روايات كاملةكل الروايات

رواية انت لي الحلقة 50

رواية انت لي الحلقة 50

ونحن نسير نحو غرفة المجلس سمعنا صوت انغلاق باب قوي.. اقشعرت له الجدران والثريات!
ابنتا عمي كانتا تتعاونان في حمل حقيبة سفري وأنا أسير بعكازي حاملة حقيبة يدي على كتفي إلى أن وصلنا إلى الباب.. الاثنتان عانقتاني وودعتاني وابتعدتا..
طرقت الباب الداخلي لغرفة المجلس بهدوء ثم فتحته وأطللت بعيني في شوق لرؤية وليد قلبي..
مسحت الغرفة بعيني وطولا وعرضا وارتفاعا.. ولم أعثر على وليد!
لكني رأيت إحدى الطاولات مقلوبة والتحف الزجاجية مكسورة على الأرض!
ورأيت خالتي تقف عند الباب الخارجي للمجلس, ثم رأيت حسام يدخل وهو يسأل:
“ماذا حدث؟؟”
وسمعت خالتي تسأله:
“هل خرج؟”
قال حسام:
“ضربني بيده وخرج! ماذا حل بهذا الرجل بحق السماء؟”
قالت خالتي وهي تغلق الباب وتقفله بعد دخول حسام:
“لا أعرف ممن ورث هذا المتعجرف غلظته! لا ياسر ولا شاكر رحمهما الله ولا سامر يحفظه الله فيهم شيء من الفظاظة.. بل هم في منتهى التهذيب واللطف والهدوء.. أما هذا.. أعوذ بالله! متوحش وأخرق… انظر ماذا فعل؟”
وهي تشير إلى الأرض…
رواية انت لي الحلقة 50
فتحت أنا الباب وتقدمت إلى الداخل في قلق وتساؤل… وأخذت أحدق في خالتي وأسأل:
“ماذا حدث؟”
وكان وجه خالتي يتقد احمرارا فرمقتني بنظرة صامتة ثم انحنت إلى الأرض ترفع قطع الزهرية المكسورة.
عدت وسألت:
“أين وليد؟”
أجابت وهي لا تنظر إلي:
“غادر”.
ماذا؟؟ غادر؟؟ ماذا تعنين بغادر؟؟
سألتها:
“غادر؟؟”
قالت بغضب:
“نعم غادر.. عسى ألا يعود”.
هتفت بقوة:
“أعوذ
قالت وهي ترفع نظرها إلي وتتكلم بعصبية:
“إنه مجنون… لا يعرف حدود نفسه.. يظننا سنتركه يتصرف كيفما يريد.. متسلط فظ وعنيف.. من أين أتى بكل هذه العجرفة والوحشية؟”
حسام عقب مباشرة:
“من السجن قطعا”.
رواية انت لي الحلقة 50
اشتططت غضبا وانفجرت بشدة:
“لا تتحدثا عن وليد هكذا… لا أسمح لكما..”
ثم تقدمت نحوهما وقلت:
“أخبراني ماذا حصل؟؟”
قال حسام:
“ألا ترين؟”
مشيرا للطاولة المقلوبة على الأرض.. والزجاج المتناثر حولها…
قلت:
“وليد فعل هذا؟”
ووجهت خطابي لخالتي التي لا تزال جاثية على الأرض تلملم ما تبعثر..
“لكن لماذا؟؟ ماذا حدث؟؟ هل تشاجرت معه؟”
خالتي وضعت ما بيدها جانبا ووقفت وقالت:
“نعم تشاجرت معه.. وغضب وصرخ في وجهي وقلب الدنيا رأسا على عقب وخرج ثائرا كالبركان”.
قلت بسرعة:
“ماذا قلت له؟ هل أهنته ثانية؟؟ خالتي..!! إلى أين ذهب الآن؟”
ردت بحدة:
“إلى حيثما ذهب… بلا رجعة”.
رواية انت لي الحلقة 50
هتفت منفعلة:
“بعد ألف شر… خالتي لا تقولي هذا ثانية يكفي أرجوك”.
وعمدت إلى حقيبة يدي واستخرجت هاتفي واتصلت بهاتف وليد..
كان الهلع ينخر رأسي بشراسة وما إن رن الهاتف حتى كان قد أتى على قواي الذهنية كاملة…
الهاتف رن مرة ثم مرة أخرى ثم انقطع الاتصال.. عاودت الاتصال فوجدت الهاتف مغلقا.. كررت الاتصال عدة مرات.. الهاتف ظل مغلقا..
قلت أخاطب خالتي:
“أغلق هاتفه”.
ثم سرت نحو هاتف المنزل الموضوع على منضدة في الجوار واتصلت برقم وليد مرات أخرى.. دون جدوى..
قلت بعصبية:
“الهاتف مغلق يا خالتي ماذا قلت له؟”
خالتي تنهدت ثم قالت:
“اعترضت على سفرك معه”.
صدمت.. حملقت فيها مندهشة وسألت:
“ماذا؟؟ لكن لماذا؟؟ تعرفين أنه آتٍ لأخذي فماذا تغير؟”
قالت خالتي وقد عاد الانفعال على وجهها:
“لن أسمح له بأخذك معه يا رغد… ستبقين معي وتحت عيني.. سأضع حدا لجنون هذا المتسلط”.
تركتني خالتي في إعصار الحيرة والهلع واشتغلت بتنظيف وترتيب الطاولة وما حولها متجاهلة تساؤلاتي… مما زادني يقينا فوق يقين بأن ما حصل كان أمرا خطيرا…
“خالتي أرجوك أفهميني ماحدث؟؟ ماذا فعل؟ ماذا قلت له؟؟ بالله عليك أخبريني”.
وهذه المرة حسام ساندني وقال:
“أخبرينا بما حدث يا أمي؟”
خالتي قالت أخيرا:
“تصورا.. كان يريد أخذ رغد بمفردها إلى بيته! دون خطيبته ولا والدتها..! يظن أن الوصاية كافية لتجعله مثل أبيها.. يقيم معها بمفرده أينما يريد”.
هتف حسام مستنكرا:
“ماذا ماذا؟؟ يقيم معها بمفرده هكذا بكل بساطة؟؟ يا سلام! من يظن ذلك المعتوه نفسه ؟؟”
خالتي قالت:
“وبكل جرأة يخبرني بأن خطيبته لن تسافر معه.. بلا حياء ولا لياقة.. ولما اعترضت ثارت ثائرته وزلزل المنزل.. وقلب الطاولة بالتحف… المجنون!”
تسمرت في مكاني مصعوقة بما أسمع.. ثم قلت:
“لكن.. لكن.. إنه.. إنه الوصي علي”.
قالت خالتي بغضب:
“الوصي عليك شيء وأن يقيم معك بمفردكما في بيته شيء آخر…”
قلت مذهولة:
“خالتي!! إنه ابن عمي”.
رواية انت لي الحلقة 50
ردت مقاطعة:
“وحتى لو كان ابني… مجنونة أنا كي أدعك تقيمين بمفردك مع رجل غريب؟ حتى لو كان حسام أو أبا حسام.. هذا ما كان ينقصنا.
قلت وأنا في ذهولي:
“ألا… تثقين به؟”
ردت:
“أثق بمن؟؟ بهذا؟؟”
وهي تشير إلى موضع الطاولة… ثم أضافت:
“المتوحش المتعجرف خريج السجون؟؟”
عندها صرخت من أعماق قلبي:
“يكفي… يكفي… لا تتحدثي عنه هكذا… لا أسمح لكم بإهانته… لا أقبل أن تصفوه بهذا… أنتم لا تعرفون شيئا…”
والتقطت السماعة واتصلت من حديد وللأسف كان هاتف وليد مغلقا… أعدت الاتصال مرة ومرتين ومئة.. والهاتف لا يزال مغلقا…
ياإلهي.. وليد قلبي غاضب ولا يريد التحدث معي؟؟
نظرت إلى الساعة.. الوقت يمر ومن المفترض أن نكون في الطريق إلى المطار…
اتصلت بهاتف سامر ولما رد علي قلت باضطراب:
“هل وليد معك أو اتصل بك؟؟”
استغرب سامر السؤال فسألني:
“لا! غادر منذ الظهيرة… أليس في المزرعة؟؟”
قلت بتوتر:
“كان هنا في بيت خالتي ليصطحبني إلى المطار, لكنه غادر من دوني.. أتصل به ولكنه مغلق هاتفه.. أرجوك حاول التصال به وبالمزرعة واطلب منه مهاتفتي فورا…”
سألني وقد تجلى القلق في نبرته:
“هل حدث شيء يا رغد؟؟”
نظرت نحو خالتي وأجبت:
“تشاجر مع خالتي.. لكن أرجوك قل له أن يتصل للضرورة”.
صمت سامر لحظة ثم قال:
“حسنا”.
رواية انت لي الحلقة 50
وأنهيت المكالمة وبقيت جالسة على الجمر المتقد أنتظر اتصال سامر, وهاتف المنزل وهاتفي المحمول كلاهما في حظني… فيما عيناي محملقتان في ساعة يدي…
مرت الدقائق تلحق بعضها بعضا… والهاتفان لا يرنان…
لم أطق صبرا حاولت الاتصال بوليد دون جدوى واتصلت بسامر فقال إنه لم يجده في المزرعة وأن هاتفه المحمول مغلق طوال الوقت…
في هذه اللحظة حضر زوج خالتي وعلم بما حصل وبدوره صار يحاول الاتصال بوليد عبر هاتفه بلا فائدة…
مضى الوقت.. ولا من خبر من أو عن وليد..
نبضات قلبي آخذة في التباطؤ.. أطرافي ترتجف خوفا وقلقا..
أنظاري متمركزة على الهاتفين وعلى الساعة.. والآن لم تعدعيناي بقادرتين على الرؤية… الضباب كثيف.. لا بل هي قطرات الندى.. لا بل الدموع… تريد الانطلاق من محجري…
وبعد ما يفوق الساعة… رن هاتفي المحمول… نظرت إلى الشاشة فرأيت اسم سامر…
أجبت بسرعة:
“نعم سامر هل كلمته؟؟”
قال:
“كلا.. إنني الآن عند باب المنزل”.
“المنزل؟”
“أعني منزل خالتك… هل حسام هناك؟”
وطلبت من حسام الذهاب لاستقبال سامر… غادرت خالتي المجلس وعاد حسام مع سامر… والأخير بدأ التحية والسؤال عن الأحوال ثم سألني مباشرة:
“ماذا حدث؟؟”
قلت بشكل غير مرتب:
“خرج غاضبا… إنها خالتي… إنه موعد إقلاع الطائرة… هل سافر بدوني؟؟”
رآى سامر اضطرابي فحاول تهدئتي ثم قال:
“لن يفعل ذلك… لكن أخبريني ما الذي حدث بالضبط؟”
قلت منفعلة:
“خالتي تشاجرت معه… إنها يقسون عليه ولا يحترمونه ولا يثقون به”.
أبو حسام قال مدافعا:
“ليس الأمر كذلك لا سمح الله.. أنه ابننا مثل حسام ومثلك يا سامر ولكن أم حسام جن جنونها مذ رأت الفتاة بالعكاز والجبيرة… تعرف كم تحب ابنة أختها وتقلق عليها ولا تريدها أن تبتعد عنها”.
قلت بغضب:
“لكن لا ذنب لوليد فيما حصل لي… لماذا تنظرون إليه هكذا؟؟ إنه يعتني بي جيدا ويعاملني بكل احترام وحنان وأدب… وأنا لا أسمح…لا أسمح..”
رواية انت لي الحلقة 50
وأخذت شهيقا باكيا ثم زفرت نفسي مع دموعي:
“لا أسمح لأحد بأن يهينه… ولا أقبل بأن ينعته أحد بالمجرم… أنتم كلكم قساة… كلكم بلا مشاعر… كلكم ظالمون”.
انخرطت في بكاء لم أبك مثله أمام أحد مسبقا… غير نهلة…
الثلاثة… سامر وحسام وأبوه التزموا الصمت للدقائق الأولى… ثم تحدث سامر مخاطبا الآخرين:
“بعد إذنكما… هل لي بحديث خاص مع ابنة عمي؟”
وشعرت بهما يغادران… ثم شعرت بسامر يقترب مني وسمعته يناديني…
مسحت دموعي ونظرت إيه فقال:
“أفهميني يا رغد… ما الذي يدور ها هنا؟؟”
قلت مقاطعة:
هل تعتقد أنه سافر؟”
سامر قال:
“لا. كيف سيسافر ويتركك؟”
قلت:
“إذن لماذا أقفل هاتفه؟؟ انظر إلى الساعة.. لا شك أن الطائرة قد أقلعت منذ فترة…”
ولمعت في رأسي فكرة فقلت:
“اتصل بالمطار وأسأل عنه”.
وأنا أراقب سامر وهو مشغول بطلب الرقم تلو الآخر… سمعته أخيرا يتحدث إلى الطرف الآخر باهتمام, ثم شكره وأغلق الهاتف…
رواية انت لي الحلقة 50
نظر إلي وعيناي متعلقتان به بلهفة… ثم قال:
“يبدو… أنه سافر بالفعل يا رغد”.
“سافر؟!”
قال سامر:
“الموظف أكد لي أن اسم وليد شاكر جليل… أدرج مع قائمة أسماء المسافرين الذين ركبوا الطائرة المتجهة إلى الجنوب”.
نظرت إليه بتشتت… بضياع بعدم تركيز.. بعدم تصديق.. بانهيار..
“لا!”
سامر كان ينظر إلي بقلق وخوف…
قلت:
“وأنا؟؟”
لا زال سامر ينظر إلي.. والتعاطف ينبثق من نظراته…
كررت:
“وأنا؟؟ ماذا عني أنا؟”
سامر قال:
“وليد لن يفعل شيئا كهذا لسبب تافه… أخبريني ماذا حصل بالتفصيل يا رغد”.
قلت وأنا أنهار:
“لا أعرف.. أخبروني بأنه وصل.. فأتيت إلى هنا ولم أجده.. رحل فجأة.. تشاجر مع خالتي في دقائق معدودة.. وغادر غاضبا.. خالتي أهانته.. لا أعرف ما قالت بالضبط لكنها عارضت سفري معه بدون الشقراء.. لا بد أنها رمته بألفظ قاسية.. إنها تكرهه ولا تثق به.. تعيّره بالمجرم.. وتنعته بالمتوحش وخريج سجون.. وكلمات جارحة ومهينة… آه يا إلهي.. وليد لا يستحق هذا..”
وأخفيت وجهي خلف يدي اليسرى من مرارة الموقف.. وعصرت عيني دموعا شجية…
أحسست بشيء يلامس يدي ففتحت عيني ورأيت منديلا تمده يد سامر نحوي..
“هوني عليك يا رغد”.
قال سامر مواسيا..
رواية انت لي الحلقة 50
أخذت المنديل ومسحت دموعي ثم قلت:
“ماذا أفعل الآن؟”
قال سامر مطمئنا:
“عندما يصل إلى المنزل سنهاتفه… لا بد أنه كان غاضبا… لكنه سيهدأ”.
قلت بلهفة:
“هل تظن أنه سيعود؟”
قال:
“بل أنا على يقين من ذلك.. اطمئني..”
ثم أطرق برأسه إلى الأرض وشرد قليلا… ثم قال:
“لم أكن أعلم بأنهم يسيئون إلى أخي…”
نظرت إليه فإذا بالاستياء البالغ يعشش على قسمات وجهه وإذا بكفيه ينقبضان بشدة غضبا…
نظر إلي وألقى علي سؤالا:
“أأنت من أخبرهم عن سجنه؟؟”
أطرقت برأسي… وأومأت نفيا… وكانت نظرات الاتهام تشع في عينيه… وقبل أن أتكلم سمعنا صوت خالتي تلقي بالتحية وهي تطل علينا عند الباب… التفتنا إليها فإذا بها تقبل يتبعها حسام يحمل صينية أكواب الشاي…
وبعد حوار سريع وسطحي سألت:
“هل رد عليكم؟”
قال سامر:
“ليس بعد فهو في الطائرة الآن”.
قالت:
“إذن فقد سافر”.
ثم أضافت:
“رافقته السلامة”.
لم أحتمل ذلك.. هببت واقفة هامة بالانصراف… فإذا بسامر يهب واقفا هو الآخر ويستأذن للمغادرة…
ناداه حسام:
“والشاي؟؟”
فرد مقتضبا:
“في مناسبة أفضل”.
وغادر المكان…
في الردهة… رأيت حقيبة سفري لا تزال واقفة قرب الباب.. تنتظرني.. أشحت بوجهي بعيدا عنها فاستقبلتني أعين ابنتي خالتي اللتين تقفان على بعد تراقبانني…
وبعد عناق الأعين جاء دور عناق الأذرع والأحضان…
وليد قلبي… سافر ليس فقط من دوني.. بل ودون وداعي.. ودون أن يكلمني.. ودون أن تقع عيناي عليه ولو لنظرة أخيرة..
***************************
تسع ساعات وأنا أحاول الاتصال بشقيقي من حين لحين وبجميع الأرقام التي لدي دون نتيجة..أخذ القلق يتفاقم في صدري, خصوصا وأن رغد تتصل بي مرارا وتهول الأمر.. حتى أنها أقترحت علي مهاتفة صديقه سيف غير أنني عارضت الفكرة وطلبت منها الانتظار حتى صباح اليوم التالي.
وفي الصباح اتصلت بهاتفه فوجدته لا يزال مغلقا, وبالمنزل فلم يجبني أحد, ثم بهواتفه المباشرة في مكتبه في مقر عمله, فأخبرت وبأنه قد اتصل بهم قبل فترة وأبلغهم عن عودته من السفر…
على الأقل أعرف الآن أنه وصل إلى المدينة الساحلية بسلام..
اتصلت برغد وأخبرتها بالجديد وكنت أظن أنها سترتاح للخبر غير أنها انزعجت وحزنت كثيرا…
كان أخي قد قضى في شقتي عدة أيام وقد كانت أياما جميلة أنعشت في صدري الذكريات الماضية التي لن تعود.. الجميلة والمؤلمة معا.. وكان أشدها إيلاما هي ذكريات والدينا رحمهما الله…
لم تمض سنة بعد على مصرعهما.. والنار لا تزال تتأجج في صدري.. ولن تخمد أبدا..
وهو السبب الأول الذي كان يمنعني من العودة إلى المدينة الساحلية والعيش في بيتنا القديم المليء بالذكريات.. مع شقيقي الذي ما فتىء يطلب مني هذا..
أما الثاني فهو بلا شك رغد…
وفي هذه المرة ألح علي شقيقي للسفر معه وأبلغني بأن خطيبته لن ترافقه وبأنه لا يستطيع ترك رغد في بيت خالتها فهي بحاجة لمتابعة العلاج وكذلك الدراسة..
وقد خططت جديا للحاق به عما قريب.. خصوصا وأنا أرى أنه من الأفضل لي الابتعاد عن هذه المدينة لبعض الوقت..
أثناء وجودي في مقر عملي في المدينة التجارية عاودت الاتصال بهاتف شقيقي وللمفاجأة كان مفتوحا.
رن عدة مرات قبل أن يجيب وليد أخيرا:
“السلام عليكم”.
“مرحبا سامر… وعليكم السلام ورحمة الله”.
وكان صوته منهكا:
“كيف حالك؟ وحمدا لله على سلامة الوصول”.
“سلمك الله”.
يرد بجمل قصيرة وعلى عجل.
سألته:
“ما هذا يا وليد! ألف مرة أتصل بك وهاتفك مغلق؟”
“نعم. لقد تركته مغلقا منذ الأمس”.
سألت:
“أقلقتنا.. ماذا حصل؟ هل أنت بخير؟”
“نعم.. نعم”.
قلت:
“تبدو مشغولا”.
أجاب:
“أجل..”
قلت:
“حسنا.. سأتصل لاحقا.. أرجوك لا تغلق الهاتف..”
“حسنا”.
وانهينا المكالمة ومباشرة هاتفت رغد وأخبرتها فأبلغتني بأنها ستتصل فورا.
بعد قليل اتصلت بي وأخبرتني بأن وليد لا يجيب. أبلغتها بأنه مشغول واقترحت عليها الاتصال بعد ساعة أة أكثر.. واتصلت بي بعد ساعة ثم بعد ساعة أخرى تخبرني بأنها كلما اتصلت بهاتف وليد وجدته مفتوحا ولكنه لا يجيب.
على هذا النحو مر ذلك النهار وفي الليل اتصلت به ودار بيننا حديث قصير امتنع فيه وليد عن ذكر ما حصل يوم أمس. أظهر لامبالاة غريبة عندما حدثته عن رغد.
باختصار.. شقيقي كان غاضبا جدا من عائلة الخالة أم حسام بما فيهم رغد ولا يرغب في الإتيان بذكر أي منهم.. على الاطلاق..
كان هذا غريبا لكن الأغرب.. أنه وبعد يومين بعث إلي بظرف عبر البريد الجوي الموثق… يحوي وثائق هامة… طلب مني الاحتفاظ بها… وأخبرني بأنه مسافر إلى خارج البلاد للاستجمام.
الظرف كان يحوي تقريرا طبيا مفصلا عن إصابة رغد.. وصورا لبطاقته العائلية الشاملة لاسم رغد.. وشيكا مصرفيا بمبلغ كبير.. وتوكيلا مؤقتا باسمي لأتولى الوصاية على رغد..خلال الفترة التي سيقضيها في الخارج…
هكذا سافر وليد قبل أن يترك لنا المجال للاستيعاب…
ويمكنكم تصور وقع نبأ كهذا على الفتاة التي كانت تحترق رمادا من أجل مهاتفته.. والتي تتلوى شوقا لعودته.. وتتصل بي عشرات المرات من السؤال عنه..
عندما رأيت ما حل بها.. تقلبت في مخيلتي ذكريات قديمة أخرى.. كانت مركونة بإهمال في إحدى نتوءات دماغي.
حدث ذلك قبل تسع سنين عندما كنا في المدينة الساحلة في بيتنا القديم.
بعد أن غادر وليد المنزل, أصيبت رغد بحالة افتقاد مرضية إله.. في تلك الفترة رفضت الذهاب إلى المدرسة وصارت تلازم والدتي كالظل حتى في النوم وتراودها الكوابيس المفزعة وتصحو من النوم مفزوعة وتصرخ (أريد وليد.. أريد وليد)
كانت أشبه بالمذعورة وقد أدخلناها للمستشفى بسبب رفضها للطعام وزاد الأمر سوءا الحرب والتدمير الذي تعرضت له مدينتنا وجعل الناس جميعا يعيشون حالة ذعر هستيري.
ومن سيء إلى أسوأ تدهورت حالتها حتى قرر والدي رحمه الله الهجرة إلى الشمال الذي كان ينعم بأمان حتى العام الماضي..
ومن سيء إلى أسوأ تدهورت نفسية رغد بعد سفر وليد المفاجىء هذا ووجدت نفسي أعاصر إحدى أسوأ الفترات العصبية التي عاشتها من جديد…
******************************
منذ ذلك اليوم المشؤوم… الذي رحل فيه وليد بعد شجاره معي… ووالدتي طريحة الفراش في المستشفى والأطباء قرروا إجراء عملية جراحية لقلبها المريض.. أخيرا…
كان خالي يواضب على الاتصال بوليد الذي لم يكن يجيب… حتى رد اليوم وأبلغ خالي بأنه مسافر إلى خارج البلدة لبضعة أسابيع.
تدهورت صحة والدتي لما علمت بالخبر من خالي.. وها نحن نجلس إلى جانبيها في غرفة العناية القلبية المركزة.. والطبيب يبقي كمامة الأوكسجين على وجهها ويمنعها عن بذل أي مجهود يتعب قلبها.
أنا أمسكبيدها أضمها إلى صدري وأقبلها وأدعو الله أن يشفيها عاجلا…
التفت والدتي إلي وسألتني:
“ألم تتصلي بزوجك؟”
فأجبتها:
“كلا”.
فقالت:
“هل يعلم بأنني في المستشفى؟”
فقلت:
“نعم. فقد أخبره خالي بذلك”.
ونظرت إلى خالي الذي حرك رأسه مؤيدا. فقالت أمي:
“إذن لماذا لا يحضر لزيارتي؟ ليس من عادته التخلف في موقف كهذا”.
أجاب خالي:
“لأنه مسافر حاليا”.
فنظرت إلي وشدت على يدي وقالت:
“يا ابنتي.. هل تخفين عني شيئا؟”
فقلت:
“كلا”.
ولكنها بدت متشككة واستدرت إلى خالي وسألت:
“هل تخفون عني شيئا يا أخي؟”
فقال أخي:
“ربما حصل شيء.. بعد ذلك الشجار… ربما وليد نفذ ما طلبته أروى… لا أريد أن أرحل وأنا غير مطمئنة على ابنتي”.
قربت رأسي من رأس أمي وأخذت أحضنها وأقبلها وأقول:
“لا تقولي هذا يا أمي أرجوك”.
وهي تتابع:
“الأعمار بيد الله.. نسأله حسن الخاتمة”.
فلم أتمالك نفسي وفاضت الدموع في عيني.. وقلت:
“أرجوك يا أمي لا تتحدثي هكذا.. شفاك الله ومد في عمرك.. أنا من لي غيرك في هذه الدنيا؟”
وأحسست بيدها تمتد وتلامس يدي ثم سمعتها تقول:
“لا زوجك.. وخالك.. يرعاكم الله”.
ثم التفتت إلى خالي وقالت:
“أخي يا قرة عيني.. أحضر وليد وصالحهما أصلح الله لك آخرتك.. الشاب جيد ومن خيرة الرجال وأنا ما كدت أصدق أنني وجدت من أستأمنه على ابنتي مهجة قلبي”.
خالي مسح على رأس أمي وقال:
“لا تشغلي بالك بهذه الأمور يا أم أروى هداك الله.. إنه شجار عابر يحصل بين أي زوجين وينتهي”.
لكن أمي أبدت عدم التصديق مخاطبة خالي:
“لا تدعه يذهب يا إلياس.. ما كان نديم ليطلب من شخص عادي أن يهتم بعائلته”.
ثم التفتت إلي وقالت:
“لو لم يكن رجلا بمعنى الكلمة.. لما تمسك بالمسؤولية عن ابنة عمه اليتيمة بهذا القدر”.
وشددت على يدي وقالت:
“تمسكي به يا أروى.. لا تفرطي به.. يهديك الله”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى