“الفصل العشرون”
“رواية تَعَافَيْتُ بِكَ”
________________
يحتاج الإنسان إلى وطن في هيئة إنسان، و بلد في صيغة ضلوع، وحياة ملخصة في حي، وجنة حدودها ذراعان.
_____________
على الرغم من وسع العالم وكبرهِ إلا إنه في بعض الأحيان لم يتقبلك، حتى أنه لم يسعك ولا يستطع إحتوائك، في نفس الوقت الذي تجد به ذراعان على الرغم من ضيقهما إلا أنهما ملجأ أمان لقلبك.
“حتى لو هتسجن معاكِ، السجن في وجودك بَراح يا خديجة”
تلك الجملة التي قالها بصوتٍ مُـحب يحمل الصدق في طياته، أما هي خرجت من بين ذراعيه ثم نظرت له بتوتر وهي تقول بخجل:
“أنتَ…أنتَ قولت إيه؟”
تنهد بأريحية كبيرة قم قال:
“حتى لو هتسجن معاكِ السجن في وجودك بَراح يا خديجة ، أنا مش عاوز في الدنيا دي غير وجودك بس وإنك تكوني مبسوطة”
كانت تنظر له بقوة ثم بكت مرة أخرى وهي تقول:
“ليه..وعلشان إيه”
وضع كفه بشير نحو موضع قلبه ثم أضاف مستطردًا حديثه وهو يقول:
“علشان دا اللي أختارك..علشان
دا اللي من أول مرة شافك فيها عرف إنك الشخص الصح”
نظرت له بقوة وحديثه يتردد في أذنيها، فوجدته يمسك كفها بين كفيه وهو يقول مُطمئنًا لها:
“أنا موجود معاكي هنا علشانك أنتِ..علشان كل اللي فات في حياتك تنسيه ونبدأ سوا من جديد..ودلوقتي لو أنتِ موافقة هطلع أجيب الدكتورة”
أنهى حديثه ثم نظر لها لكي يرى التخبط في ملامحها جليًا بوضوح فأضاف مُكملًا:
“ولو مش عاوزة برضه براحتك يا خديجة أنا عمري ما هجبرك..بس هتبقي أنتِ اللي بتختاري الخوف طول عمرك”
رفعت رأسها بقوة تنظر له، فوجدته يومأ لها برأسه بقوة وكأنه يؤكد حديثه،
فتحدثت بصوتٍ مهزوز وهي تقول:
“طب ولو فشلت؟ أو منفعش هعمل إيه؟”
هز كتفيه وهو يقول:
“مش عيب إنك تفشلي..العيب بجد إنك تخافي من الفشل فمتحاوليش..أنا موجود وأنتِ عمرك ما هتفشلي، هاه أطلع أجيب الدكتورة؟”
إبتسمت له بتوتر ثم أومأت برأسها توافق على حديثه، أما هو بمجرد موافقتها تركها وخرج من الغرفة لكي يجلب الطبيبة
دخلت الطبيبة ثم قالت بهدوء مع إحتفاظها ببسمتها الهادئة:
“ها نبدأ يا خديجة؟”
نظرت له «خديجة» فوجدته يومأ لها برأسه بقوة وكأنه يحثها على القبول، فأعادت بصرها تجاه الطبيبة ثم قالت:
“نبدأ”
________________
في بيت آلـ «رشيد» كانت «مُشيرة» جالسة في شقتها وهي مُمسكة بصورة إبنتها «جميلة»
كانت تنظر للصورة بعمقٍ، وعنوةً عنها فرت دموعها على وجنتيها ولم تستطع منعها أو التحكم بها، فقامت بإحتضان الصورة وهي تبكي ، وبعد فترة من البكاء مسحت دموعها ثم شردت في ماضٍ بعيد وتحديدًا في ذلك اليوم المشؤوم من وجهة نظرها
(منذ عدة سنوات):
بعد ما قامت «مُشيرة» بإعطاء الصور و الخطابات لـ «زينب» لكي تتخلص من تلك الأشياء التي تحول بينها وبين حياتها الزوجية مع «حسان» و إبنتها «جميلة»، فقد كانت حياتها مليئة بالملل لم تستطع تقبل زوجها و ظلت عالقة في ماضيها وحينما وصلتها الصور والخطابات قررت التخلص من تلك الأشياء، وبدء حياة جديدة مع زوجها وإبنتها ولكن ماحدث كان عكس ما توقعته تمامًا، ففي صباح اليوم التالي حينما إستيقظت لكي تقوم بإيقاظ صغيرها لكي تقوم بتوصيلها إلى روضة الأطفال تفاجات بخلو فراش الصغيرة منها وكذلك زوجها لم يكن له أثرًا في البيت، ركضت تبحث عنهما في الشقة بأكملها فلم تجد ما يريح قلبها ، كما أن خزانة الملابس الخاصة بزوجها و أيضًا بصغيرتها كانتا فارغتان، لم تستطع تقبل ما حدث وظلت تجول في الشقة ذهابًا و إيابًا وهي تبكي بحرقة إلى أن وجدت ورقة متروكة على طاولة السُفرة مدونة بخط يد «حسان»،
حينما رآت تلك الورقة ركضت إليها وأخذتها بيدٍ مُرتجفة وحينما وقع بصرها على حروف الخِطاب صرخت بأعلى صوتها، وكأنها رآت إحتضار أعز ما تملك أمام عينيها فكانت كلمات الخِطاب عبارة عن:
“صباح الخير يا مُشيرة..من المؤكد إنك هتصحي من النوم مش هتلاقيني أنا وبنتك بس علشان أريحك ومطولش عليكي أنا مشيت وسيبتلك الدنيا كلها علشان انا عمري ما أقبل إني أكون بديل ولا أقبل إن مراتي تكون معايا وبتفكر في حد تاني، الجوابات والصور وصلتلي وشوفتها بعيني وأنا علشان راجل وعندي كرامة كان ممكن أموتك وأرتاح وأريح نفسي، بس أنا خدت بنتي ومشيت وكدا أنا بموتك ألف مرة في اليوم يا مُشيرة وعلى قد ما حبيتك على قد ما كرهت اليوم اللي عيني بصتلك فيه…ورقتك هتوصلك كمان كام يوم..أنتِ طالق يا مُشيرة”
بعد قراءة ذلك الخِطاب صرخت صرخة مدوية أتى على أثرها أفراد العائلة الكبار، أما أبناء العائلة فتم توصيلهم للمدارس
خرجت من شرودها في رحلة الماضي وهي تنظر أمامها بحقدٍ وغضب تِجاه «زينب»، لذلك أقسمت على الإنتقام منها في فرحتها بإبنتها وبزواجها، لذلك قامت بمهاتفة «هدير» لكي تُفكر معها في أخذ حقها منهما.
_________________
في شقة «طه» نظر حوله بهدوء يبحث عنها بعينيه، وحينما رآت زوجته تلك النظرة سألته مُستفسرة:
“بتدور على مين يا طه؟”
إنتبه «طه» لـ سؤال زوجته فقال مُردفًا:
“لأ أبدًا، هي خديجة لسه مجاتش؟”
أومأت له بهدوء ثم قالت:
“أيوا يا طه لسه مجاتش خير؟، دي واحدة مكتوب كتابها وإتعمل إشهار لجوازها معترض على حاجة”
هز رأسه نفيًا ثم قال:
“لأ يا زينب ، بس أنا خايف علشان هي مش بتخرج كتير وبتتلغبط دايمًا، خايف بس تخاف زي ما علطول بتخاف هنا”
نظرت له نظرة ذات مغذى إلتقطها هو على الفور، ثم تبعت نظرتها بقولها:
“وهو مين السبب في دا يا طه مش أنتَ؟ مين اللي خلاها جبانة وخوافة كدا مش أنتَ؟ مين اللي علطول يزعقلها لو إتكلمت قُصاد حد مين اللي فهمها إن الخروج عيب وإن الصحاب غلط مش أنتَ يا طه؟”
كان حديثها جارح كنصل السكين ، فلم يستطع تحمله أكثر من ذلك فصرخ بوجهها وهو يقول:
“خلاص يا زينب عرفت إن أنا السبب، عرفت إن أنا اللي دمرت حياة بنتي ، بس أنا عملت كدا من خوفي عليها يا زينب خوفت كلام مشيرة يكون صح إن…”
صمت ولم يستطع الإسترسال في حديثه أكثر من ذلك ، أما زوجته فنظرت له نظرة مُعاتبة ثم قالت:
“كمل يا طه وقفت ليه ؟ خوفت كلام مُشيرة عني يكون صح ؟ خوفت إن بنتي تتربى على إيدي وتطلع خرابة بيوت زيي صح”
أوقف حديثها وهو يقول:
“لأ يا زينب أنا خوفت إن هي اللي من كتر كلامها عن بنتي تطلع كدا فعلًا ، خديجة طول عمرها كانت بتغلط وإحنا متجمعين وكلهم إتلكموا عن شقاوتها كتير”
نظرت له «زينب» ثم أردفت بحزن قائلة:
“أنا مش مسمحاك يا طه على اللي عملته في بنتي ولا هقدر أسامح أختك على اللي عملته في بنتي ،إنما إفترا أختك عليا دا أنا وكلت ربنا يجبلي حقي فيه”
أمسك كفها ثم قال:
“وأنا مصدقك يا زينب واللّٰه وعارف إن أنتِ متعرفيش حاجة عن اللي وصل لـ حسان ، والدليل على كدا إن لما مُشيرة طلبت مني أطلقك أنا إتمسكت بيكِ وبوجودك في حياتي”
نظرت له بحزن دفين وكأن السنوات الماضية تَمُر أمام عينيها وهي تقول:
“ساعتها أنتَ إتمسكت بيا علشان عيالك يا طه”
هز رأسه نفيًا بقوة ثم قال:
“لأ طبعًا أنا إتمسكت بيكِ علشانك أنتِ يا زينب، علشان وجودك وعلشان أنا بحبك والدليل على كدا من ساعة اللي حصل عمري ما فتحته تاني وقفلنا عليه”
إبتسمت بسخرية ثم قالت:
“أنتَ صحيح مفتحتش الموضوع تاني، بس طلعته علينا أنا وخديجة عصبية ونرفزة، جبت لبنتي عقدة من الحياة يا طه”
شعر بالحرج من حديثها فقال بهدوء لكي يغير مجرى الموضوع:
“كل دا هيتنسي يا زينب وخديجة ربنا هيعوضها ، أنا واثق في كرم ربنا ثم ياسين وحاسس إنه فعلًا يستاهلها”.
_______________
في عيادة الطبيبة النفسية كانت الطبيبة منتظرة هدوء «خديجة» وهذا ماحدث بالفعل بسبب وجود «ياسين» بجانبها وبعد فترة من الصمت قطعتها الطبيبة قائلةً:
“بُصي يا خديجة في ناس من صغرهم بيتم برمجتهم على إنهم يتصرفوا بطريقة مُعينة، ويتكلموا بطريقة مُعينة حتى مشاعرهم كمان بيتم برمجتها على مواقف معينة ، في الأخر بقى بيكونوا زي المسجونين لطريقة تصرف معينة وتفكير معينة ودا في الأخر بيخلينا نشوف إرتفاع نسب الطلاق وناس كتير بتعاني من الصداع المُزمن نتيجة لصراع أفكارها”
نظرا لها كلًا مِن «خديجة» و «ياسين» بتعجب، وحينما رآت هي نظرات الإستنكار منهما، أضافت قائلة:
“كل اللي فات دا بيكون سبب في التصرفات السلبية اللي الشخص بيتصرف بيها لأن البرمجة هنا برمجة سلبية، ودا اللي حصل معاكِ يا خديجة من خلال طريقة تصرف والدك معاكِ”
على الرغم من توتر «خديجة» إلا أنها تحدثت بتوتر وهي تقول:
“يعني إيه مش هينفع أغير الطريقة دي؟”
إبتسمت لها الطبيبة ثم قالت بهدوء مُردفةً:
“لأ طبعًا..إحنا مش بس ممكن نغير الطريقة دي إحنا كمان ممكن نغير كل دا لمصلحتنا، ونستغل الطاقة اللي عندك دي في تحقيق نتايج كتيرة مُذهلة”
بنفس التوتر المصاحب لها إبتسمت وهي تومأ برأسها للـطبيبة وهذا ما لفت نظر «ياسين» لشيءٍ ما ، فتدخل وهو يقول:
“خديجة هو أنتِ كنتِ عارفة إنك عندك رُهاب إجتماعي ومشاكل في التواصل مع المجتمع؟”
أومأت له بخجل ونظرة مُنكسرة ثم أطرقت برأسها للأسفل، فنظر هو للطبيبة وكأنه يستفسر منها.
حينما نظر لها سألتها الطبيبة مُستفسرة:
“خديجة ممكن تقوليلي أنتِ عارفة منين؟”
أخذت «خديجة» نفسًا عميقًا ثم قالت وهي تفرك كفيها بإنفعال حتى أوشكت على تمزيقهما:
“لما لقيت الأعراض كتير ..و.. علطول خوفي ملوش مُبرر وكمان الرعشة والصداع ومش بقدر أتكلم مع حد..دا…دا غير خوفي من النزول أو الشغل وبان أكتر خوفي دا في الجامعة لما بقيت أخاف أروحها ساعتها أنا عرفت لما دورت على النت بس خوفي كان أكبر مني إني أعترف لنفسي بحاجة زي دي”
وأثناء حديثها توقفت وهي تأخذ نفسها ولكنها بكت بقوة ثم قالت:
“أنا مش ذنبي والله…بس علطول كنت بتعرض للإنتقادات بسبب شكلي وطريقتي وإني معنديش صحاب وإني كل حاجة في حياتي مش زي اللي في سني، ولما كنت صغيرة كان علطول يزعقلي ويقولي على كل حاجة عيب وغلط لحد مابقيت أخاف حتى أتكلم”
كان «ياسين» يراقبها بقوة وينظر لحركة كفيها فعلم أنها في ذروة توترها الآن، لذلك نظر للطبيبة وكأنه يطلب منها إنهاء هذه الجلسة.
أومأت له الطبيبة ثم قالت بهدوء:
“طب تمام يا خديجة كويس أوي كدا النهاردة، هنتقابل مرة تانية إن شاء الله وصدقيني مفيش حاجة صعبة ولا حاجة تقلق، الرُهاب الإجتماعي والإنطوائية علاجهم مش بياخد وقت يعني ممكن أقصى فترة توصل لـ ٦ شهور وطبعًا دا بناءً على الحالة نفسها وعلى الدعم اللي هياخده من الناس اللي جنبه”
أوقفت الطبيبة حديثها ثم نظرت لـ «ياسين» لكي تكرر حديثها وهي تقول:
“وأنا متأكدة إن أستاذ ياسين هيكون له دور مهم جدًا معانا في الرحلة دي”
أومأ لها «ياسين» مؤكدًا ثم قال:
“أنا هعمل أي حاجة علشانها وعلشان هي تكون مبسوطة”
نظرت له «خديجة» بعد جملته تلك ، فوجدته ينظر لها موافقًا وكأنه يؤكد لها صدق حديثه.
_______________
في شقة «طارق» وصله مكالمة هاتفية من «وئام» فدخل الشرفة لكي يستطع التحدث معه، وحينما وصله طلب «وئام» تحدث بضيق وهو يقول:
“يعني إيه يا وئام ما أنتَ عارف الجمعة أجازة لينا ، هو لعب عيال؟”
رد عليه «وئام» من الجهة الأخرى:
“أعمل إيه بس يا طارق ؟ حسن مش هيكون موجود علشان سنوية وفاة مراته، وأنا بكرة أخر النهار هروح المطبعة علشان آكد على التصميم بعد ما يتعدل، كل اللي عاوزه منكم أنتَ وأحمد ووليد بكرة تكونوا في الشركة تظبطوا التصميمات وتراجعوا عليها قبل الطباعة، علشان الافتتاح ميعاده إتقدم”
نفخ «طارق» وجنتيه بضيق ثم قال:
“ماشي يا وئام، أنا هعرف أحمد و وليد ويارب يوافقوا وميقولوش أجازة”
وافقه «وئام» في الحديث ثم قال:
“تمام يا طارق ومتقلقش كل حاجة هتبقى تمام ، هو بكرة بس وخلاص، ودي مش أول مرة نتعامل معاهم هما معانا من أول ما فتحنا الشركة دي”
أغلق «طارق» الهاتف مع «وئام» ثم قام بمهاتفة «وليد» لكي يخبره بموعد الغد، وكما توقع تمامًا تحدث «وليد» بحنقٍ وهو يقول:
“بقولك إيه يا طارق بكرة أجازة خلينا نرتاح شوية من اللي أنتم عاملينه فينا طول الأسبوع”
علم «طارق» أن الحديث معه لن يُجدي نفعًا فقال بهدوء:
“بص هو بكرة تكونوا معايا فيه وأنا والله هديكم يومين أجازة بعدها حتى المطبعة أنا اللي هتواصل معاها والله”
كان عرضه مُغري لدرجة كبرى لم يستطع «وليد» رفضها فقال بهدوء:
“ومحدش يطلب مني أراجع على الشغل وأنا في البيت؟”
وافقه «طارق» وهو يقول:
“والله ماحد هيطلب منك شغل في البيت”
وافقه «وليد» بسرعة كبيرة وحماس لم يستطع السيطرة في إخفائه وهو يقول:
“بكرة الصبح هكون قدامك وأحمد أنا هقنعه”.
_________
في شقة «مُشيرة» كانت جالسة مع «هدير» وهي تقص عليها مشاعر الغيرة والحقد من إبنة أخيها و والدتها، فتحدثت «هدير» بخبثٍ وهي تقول:
“والله يا عمتو أنا مش عارفة أنتِ تاعبة نفسك ليه على الفاضي، هو مش هيستحمل خديجة أكتر من كدا، دي واحدة مُعقدة يا عمتو”
نظرت لها عمتها بسخرية ثم قالت:
“والله ما حد هيموتني غير برودك يا هدير، ماخلاص كتب الكتاب وبعدين مشوفتيش كان ماسك إيدها إزاي في كتب الكتاب؟”
هزت «هدير» كتفيها ثم قالت:
“مش عارفه بقى بس هو أي حد عاقل مش هيعرف يتعامل معها خصوصًا شكله إبن ناس ونضيف”
ردت عليها «مُشيرة» بضيق:
“يعني المفروض أعمل إيه أفضل مقهورة على بنتي وحياتي كدا؟”
هزت «هدير» رأسها نفيًا ثم قالت:
“لأ ، إحنا نعزمه هنا في العيلة نتعرف عليه بما إنه بقى فرد من العيلة ونعرف كمان أختار خديجة ليه؟”
أومأت لها عمتها وهي تبتسم بخبثٍ ثم قالت:
“حيث كدا أقولهم في العيلة بقى نحضر يوم علشان نتعرف عليه”
_______________
بعد خروجهما من العيادة النفسية كانت ملامحها متوجمة بشدة وكأنها تبدلت، ولكن على الرغم من ذلك كان هناك طمأنينة غريبة تسكن ملامحها وكأنها بذلك أراحت عقلها من الخوف حينما يعلم بأمر إضطراباتها، ركبا السيارة سويًا وهي لم تتفوه بـِحرفًا واحدًا، نظر لها بعدما ركبا السيارة و شَرَعَ هو في القيادة وجدها ساكنة كطفلٍ صغير ينفذ تعليمات والديه، فنظر أمامه مرةً أُخرى، وبعد مرور دقائق من القيادة أوقف السيارة أمام نهر النيل ، لاحظت هي سكون السيارة فنظرت له وجدته ينظر لها مُبتسمًا، لم تتفوه بـِحرفًا بل نظرتها هي التي قالت كل شيء ، حيث خرجت نظرتها مُستفسرة عن وقوفهما، تنهد هو بعمقٍ ثم قال مُردفًا:
“تعالِ نقعد شوية نرتاح من التوتر اللي كنا فيه النهاردة دا قُدام النيل”
حركت رأسها وكأنها تسأله، فقال هو مُردفًا لها:
“علميًا المناظر الطبيعية ليها تأثير قوي جدًا في التخلص من التوتر والخوف، وأنا عارف إننا أتوترنا كتير النهاردة”
قال جملته ثم فتح باب السيارة وخرج منها، ذهب تجاهها وقام بفتح الباب من جهتها، نظرت له متعجبة فوجدته يمد كف يده لها وهو يقول:
“هاتي إيدك في إيدي ويلا نقعد شوية قُدام نهر النيل ، ولا يرضيكي يعني أروح لأمي وأنا متوتر كدا بعد ما كنت نازل من بيتنا شاب زي الورد؟”
عنوةً عنها رُسمت بسمة بسيطة على شفتيها ثم مدت كفها تحضن كفه، قبض على كفها بقوة ثم أغلق باب السيارة ، وعلى غِرار المرة السابقة وفي نفس المكان ونفس درجات السلم نزلا سويًا ثم جلسا على نفس المقاعد، نظرت هي أمامها ثم أغلقت أعينها بقوة وهي تأخذ نفسًا عميقًا ثم أخرجته بتروٍ وكأنها بذلك تُخرج ما يُجيش به صدرها، نظر هو لحركتها تلك بمراقبة وكأنه يعلم ماذا تفعل
إنتظر مرور عدة ثواني ثم قال بهدوء:
“ها أحسن دلوقتي؟”
نظرت له بإمتنان ثم قالت:
“الحمد لله أحسن كتير”
هز رأسه موافقًا لها ثم قال:
“أنا آسف لو كنت عرضتك لموقف مُحرج النهاردة، أو خليتك تواجهي حاجة أنتِ مش مستعدة لها”
نظرت له بقوة وهي تُفكر هل يمكن أن يكون هناك شخصًا يحمل كل ذلك الحنان في قلبه؟ هل يمكن أن يكون هناك مَن يرى أقل تصرفاته ويحاسب نفسه عليها؟ كيف وهي من إعتادت على تلقي اللوم والعِتاب على تصرفاتها، حتى أنها توقعت منه المعاتبة على عدم مصارحتها له بحقيقة إضطراباتها و رُهابها.
لاحظ هو صمتها فقال:
“ياست الكل روحتي فين؟”
نظرت له بعمقٍ في عينيه ثم قالت بهدوء:
“هو أنتَ إزاي كدا؟ إزاي مصمم تخليني أحس بالذنب ناحيتك ، ليه بتعاملني كدا ومخليني أحس أني بظلمك معايا؟”
هز كتفيه ثم قال:
“أنا عمري ما أخليكي تحسي بالذنب وعمري ما أخليكي تحسي إنك بتظلميني لأنك ببساطة مبتعمليش حاجة من دي، أنا اللي قررت بإرادتي إني أمشي معاكِ الطريق دا”
ردت عليه بصوتٍ منفعل:
“بس أنا كنت عارفة ومقولتش لِك، أنا كان ممكن أقولك من قبل ما إسمي يرتبط بإسمك وأنتَ اللي تقرر، كدا أنا مفروضة عليك”
حرك رأسه نفيًا بقوة ثم قال مُعقبًا:
“لأ يا خديجة أنا كنت عارف من الأول، وليد قالي على كل حاجة وأنتِ مكدبتيش ولا خبيتي عليا لأنك ببساطة مكنتيش متأكدة من دا؟”
أومأت له في هدوء ثم قالت:
“طيب أنا معاك ، تقدر تقولي شكلك إيه لما حد يعرف إن مراتك بتتعالج عند دكتور نفسي، تقدر تقولي أنتَ تتحمل ليه وبابا نفسه رفض يعالجني؟”
أجابها بنبرة هادئة مُحببة للقلب:
“أنا ميفرقش معايا الناس، أنا اللي يفرق معايا هو أنتِ، ولو فعلًا والدك رافض إنه يعالجك، أنتِ دلوقتي مراتي يعني أنا اللي مسؤول عنك ولحد ما تكوني في بيتي يا خديجة أعتبري نفسك حمايتي”
إبتسمت على حديثه وأخفضت رأسها بخجل ثم رفعتها مرة أخرى وهي تقول:
“ممكن أسألك حاجة تانية ؟”
أومأ لها ثم قال ببهجة ظهرت بوضوح على نبرة صوته:
“صدقيني أنا نفسي تتكلمي معايا وتسأليني من غير خوف والله، إتفضلي المايك معاكِ”
إبتسمت رغمًا عنها على حديثه ثم قالت:
“شكرًا على كلامك …بس هو ليه أنا بحس معاك كدا؟”
تعجب من سؤالها فقال مُستفسرًا:
“مش فاهم بتحسي بإيه يعني؟”
هزت كتفيها ثم قالت بهدوء:
“بحس إن أنا مش خايفة..أنا أول مرة أقدر أتكلم قصاد حد كدا وأول مرة أحس إن في حد عاوزني أتكلم”
أومأ لها مُتفهمًا ثم قال:
“صدقيني أنا عارف كل حاجة وكل اللي عاوزه منك إنك تفضلي تحسي كدا طول العمر وطول ما أنا معاكِ..مش عاوزك تخافي طول ما أنا هنا”
إبتسمت له ثم قالت:
“ليه يا ياسين ؟ وإزاي بالسرعة دي قدرت تختار إنك تقف جنبي وتساعدني من غير مُقابل حتى، إزاي أخترتني وأنا مطفية كدا؟”
نظر لها بعمقٍ ثم قال:
“علشان ربنا سبحانه وتعالى خلق الست والراجل يكملوا بعض، يعني علاقة مبنية على التفاهم مش على المظاهر، أنا واحد طول عمري بكره المظاهر وعمري ما تخيلت إني ممكن أختار شريكة عمري علشان شكلها، دايمًا كان كل هدفي إني قلبي يرتاحلها وهو دا اللي حصل يا خديجة من أول مرة شوفتك فيها ، عرفت إن العيون لا يمكن تعدي عليا كدا، حتى إسمك اللي محفور على الدبلة دا محفور في قلبي من قبلها”
إتسعت إبتسامتها أكثر من ذي قبل بينما هو نظر لها بحب ثم قال:
“أنا لو عليا أفضل طول اليوم أبصلك وأنتِ بتضحكي كدا، بس أنا وعدتهم إني مأخركيش وعلشان عم طه كمان ميتعصبش عليا”
على ذِكر والدها دب الذعر في أوصالها وتبدلت ملامحها إلى ضيق ممزوج بخوف مما هو آتٍ ومن ردة فعل أبيها، نظر هو لتخبطها فقال بهدوء:
“يلا بينا متخافيش أنا معاكِ”.
________________
في منزل آلـ «الرشيد» كان «طه» فى ردهة البيت في إنتظار إبنته حينما لاحظ تأخرها، كان جالسًا على مقعد خشبي من المقاعد المُخصصة لمناسبات العائلة، لاحظ إقتراب سيارة «ياسين» من المنزل فوقف متأهبًا، نزل «ياسين» من السيارة أولًا ثم أنزلها بعده،
وجد والدها ينظر له بحنقٍ، فقرر مضايقته بإمساكه لكفها وكأنه بذلك يتحداه، أما هي فشعرت بالخوف من إمساكه كفها أمام والدها وحينما حاولت إفلات كفها من كفه قام هو بإمساك كفها أكثر ثم قال بهدوء:
“قولتلك أنتِ مراتي والناس كلها عارفة وهو لازم يعرف حاجة زي دي ”
بعد إنتهاء جملته وجد نفسه يقف أمام والدها، نظر لهما «طه» ثم نظر لكفيهما المتعانقين بضيق ، لكنه حاول إخفاء ضيقه وقال بهدوء:
“إتأخرتوا ليه كدا يا ولاد أنا قلقت عليكم؟”
إبتسم له «ياسين» بإستفزاز ومازال كفه يعانق كفها ثم قال:
“معلش يا عمي حضرتك عارف بقى إن إحنا في فترة التعارف وخصوصًا إن إحنا معملناش فترة خطوبة”
أومأ له «طه» بهدوء ثم أمسك ذراع إبنته الأخر وهو يقول:
“محصلش حاجة يا ياسين، بس ياريت متتأخروش كدا مرة تانية”
من خلال إمساك والدها لها أجفل جسدها من لمسته حتى إنها دون وعيًا منها شددت من مسكت كف «ياسين»،
شعر والدها بالإحراج من موقفها فهي غير معتادة على لمسته لها منذ زمن بعيد، حيث كانت كل علاقتها به مُلخصة في عقابه لها وضربها.
نظر «ياسين» في وجه «طه» فخشي أن الأمور تطور أكثر من ذلك حينما رآى ضيق ملامحه، لذلك ترك كفها ثم قال ببسمة هادئة:
“أنا آسف مرة تانية يا عمي على التأخير وإن شاء الله دا مش هيتكرر مرة تانية ”
قال حديثه لوالدها ثم نظر لها وهو يقول:
“أشوفك على خير إن شاء الله”
كل ذلك كانت تتابعه «مُشيرة» من أمام شقتها، وحينما أوشك «ياسين» على المُغادرة، ركضت حتى وصلت أمامهم، نظر لها أخيها مُتعجبًا أما «ياسين» من نظرة «خديجة» علم أن هذه هي «مُشيرة» السبب الرئيسي في إضطرابات زوجته، لذلك نظر لها بقوة وهو يتفحص ملامحها حتى أنه لم ينتبه لترحيبها به، وحينما لاحظ صمتها فجأة قال بهدوء:
“أهلًا بحضرتك”
ردت عليه تحيته بإقتضاب ثم قالت لأخيها:
“معقول يا طه جوز بنتك يكون هنا وتسيبه واقف على باب العمارة كدا؟
بدا على «طه» وكأنه إنتبه للتو لوقوف «ياسين» في مدخل البيت فقال بإحراج:
“معلش يا ياسين أنا متأسف تعالى إتفضل معانا”
إبتسم له «ياسين» لكي يرفع الحرج عنه وهو يقول:
“لأ يا عمي متقولش كدا أنا أتأخرت فعلًا ،خليها مرة تانية”
هَمَ بالمغادرة فتحدثت «مشيرة» بسرعة وهي تقول:
“خلاص بكرة الجمعة يبقى تيجي تتغدى معانا بقى”
نظر لها «ياسين» مُبتسمًا ثم قال بهدوء:
“مُتشكر لحضرتك جدًا بس أنا معزوم عند أصحابي بكرة”
كانت هذه مُجرد حُجة لكي يرفع الحرج عن نفسه إذا رفض، حينما شعرت برفضه قالت من جديد:
“خلاص طالما هتتغدى مع صحابك يبقى تيجي تشرب الشاي معانا هنا ولا إيه يا طه؟”
رد عليها «طه» مُعقبًا:
“أكيد يا مُشيرة والمرة كمان يتعرف على عيلة مراته”
نظر «ياسين» إلى «خديجة» فوجد التخبط والخوف ظاهر على وجهها لذلك قال بهدوء:
“خلاص بكرة أخر النهار هكون هنا إن شاء الله”.
_____________
تركهم «ياسين» ورحل إلى بيته،
كان يشعر بالسعادة تغمره نظرًا لحديثها معه وعن إطمئنانها له، دخل شقته كانا والديه في إنتظاره، ولكن ما آثار دهشتهما هي الطريقة التي دخل بها «ياسين» الشقة، حيث أنه كان يدندن أغنية في هدوء وهذه على غير عادته، جلس على الكرسي الذي يقع بجانب الشقة هو يغني:
“دا اللي كان نفسي فيه ، لو تيجي صدفة تجمعني بيه ، فرصة عمري أضيعها ليه ؟ مش معقول….عيني قدام عينيه
دا أكتر من اللي حلمت بيه جه اليوم اللي أنا مستنيه علشان أقول:
“وياه الحياة هتحلى وأنا معاه.. هو دا اللي أنا بتمناه ..واللي عيني شايفاه إحساس إنه أحلى وأغلى الناس”
رفع صوته في الجملة الأخيرة مما أدى إلى خروج والده من غرفة الصالون وهو يقول:
“الــلـه! هايل يا فنان، والله العظيم وقعت ومحدش سمى عليك”
شعر «ياسين» بالإحراج فهذه لم تكن عادة والده السهر لذلك الوقت، فوقف وهو يحمحم مُحرجًا ثم أضاف مستطردًا:
“حاج رياض خير إيه اللي مسهرك كدا؟”
نظر له والده بسخرية ثم قال:
“حظي حلو علشان أسمع الفنان وهو بيغني”
وقبل أن يرد عليه «ياسين» وجد والدته تقف أمامه وهي تقول بضحك:
“بس إيه رايق وعمرو دياب، بيسموه إيه دا يا رياض؟”
ضحك «رياض» ثم قال مُجيبًا إياها:
“دا بيسموه حب يا زُهرة”
رد «ياسين» عليهما بضجرٍ قائلًا:
“لأ هتعملوني مسرحية ليكم ولا إيه تصبحوا على خير ويلا السهر غلط عليكم”
أنهى حديثه ثم ركض هاربًا إلى غرفته، تحت نظرات الضحك والتعجب من والديه،وبعد إختفاء أثره نظرت والدته لوالده وهي تقول. بخبثٍ:
“تفتكر أنا فاهمة صح يا رياض؟”
نظر لها «رياض» بسخرية ثم قال:
“لأ ماهو لو أنتِ مش فاهمة صح يا زُهرة تبقي غبية فعلًا”
نظرت له بحنق ثم قالت:
“بتقول إيه يا رياض؟”
إقترب منها ثم قبل قمة رأسها وهو يقول:
“مبقولش حاجة ..يلا يا زُهرة تصبحي على خير”
قال جملته ثم تركها وغادر إلى غرفته، فنظرت هي في أثره بتعجب ثم قالت:
“أيوا يعني أنا فاهمة صح ولا غلط دلوقتي؟”
في داخل غرفة «ياسين» كان يُكمل أغنيته ولكن بصوتٍ منخفض مع بسمة بلهاء مرسومة على شفتيه، إرتمى على الفراش وهو يفكر بها وفي حديثها، وما أخرجه من رحلته تلك رنين هاتفه برقمها ، نظر للهاتف مُتعجبًا، ولكنه لم يظل في تعجبه كثيرًا وقام بالضغط على زر الموافقة
قام بالرد عليها وهو يقول:
“لأ أنا هاخد على كدا وأتعود إنك أنتِ اللي تكلميني كل يوم”
إبتسمت على حديثه ثم قالت:
“أنا بس إتصلت علشان أشكرك على النهاردة وعلى إنك قدرت مشاكلي وخوفي”
إبتسم على فعلتها تلك فهذه بداية جيدة معه، ثم قال:
“أنا مش عاوز شكر، أنا عاوزك كويسة علطول”
ردت عليه بهدوء:
“إن شاء الله أكون كويسة علطول..هو..”
لم تستطع إكمال جملتها، أما هو شعر بتخبطها في الحديث فقال:
“قولي اللي أنتِ عاوزاه من غير خوف…قولتلك أنا أخر واحد تفكري تخافي منه”
كان حديثه أكثر من مُشجعًا لها لذلك أخذت نفسًا عميقًا ثم قالت:
“ينفع متجيش البيت هنا بكرة؟”
يُتَبعَ