قصة كشك الياقطين قررتُ أن أتخذَ طريقًا مختصرةً، خالفتُ تعليمات (GPS) التي لا جدوى منها بالمناسبة، واتخذتُ طريقًا فرعيَّة، أذكرُ أني سلكتهُا مرةً منذُ سنواتٍ ولم أُكرِّرها.
ما جعلني أرغبُ في ذلك هي تلكَ الهديةُ التي معي، إنه “دبدوب” محشوٌّ بالقُطن، يقبعُ داخلَ علبةِ هدايا، والتي عقدتُ نيَّتي أن تكونَ بينَ يدي خطيبتي في تمامِ الثانيةِ عشر صباحًا.
هكذا وعدتُها؛ كي تبدأ عامَها الجديدَ بهديَّتي؛ فعيدُ ميلادها غدًا في اليومِ الأخير من شهرِ أكتوبر.
تركتُ الطريقَ الرئيسيةَ واتخذتُ تلكَ الوصلةَ المختصرة، حينها سمعتُ (GPS) وهو يلحُّ على عنيدٍ مثلي لكي يعودَ، لكن هيهاتَ؛ فقد أشعلتُ الإضاءةَ العاليةَ كي تتصارعَ وظلام الطريق، ثمَّ واصلتُ القيادة، لم يكن يسيرُ على الطريقِ سواي، وكنت قد توقَّعتُ ذلكَ، فمن الذي يحملُ هديةً غيري، ويتركُ طريقًا رئيسيةً مُضاءةً؛ ليسلكَ طريقًا قديمةً كهذه.
على الجانبين، تكشَّفَت أمامي حقولُ الذرةِ في ضوءِ السيارةِ الساطِع، لقد بدا الأمرُ مَهيبًا، لكني واصلتُ دونَ أن أبالي، ففي قناعتي أن إيصالَ هديتي في موعدِها مهمةٌ لا يجوزُ أن يعيقَها الخوف.
في منتصفِ الطريقِ، انخفضت إضاءةُ السيارةِ من تلقاءِ نفسها، فحصتُ ذراعَ الإضاءةِ فلم أجِد بهِ عطلًا؛ فأدركتُ أن عطبًا أصابَ الكشافات نفسها، تجاوزتُ الموقفَ وأكملتُ، وأرجأتُ فحصَ الكشافاتِ لوقتٍ آخر، وبعدَ أن واصلتُ قيادتي، انطفأت إضاءةُ السيارةِ تمامًا.
لحسنِ حظي أني كنتُ على وشكِ الخروجِ من الطريقِ، لقد لاحت بيوتُ قريةٍ على الجانبِ الآخر أمامي، إضاءتها الخافتةُ كشفت الإسفلتَ القديمَ بقدرٍ يمنعني من التوقف؛ لذلكَ أكملتُ قيادتي بحذر.
بعد مسافةٍ قصيرةٍ، أخذ صوتُ المحرِّكِ في التغيُّرِ، هنا وضعتُ يدي على قلبي، فشيءٌّ مثل ذلكَ ربما يوقِفُ السيارةَ تمامًا.
ثم حدثَ ما كنتُ أخشاه، لقد توقفتِ السيارةُ فعلًا، لكن الأمرَ لم يكن مُحبِطًا؛ فقد كنتُ على رأسِ الطريقِ، وكان على الجانبِ الآخرِ كُشكٌ صغيرٌ خاصمتهُ الإضاءةُ؛ فأشعلَ صاحبُه النيرانَ لأجل الضوء، لكني رأيتُ النيران وهي تبتسمُ، فأيقنتُ أنَ صاحبَ الكشكِ يُضيءُ الشموعَ في يقطينٍ مجوَّفٍ، محفورٌ فيه أعينٌ وفمٌ.
ترجلتُ من السيارةِ ومشيتُ حتى بلغتُ الكُشكَ، إنها محاولةٌ قد تكونُ مُجديةً إذا ساعدني في العثورِ على ميكانيكيٍّ في ذلكَ الوقت.
وقفت أمامَ الكشكِ وكان صاحبه يولِي ظهرهُ للزائرينَ، يعبثُ بيقطينٍ مجوَّفٍ تندلعُ الشموعُ بداخله، ناديتهُ ولأني لا أعرفُ اسمَه قلتُ:
_يا أستاذ.. مساء الخير.
كررتُها كثيرًا حتى أجابني، ولكني تراجعتُ خطوةً للوراءِ، حينَ رأيتهُ يدسُّ رأسَه في يقطينةِ مجوَّفة!
اقتربَ الرجلُ اليقطينُ منّي، ثمَّ قال:
_أهلًا بكَ، ماذا تريد؟
لقد هربَ الكلامُ من لساني، حتى نسيتُ لماذا جئتُ إلى ذلكَ الكُشك، ثم عصرتُ رأسي فتذكرتُ؛ لقد جئتُ إلى هنا كي أسأله عن ميكانيكيٍّ، فقلتُ:
_تعطَّلت سيارتي، هل من الممكنِ أن تدلَّني على ميكانيكيٍّ؟
انتزعَ اليقطينةَ من رأسهِ فعادَ إلى سيرته الأولى، صار بشريًّا عاديًّا، ثمَّ سألني:
_أينَ تعطلت سيارتُكَ؟!
أشرتُ إلى السيارةِ؛ فغادرَ الكشكَ، سارَ في اتجاهِ السيارةِ فمشيتُ خلفَه، كانَ لا يزالُ يحملُ اليقطينةَ في يدِه، وما إن بلغنا السيارةَ حتى طالبني بفتحِ غطاءِ المُحرِّك؛ ففعلتُ.
بعد أن ناولني اليقطينةَ دسَّ رأسه بجوارِ محركِ السيارةِ، كانَ يفحصُ كل شيءٍ يقعُ تحتَ طائلةِ يده، وبعد دقائق قال لي:
_جرِّب.
فعلتُ؛ فعادَ المحرِّكُ إلى العمل، جرَّبتُ الإضاءةَ أيضًا؛ فوجدتها تعملُ بكفاءةٍ، شكرتُه ثمَّ مددتُ يدي في جيبي بحثًا عن نقودي، ولما لاحظني قالَ:
_لن آخذَ شيئًا، لم أفعل ما يستحق، هي مهنةٌ قديمةٌ تركتها منذُ سنواتٍ.
شكرته مرةً أخرى، ثمَّ ناولته يقطينَتَه، لكنه طلبَ منّي أن أحتفظَ بها، كان إصراره غريبًا فابتسمتُ قائلًا:
_أنا حقًّا مُمتنٌّ لك، ولكن ليسَ لدرجةِ أن أسيرَ بيقطينةٍ مجوَّفةٍ لها عينٌ وفمٌ مُبتسم.
نظرَ إليَّ بملامح لا تعبيرَ فيها وهو يستعيدُ يقطينَتَه، ثمَّ غادرني عائدًا إلى الكشكِ، واندسَّ بينَ يقطينه المجوَّفِ المُضيء.
غادرتُ الطريقَ، بينما أفكرُ في ميكانيكيٍّ مُتقاعدٍ يزينُ كُشكَه باليقطينِ المُضيء، رويدًا رويدًا نسيتُ أمرَه، وما إن وصلتُ إلى منزلِ خطيبتي، حتى نسيتُ أمرَه تمامًا.
كنت قد وصلتُ في موعدي، ترجلتُ من سيارتي، ثمَّ دخلتُ إلى البيتِ، وأمامَ بابِ شقتِها، دقت عقاربُ الساعةِ معلنةً عن تمامِ الثانيةِ عشر، ومعها طرقتُ البابَ وانتظرتُ.
ما إن فتحت خطيبتي البابَ حتى ناولتُها العلبةَ، لقد صرخت من السعادةِ، وهي تتناولها من يدي لتفتَحها، حينها صرخت من السعادةِ مرةً أخرى، بينما تسمَّرتُ في مكاني، لقد كانت اليقطينةُ داخلَ العلبةِ، وليس الـ”دبدوب” الذي قمتُ بشرائه!
لم أنبس ببنتِ شفة، وقفتُ صامتًا وهي تقلِّبُ اليقطينةَ المبتسمةَ في يدِها، ثمَّ دخلنا لنجلسَ قليلًا، هكذا طَلَبَت، فوجدتها تُطفئُ نورَ الشقةِ؛ لتشعلَ الشموعَ داخلَ اليقطينة.
كنتُ أنظرُ إلى ابتسامةِ اليقطينةِ في صمت، ولما انتهت خطيبتي من احتفالِها شَكرتني مرةً أخرى، فغادرتُ في حيرةٍ من أمري.
لم أجِد تفسيرًا واضحًا، كيفَ اندسَّت يقطينةُ الرجلِ داخلَ العلبةِ وطردَت الـ”دبدوب”، بينما رأيته يعودُ إلى الكشكِ وهو يحملُها؟
في الصباحِ الباكرِ، وجدتُ نفسي أقودُ سيارتي إلى هناك، بلغتُ كُشكَ اليقطينِ ولكني لم أجده، بل وجدتُ في مكانه أنقاضَ غرفةٍ قديمةٍ، وعرفتُ من فلاحٍ طاعنٍ في السنِ، كان متجهًا نحوَ حقولِ الذرةِ أن ثمةَ حادثٍ قديم كان قد وقعَ لميكانيكيٍّ في ذلكَ المكان، حيثُ دهسته سيارةٌ بالخطأ في نفسِ الليلةِ التي تعطَّلت فيها سيارتي، وكانت لديه هوايةُ الاحتفالِ بالهالوين، “موضةٌ لم يعهدها أهلُ القريةِ من قبل، رحمه الله” هكذا قالَ الفلاحُ لي حينَ استفسرتُ منه عن أمرِ الغرفةِ المهدومة، كُشكِ اليقطينِ سابقًا.
غادرتُ المنطقةَ في هدوء، وقد اتضح لي كيف استُبدِل “دبدوب” خطيبتي بيقطينة مبتسمة، ربما فعلها شبح الرجل، لم أكن أؤمن بالأشباح من قبل، والآن أدركت أنها حقيقة لا يمكن إنكارها أو رفض ما تريده، وتساءلت بعد مغادرتي؛ هل فيما بعدُ أحتفلُ بعيدِ ميلادِها، أم بالهالوين؟!
***
تمت…