بلايو اخو حنا الاكبر و قد كانا فى نزهه على خيولهم يتجولون فى احياء مدريد المتطرفه والبعيدة عن الاعين بعض الشئ ومن خلفهم حارس واحد للحمايه فقد كان هذا ترحيب صغير بحنا الذى عاد من الشمال بعد أن قضى على العصيان وأستتب الامن على يديه هناك ونال مرتبه عاليه من الملك والدولة و الكنيسة أيضًا ولله الحق قد أستحق هذا بجداره لما يقدمه من أعمال باسله .
لكن هذا الباسل مرهق بحق ويقلقه توغل الفرنس فى مدريد وفرد سطوتهم عليها .
ابتسم حنا فى هدوء قائلاً : شكرًا … كم اتمنى ان اراك فى صفوف الجنود معنا … ومع عروسك قبلى .
امال بلايو راسه ورفع يده باستسلام قائلاً : انا رجل سياسه لا حرب يكفينى هذا لا طاقة لى بالحرب … الحرب خدعة سيئة للغايه … ويكفينى ما اناله من الزواج وهمه ما احمل واطيق .
ضحك حنا فى سخريه ووكز رأس فرسه بخيله قائلاً : لو سمعك احد الجنود او بابا الكنيسه سنرى راسك يحلق غدًا فى سماء مدريد .
نظر له بلايو شرزًا قائلاً فى مرح خشن : راسك قبل راسى يا وغد … هيا ارينى قوة خيلك .
ثم فر من امام حنا هاربًا بخيله ومن خلفه حنا الذى يلاحقه بسرعه وتارة يسبقه بلايو وتاره هو وضحكاتهم تتعالى بمرح وصخب وسعادة حتى وصلا الى نقطة ما وقد كان الفائز بلايو وقد ضاق منه حنا الذى صاح فى حنق : انت تغش … لقد كنت اسبقك بكثير .
ابتسم بلايو فى غلظة و كبر وشماته ثم نظر اليه بفخر قائلاً : انها السياسة … تركت لك وقتًا حتى يتعب فرسك و يُنهك وما ان تعرق وتعب حتى صب فرسى كل قوته يا رجل الحرب .
وضع حنا يده على صدرة قائلاً بفخر : اذًا قصر الجواد لا الفارس .
————————————————————————————–
فى مساء احد الايام فى مريد وقد اشتد الليل وثقلت الجفان بالنعاس وبات الجميع فى هدوء وامتلأت السرائر بأهلها بمن شق عليهم عمل النهار وجد الظهيره و برد الليل الا جفنى حكمت فقد كانا على وسعهم ولم يغمرهم النوم للحظه وهى فى سرداب البيت تؤدى صلوات اليوم مجمعه خشيه من ان يراها احد و تلقى حدفها . وما ان انتهت حتى نظرت الى اعلى و كانها فى عالم اخر فسيح و ترفع يديها الى السماء تناجى الله بالخلاص والحرية التى تتمناها وتحلم فقط بها وبأن يعجل الله بفرجه عليها وعلى اسرتها وأن يأتى اليوم الذين سيهربون فيه من بين فكى محاكم التفتيش وأغلال الخوف و اصفاد المكر المحيط بهم من كل مكان .
مسحت دموعها ما ان فرغت من دعائها وعدلت حجابه بحيث يشابه غطاء الشعر المشابه لنساء اسبانيا وخرجت من السرداب وهى متوجهه الى مضجعها حتى استوقفها طرق على الباب الخلفى المواجه للحظيره الصغيرة وقد كان طرق بشع لا يُصف من شدته وبالتاكيد لا نحتاج لاستنتاج قد دب الرعب فى اوصالها و مازاد الطين بله ان الطارق اخذ فى استعطافها قائلاً بهلع : ارجوكم معى مصاب سيموت افتحوا الباب .
لطمت حكمت على وجنتيها وأخذت تدور حول نفسها فى توتر والطرق يشتد وكان الذى يطرق مُتيقن من ان احدًا ما فى البيت وما جعلها تحسم امرها الصراخ الذى بدأ فى التعالى عندما صاح الطارق بهلع قائلاً : ارجوكم اخى سيموت ارجوكم انقذوه ولكم ما تريدون فقط انقذوه .
زفرت بهدوء وقوة ثم حزمت امرها وفتحت الباب وياليتها لم تفتحه ، اذا برجلين احدهم فى الثلاثين من عمره وهو المصاب والأخر فى الخمسين من عمره وقد بدا الشيب يخط راسه وكانا يحملان فوق رؤسهما شعر كثيف بنى اللون و لحيه مثلها والمصاب يبدو أصغر سنًا من حامله وقد كان الاول يرتدى زي عسكرى ومن رتبه عاليه والأخر يرتدى ملابس فخمه من ملابس النبلاء ولكن ملوثه بالدماء وكذلك وجوههم مخبضه بالدماء والكدمات البنفسجية وبالتأكيد كانا فى حرب و ما تراه الان اقل الخسائر وفى خصر الحامل سيف فى غمدة مرصع باحجار كريمه .
افسحت الطريق وقد ساعدته على حمل المصاب الى أقرب غرفه وهى غرفة اخيلا ومددوه على السرير.
هرولت تحضر شموع تملا بها الغرفه المظلمه حتى ترى الجرح وقد بدأت فى تحسس الجرح الواقع فى بطنه ولم يكن عميقًا لكنه فقد الكثير من الدماء وكان غائبًا عن الوعى .
ألتفتت الى هذا الواقف قائله فى هلع : من انتم وماذا حدث ؟ انا لا أريد أى مشاكل .
امسك بيدها باستعطاف قائلاً برجاء : ارجوكى انقذيه وساخبرك بكل شئ فقط انقذى اخى .
سحبت يدها من يده وهرولت الى المطبخ تسخن قدر من الماء وعقمت سكين فى الماء الساخن وأخذت القهوه الجافه المطحونه وذهبت الى غرفتها تحضر قطن نظيف ثم عادت الى الغرفه وأزاحت من طريقه هذا الرجل الذى يجلس على ركبته امام المصاب قائله فى نفاذ صبر : ابتعد هيا … وأحضر الماء الساخن ووابور الناروالسكين بسرعه هيا .
أمتثل الى امرها بالفعل وهرول يحضر ما امرت به وقد كانت توقف النزيف بالبن الجاف وتمسح الدماء حتى يتبين حجم الجرح وهو يقف بتوتر فى الزاويه يكاد يبكى مثل الاطفال خوفًا على اخيه وهو يتابعها والوقت ينقضى حتى قامت بكى الجرح بالنار حتى التحم جرحه اخيرًا وأخذت فى لفلفة الجرح وتضميده وما أن انتهت حتى زفرت بهدوء ثم باشرت العمل على ندبات وجروح وجهه حتى داوتها.
ثم همت بالخروج من الغرفه الصغيره بارجل مرتعشه متثاقله وقد تلوثت ثيابها بالدماء وجلست على أقرب كرسى بتثاقل وارهاق وهى لاول مره توضع فى مثل تلك التجربه التى اثبتت فيها انها ذات جسارة هى لم تتخيلها ، ولكن الوقت ليس للفخر أو الجساره بل وقت الاستفسار والفهم .
رفعت راسها ونظرت الى هذا الرجل الذى جلس على اقرب كرسى هو الاخر وقد سالته فى حزم وسائم : من انتم ؟
مسح الرجل وجهه بكفه فى محاوله بأسه للصمود و الهدوء قائلاً : نحن من… من جنود الكنيسة !
و لا حاجه للشرح فانا و انتم تعلمون رد فعل حكمت فى المرة القادمه سأسرد ذلك.
فى امان الله.
—————————————————————————————
رايكم ايه؟ان الله.
—————————————————————————————
رايكم ايه؟