مكُنتش بحب مكان بيتنا لأنه لازق في المَقابر، فِكرة إنك تفتح شبّاك أوضتك الصبح تلاقي القبور قدّامك، وإنك وانت بتقفل الشّباك بالليل قبل ما تنام آخر حاجة تشوفها برضُه القبور فكرة مخيفة، أي نعم مع الوقت بتتعوّد وبيبقى الموضوع بالنسبالك شيء عادي، لكن برضُه فكرة إن الموت قدّامك طول الوقت حاجة مرعبة.
دايمًا صديقاتي كانوا بيخافوا ييجوا يزوروني، في مَرة أقرب صديقة ليا قالتلي إن مامتها مُش بترضى تخليها تيجي تذاكر معايا، ودايمًا بتقولّها “إنتي إيه اللي هيودّيكي مكان مقطوع زي ده؟!”.
دي كانت أكتَر حاجة بتأثّر في نفسيّتي جدًّا، لدرجة إني عرضت كتير على بابا يبيع البيت ويشتري مكانه لو شقة صغيرة نعيش فيها بعيد عن هنا، بس كان دايمًا يقولّي “والله يا زَمزَم ما باليد حيلة، أنا عرضت البيت تقريبًا بِنُص تَمَنُه، لكن كل مُشتري يقول أنا ليه أحط فلوسي في بيت يخلّي شبح الموت قُدّام عيني طول حياتي، ورغم إنّي كُنت بتكلّم مع كل واحد وأقولّه أنا عايز أبيع البيت عَشان بنتي بس، لكن البيت نفسه مفيهوش أي حاجة مُش كويسة، لكن مفيش فايدة”.
الموضوع مَكَنش مأثر في علي أخويا ولا كان في دماغُه، وكُنت بعذره لأنه لسه مش مستوعب، هو يادوب لسّه مكمّل 12 سنة، لكن أنا أكبر منّه بأربع سنين وفاهمة، وكنت بسأل نفسي هو لما ييجي يتجوز هيضمن منين إن البنت اللي هيختارها هتوافق تعيش في البيت هنا؟!
كُنت بَهرَب من التَّفكير للبيانو، إحساسَك لمّا تكون مُش لاقي حَدّ تتكلّم معاه بيكون صَعب، وِدِلوَقت إحنا في أجازة آخر السَّنة، وِمَبشوفش صَحباتي غير كُل فين وفين، لأن مَحَدّش بيرضَى ييجي عَندي هِنا، وأنا نادرًا لو روحت لِحَد، عَشان كِدَه مَكَنش في حاجة تسلّيني غير إنّي أعزِف.
لحد الليلة اللي اتلغبطت فيها كل حاجة، حسّيت إن كل خطوط حياتي دخلت في بعضها، الصدمة كانت أكبر من إنّي أتحمّلها، مكُنتش فاكرة غير إنّي كُنت بصرُخ بهيستيريا!
أنا لسّه فاكرة اللي حصل، لمّا علي طلب منّي أسيب البيانو ونطلَع نلعب كورة سوا على السطح، مرضِتش أخلّيه يزعل، طِلِعت معاه ولعبنا لحد ما الليل دخل علينا، ولمّا خلّصنا لعب وقفنا نتكلم، كان علي ساند على سور السطوح والكورة على السور تحت إيده، كُنت بحكيله عن أمنيتي إننا نبيع البيت ونشوف أي مكان غير ده، بس لقيته بيقولّي أهو بيت والسلام، وإحنا طُول عُمرنا في البيت هِنا مَشوفنَاش فيه حاجة وِحشة، لكن لقيتني بعفويّة بقولّه “أنت عجبك المنظر اللي البيت بيبُص عليه ده؟!”.
وبرغم إن الوقت ليل والدنيا ضلمة لكن القبور قُدامنا كانت واضحَة، وبرغم إني المفروض متعودة على المنظر دَه من وأنا صغيرة لكن شواهد القبور كانت بترعبني من جوايا، واللي كان بيرعبني أكتر شكل القبور اللي لسّه مفتوحة، وكنت بسأل نفسي ياترى منتظرة تقفل أبوابها على مين؟!
فجأة الكورة فلتت بدون سبب من تحت إيد علي ووقعت، بصينا للكورة واحنا مذهولين وهي نازلة لحد ما وصلت تحت، خبَطِت في الأرض وفضلت تتنطَّط، لغاية ما دَخَلِت جوّه قَبر مفتوح.
-الصباح رباح يا علي مينفعش ننزل المقابر دلوقت.
لكن علي رد عليّا والدموع لسّه في عينه…
-الكُورة مُش هتبات في القبر، أنتي ناسية إنها هدية ماما الله يرحمها، مُش كفاية هي في القبر، هديتها كمان هتبقى في القبر؟!
-لكن بابا لو عرف إننا نازلين نجيب الكُورة مش هيوافق، هو نفسه مُش هيرضى ينزل، مابالك بقى احنا.
-هدية ماما مُش هتبات في القبر!
كلام علي أثّر فيّا جدًّا، عَشان كده بدأت أفكّر ازّاي هننزل من غير بابا ما ياخد باله، ولقيت علي بيقترح عليّا إننا ننزل لمّا بابا ينام.
ورغم إن الاقتراح دَه كان مخوّفني لكن مكَنش في حل غيره، بابا بينام الساعة 12 بالليل، ودَه معناه إننا هننزل في قت متأخر جدًّا، ورغم كدَه لقيتني بقول لعلي…
-هننزل بس خلّيك حافظ مكان القبر اللي الكُورة دخلت فيه عشان مندوَّرش كتير، في ثواني هنجيبها ونرجع تاني علطول.
أخدنا بعضنا ونزِلنا، ولمّا دخلنا الشَّقة لقينا بابا منتظرنا، وزيّ كل مرَّة طلب مننا منتأخرش تاني على السطح بالليل، بعدها طلب منّي أجهز العَشا، دخلت المطبخ وقعد هوّ وعلي يتكلموا، سمعت بابا بيقولّه إنه نفسه يبيع البيت بأي شكل ويشتري في مكان تاني، ولو إن الفلوس متوفَّرة معاه كان زمانُه قفل البيت دَه واشترى بيت في مكان تاني أو شقة وخلاص.
جهّزت العَشا وقعدنا، وفي نص الأكل لقيت بابا بيعرض عليّا فكرة إننا نقفل البيت دَه ونطلع ناخد شقّة بالإيجار، عشان تكون نفسيتي مرتاحة، هو عارف إن الموضوع مأثر فيا أنا بالذات، لكن عشان أنا عارفه ظروف بابا ابتسمت وقولت…
-ليه هتكلّف نفسك، لو البيت اتباع ونعرف نجيب بيت في مكان تاني مفيش مشكلة، إنما تكلّف نفسك فوق طاقتها لأ.
بابا ابتسم وقفل الكلام في الموضوع وهو مُش مقتنع بكلامي، وعارف إني بقول كده لمجرد إني محمّلوش فوق طاقته.
خلصنا العَشا وبابا قعد قُدام التلفزيون، والساعة قرَّبت تبقى 12، لقيت علي بيغمزلي، بصّيتله عشان يُسكت وبابا مياخُدش باله من حاجة، وفعلًا قعد ساكت لحد ما بابا قام وقالنا…
-أنا هدخل أنام، مَتسهروش كتير، حاولوا تناموا علطول.
الجُملة دي بنسمعها من بابا كُل يوم قبل ما ينام، وطبعًا إحنا بنقولّه حاضر وخلاص، ولو مكنتش هعزف على البيانو كنا بنقعد نتسلى نلعب السلم والتِّعبان وكوتشينه وبنك الحظ، لكن النهاردة كُنا منتظرينه ينام عشان نِنزل نجيب الكورة اللي دخلت القَبر.
قرّبت من أوضة بابا وبصّيت عليه بالرَّاحة، ولمّا اتأكدت إنه راح في النوم قفلت عليه الباب، ساعِتها كان علي واقف مستنّيني وفي إيده كشّاف نور صُغيّر، اتسحّبنا بالرّاحة وفتحنا باب الشقة ونزلنا، وأول ما وصلنا لباب مَدخل البيت علي فَتَح نور الكشّاف، وقبل ما نفتح البوابة سألته…
-أنت متأكّد من مكان القبر؟ مُش عايزين نِفضل برَّه البيت كتير.
علي جاوبني بثقة وقالّي:
-طبعًا متأكّد، هو تالت قَبر على شِمال القَبر اللي في وش البوابة.
هزّيت راسي وفتحت البوابة وأنا قلبي بيتنفِض، خرجت الأول برغم إن علي هو اللي شايل الكشّاف، واتفاجأت إنّه ماسك في دراعي وبيرتِعش، إحنا اتولدنا واتربّينا هنا لكن طول عمرنا آخرنا بعد المَغرب بنكون في البيت والبوابة مقفولة، عُمرنا ما نزلنا في التوقيت ده.
لمّا خرجنا من البيت همست بصوت واطي وقولت…
-هنروح عند القبر اللي الكورة دخلت فيه، هتمسك الكشاف وتنوّر القبر وأنا هدخل بسرعه أجيب الكورة وأخرج.
الشَّهامة خدت علي ولقيته بيقولي…
-أنتي اللي هتمسكي الكشّاف وأنا اللي هدخل أجيب الكورة.
لكن لقيتني بلهجة حادة وصوت واطي في نفس الوقت بقوله…
-اسمع الكلام، أنا الكبيرة واللي بقول عليه يتسمع.
علي مَعترضش على كلامي، بدأنا نتحرَّك من قدام البيت وندخل المقابر، رجلينا مَكنِتش شايلانا، ورغم إن المسافة بسيطة بس حسّيناها طريق طويل ماشيين فيه وإحنا مرعوبين، كُنا ماسكين في بَعض لدرجة إنّي مكُنتش عارفة مين بيتسند على مين، لغاية ما وصلنا عند القَبر اللي في وِش البوابة، وبدأنا نِعِدّ 3 قبور على شماله، وساعتها طلبت من علي يخلّي نور الكشّاف على القَبر عشان أدخل أجيب الكورة، لكن المفاجأة إن القبر كان مقفول وعليه تاريخ وفاة!
بصّيت لعلي وأنا مِستغربة وقولت بصوت واطي…
-أنت مُش قولت 3 قبور من القبر اللي في وش البوابة؟!
كان صوته مهزوز وهو بيقولي…
-أنا عدّيتهم من فوق السطح، بس يمكن عدّيت غلط، خلينا ندوّر في القبور التانية.
لقيتني بتجاوب معاه، أخدت منّه الكشّاف وبدأت أدوّر في القبور وهو ماسِك في دراعي، كُنت كُل ما أوجّه نور الكشّاف على قبر يطلَع مقفول وعليه تاريخ وفاة! مَفيش ولا قَبر مفتوح، جِسمي اترعش وضربات قلبي بدأت تزيد، وحسّيت بنفس الشعور دَه عند علي وهو بيمسِك في دراعي أكتر وبيسألني بصوت مَهزوز…
-كُل القبور مقفولة أومّال الكورة دَخَلِت فين؟!
مكنش مستوعبة اللي بيحصل ولا عندي رد على سؤال علي، كُل اللي فكّرت فيه إني أمسك إيده ونخرج من المقابر وندخل بيتنا، وفعلًا قُلتله وأنا بشدّه من إيده…
-انسى الكورة، يلا ندخل البيت.
لقيته مَعتَرضش على كلامي ومِشي في إيدي، وساعِتها بدأنا نسرَّع خطوتنا عشان نُخرج بسرعة، بسّ الصوت اللي سمعناه من وَرَانا خلّانا نتجمّد في مكانّا، حسّينا إن رجلينا لزقِت في الأرض، ومحدّش فينا كان قادِر ينطَق.
انتظرنا ثواني يمكن يكون بيتهيّأ لنا، لكن الصوت كان لسّه موجود، قاومت الخوف وجمّدت قلبي وبصّيت ورايا، ولمّا التفتت ومدّيت إيدي بالكشّاف ناحية الصوت لقيت الكورة، كانت بتتحرَّك ناحيتنا على الأرض، في اللحظة دي كان علي التفت وشَاف الكورة، مِسكنا في بَعض وبدأنا نِرجع بضهرنا لورا واحنا مرعوبين، أنا كُنت حاسّة بجسمي متكلّبش من الخوف، مكنتش عارفة أتحكّم في أعصابي، لكن على قَدّ ما أقدر كُنت بَشِدّ علي من دراعُه لأنّه وقَف ومَبَقَاش يتحرَّك.
رِجلي خَبَطِت في حَجَر وأنا بَرجَع بضَهري، وفجأة وَقَعت راسي خَبَطِت في الأرض، الدُّنيا لفَّت بيّا وبدأت كُل حاجة تشوّش قُدّام عيني.
حاولت أقوم مقدِرتش، انتظرت إن علي يساعدني لكن دَه محصلش، معقولة شايفني واقعة في الأرض قُدّامه وميفكّرش يساعدني؟!
نَدَهت عليه لكن كُنت حاسّه إن صوتي ممكتوم…
-يا علي!
انتظرتُه يرُد عليّا لكن دَه برضُه مَحَصَلش، سَنَدت على إيدي ورَفعت راسي بالعافية عشان أشوفه راح فين، لكن لقيت المكان حوالين منّي فاضي، علي مُش موجود! مفيش غير القبور، والكورة اللي لقيتها جَنب مِنّي، والكشّاف اللي كان في الأرض ونوره شَغّال، ولقيت خيال! كان ظاهِر في نور الكشّاف، خيال طويل مُش عارفة جاي منين، ورغم الخوف ونَفَسي اللي مَكُنتش قادرَه آخدُه رَفَعت راسي أكتر لغاية ما وَصَلت لآخر الخَيال، وساعتها شوفت حاجة مكنتش أتصوّر إني أشوفها.
كانِت بِنت، تقريبًا في نَفس سِنّي، واقفَة حافيَة ولابسَه قَميص أبيض قُصَيَّر، كان شَكل رجليها يخوِّف، لونهَا كان باين في نُور الكّشَّاف أزرَق في أخضَر، ولمّا بَصِّيت ناحية كفوف إيدها لقيتهَا بنفس اللون، مَكُنتِش عارفة أوصَل لملامِحها لأنّ شَعرَها كان نازِل على وِشّهَا، لَكن عينها كانت باينَة من وَرَاه، لأنها كانِت بتلمَع لَمعَة مُخيفة.
وواحدَة واحدَة؛ لقيتها بتقرَّب ناحيتي، ساعِتها لَقيت قَلبي هَيُقَف، كَان عَندي أَمَل لآخر لَحظة إنّي ألاقي علي بيساعِدني، لَكن الأَمل دَه انتَهى لمّا لقيتها قرَّبت منّي جدًّا، وِمِكَنش قُدَّامي غير إنّي أصرُخ بهيستيريا من الخُوف.
…
عيني بدأت تِفَتَّح، في الأوّل كانت كُل حاجة مُشوِّشَة قُدَّامي، وِمَع الوَقت لقيتني بدأت اشوف كويّس، دَه سَقف الأوضَة بتاعتي!
حسّيت بِحَد جَنبي، بَصّيت لَقيت عَلي، قاعِد جَنب راسي على المَخَدّة، وكان بابا قاعِد على كُرسي جَنب السّرير، حاوِلت أتكلّم لَكن الكلام كان صَعب عليّا، ولقيت بابا بيشاوِرلي عَشان مَتكلِّمش وبيقولّي…
-الدكتور قال مَتِتكلّميش.
لكنّي مَسمِعتِش كَلام بابا وقولت…
-دكتور إيه أنا مُش فاكرَه حاجة؟!
كُنت حاسّة إنّ لساني صَخرة، الكَلام كان طالِع بالعافية، دا غير إنّي لمّا اتكلّمت حَسِّيت بهبوط شِديد والعَرَق كان مَالي جِبيني، وِساعِتها حَسّيت بإيد عَلي بتطَبطَب على راسِي، رَفعت عيني ناحيته وقولت…
-إنت سِيبتني وروحت فين يا علي؟!
لَقيتُه بيبُص ناحية بابا وهو خايف، مَكُنتش فاهمَة حاجَة، حاوِلت أسنِد عَشان أقعُد واحاوِل أفهم منهم، لكن حسِّيت بحاجَة بتنغِرِز في كفّ إيدي، ولمّا رفَعت كَفّ إيدي قُدَّام وِشّي لقيت إن فيها كانيولا!
بدأت أبُص ناحيتهم تاني وانتَظَرت إن حد فيهم يتكلِّم، وسَاعِتها لَقيت بابا بيبُصِّلي وبيقولّي…
-أنا صِحيت على صوت عَلي وهوّ بيقولّي الحَق يا بابا زَمزَم واقعَة في المَقابِر، ولمّا سألتُه إيه اللي خلَّاكي تنزِلي تَحت حَكَالي عن اللي حَصَل، إن الكورة ظهرت فجأة وكانت بتتحرّك ناحيتكم، وقالّي إنّ المَوقِف كان صَعب عليه، دا غير الخوف اللي كان حاسِس بيه خلّاه مَيعرَفش يتصرّف وطِلِع صحّاني، كُنت نازِل ورِجلي مُش شيلاني، فِكرة إن مُمكن يكون جرالِك حاجة كانت مخلّياني مُش قادِر أمشي، ولمّا دَخَلت المَقابِر لَقيتك واقعَة في الأرض جنب الكورة والكَشّاف منوّر جنبِك، مُش عارف إيه اللي خلَّاكم تشوفوا إن الكورة دَخَلِت جوّه قَبر، القبور اللي ناحيتنا كُلّها مقفولة على اللي فيها.
كُنت مِستغربَة كلام بابا جدًّا، إحنا فعلًا شُوفنا الكورة بتدخُل في القَبر، بَسّ فعلًا لمّا نِزِلنا لقينا القبور كُلَّها مقفولة، وِحَصَل اللي حَصَل!
بَصّيت لِبابا وأنا مُش عارفة أقول إيه، لكن لقيته بيكمّل كلامُه وبيقُول…
-أنا شِيلتِك من الأرض، رفعتِك على كِتفي وجريت في الشَّارع أنا وعلي، كان لازم أودّيكي المُستَشفى لأنّك كُنتي فاقدَة الوَعي، مَشيت بيكي مسافة لغاية ما لقيت توكتوك يوصَّلنا، وهناك في المُستَشفى ركّبولِك محاليل وعطوكي حُقنة مُهدِّأة، وفضِلتي يومين تَحت المُلاحظَة، كُنت يادوب بسيب علي جنبك وبطلع أجيب حاجات للأكل وأرجع تاني، لغاية ما الدكتور كَتَبلِك على خروج، وقالّي اطمّن، هي هتبقى كويّسة وِوَعيها هيرجَع واحدَة واحدَة، ومن ساعِة ما رِجِعنا وانتي بتفوقي وقت قُليّل وبتغيبي عن وَعيك تاني، مَكُنتيش حاسّة باي حاجة حواليكي، حتّى المُمَرِّضة اللي بتيجي تركّبلِك المحاليل مَكُنتيش بتحسّي بيها، أسبوع وانتي ع الحَال دَه، أنتي كُنتي في عالم تاني.
…
حسّيت إنّي بَسمَع حِكاية مُش بتاعتي، تفاصيل كتير بابا حَكَاها مَعرَفش عَنها حاجة، ومَع الوَقت حسّيت بإنّي قادرَة اتحكّم في أعصابي، طلبت من علي يساعِدني أقوم من السرير، بابا كان رافِض إنّي اتحرّك من السرير دلوَقت، لكن قولتله أنا حاسّة إنّي أقدر أقوم واتحرَّك بَس علي يساعِدني.
طلبت من علي يودّيني عند البيانو، أخد إيدي لغاية الصالة، وِسَنَدني عَشان أقعُد على الكُرسي وسابني وراح قَعَد على الكَنبة، مَدّيت صوابعي ناحية لوحة مفاتيح البيانو، وبدأت اعزِف لَحن معزوفة ضوء القَمر.
كُل ما اللحن يِخلَص كُنت بَعيدُه من تاني، وفي كُل مرَّة كُنت بَعيد فيها اللحن كُنت بَحِس براحَة أكتر، مَكُنتِش عارفَة اللحن اتكرَّر كام مرّة، لَكن بعد وَقت طويل لَقيت بابا جاي جَنبي وبيقولّي…
-مُش كفاية كِدَه بقى؟ مَتنسيش إنّك لسّه تعبانة.
أخَد إيدي عَشان أقوم، لَكن قولتلُه إنّي هَقدر امشي لِوَحدي، سابنِي على راحتِي، وفعلًا حسّيت نَفسي بَتحرَّك وِمُش محتاجة حد يِسنِدني، اتمشّيت في الصّالة شويّة، قرَّبت من الشِّباك، بَس لَقيت حاجة وقَّفِتني، يِمكن الخوف، حسِّيت إنّي لو لَمحت القبور مُمكن يِجرالي حاجة.
بَعِدت عن المنطقة اللي فيها الشِّبّاك، دَخَلت أوضتي وقَعدت على السرير، وِلَقيت بابا داخِل وجايب صينية عَليها أكل، مَكَنش عندي رغبة في الأكل خالص، لَكن طَلَب منّي آكُل على قَد نِفسِي، وفعلًا أكلت حاجات بَسيطة بَعدها بابا شال الصّينية، وقالّي الساعة قرَّبت على 12 وإنّ علي دَخَل نام، وِطَلَب منّي أنا كمان أنام عَشان المُمَرّضة اللي بتتابعني هَتيجي الصُّبح.
طَلَبت منّه قَبل ما يُخرج يِطفي نور الأوضة، مَد إيده وِطَفَاه وقالّي وهو خارج…
-تِصبَحي على خير.
النّوم مقرَّبش من عيني، صورة البِنت كانِت قُدَّامي بكُل تفاصيلها، افتكَرت بابا وهو بيحكيلي عن اللي حَصَل، لاحظت إنّ علي مجابلوش سيرة البنت، وإلا كان زمان بابا جاب سيرتها.
الخوف أحيانًا بيخلي الواحد يتخيّل حاجات مُش موجودة، يِمكن رَهبتي وخوفي اللي حسّيت بيهم لمّا لقينا القبور مقفولة كانوا سَبب في إنّي أتخيّل دَه؟ لكن علي شاف معايا الكورة لمّا ظَهرت فجأة، وشاف القبور وهي مقفولة بعد ما شوفنا الكورة بتدخل في قبر منهم واحنا على السطوح، يبقى أكيد الخوف هوّ اللي خلّاني أتخيّل البنت.
حطّيت راسي على المخدّة، حاولت أوقَّف تفكير يمكن أنام، لكن صوت معزوفة ضوء القَمر سِمعته جاي من الصالة، في الأوّل كان الصوت ضعيف وبعدها بدأ يِعلى، لمّا ركّزت شوية لقيت الصوت جاي من عند البيانو، قُومت من السرير، ومشيت بالرَّاحة خرجت من الأوضة، أوّل ما دخلت الصّالة كانت عيني على البيانو، الدُنيا كانت ضَلمة، قرَّبت من مفتاح النور وفتحته، ورجعت ناحية البيانو تاني، ووقفت أبُصّلُه وأنا أعصابي متجمّدة، لوحة مفاتيح البيانو كانت بتتحرّك لوحدها، البيانو كان بيعزف لوحده معزوفة ضوء القَمر!
بدأت أرجع لِوَرا من الخوف، حاجة أوّل مرّة تِحصل ومَكُنتش قادرة أصدّق عيني، فِضِلت أرجَع بضهري وانا عيني على البيانو لغاية ما وَصَلت لباب أوضتي، كان لسّه صوت المعزوفة بيرنّ، وَقَفت مُش عارفة أعمل إيه، فجأة نور الصالة انطَفى، وساعِتها شوفت البنت اللي كانت في المقابر، كانت قاعدَة على كُرسي البيانو بنفس شكلها المُرعب وبتعزف.
لِساني كان تِقيل، مقدِرتش أندَه على بابا أو علي أصحّي حد فيهم، والرَّبكَة اللي كُنت فيها من الخوف خلّتني أدخل أوضتي وأقفل الباب عليّا، لكن صوت البيانو كان لسّه شغّال، نمت وحطّيت المخدّة فوق راسي، ومع الوقت صوت البيانو بدأ يِهدا، لحد ما اختفى خالص.
محسِّيتش بنفسي غير وبابا بيصحّيني، كان جايبلي الفطار وبيضحك، قعد جنبي وأصرّ إني أفطر كويس، واتفاجأت إنه بيقولّي…
-أحسن حاجة إنك نمتي علطول، دَه هيساعد إن صحتك تتحسّن أسرع.
ورغم إن كلامُه دخّلني في دوّامة أسئلة مُش من السهل ألاقي إجابتها إلا إني ابتسمت وانا بقولّه…
-الحمد لله على كل حال!
بَعدها بابا سابني وخرج، كان لسّه علي قايم من النوم وخارج من أوضته، صبَّح عليّا وقعد فَطر معايا، كُل اللي قالُه إنه سألني صحّتك عاملة إيه دلوقت، وخلّص فطاره وخرج من غير ما يقول أي حاجة تانية!
والممرضة جَت، ادّتني آخر حقنة في العلاج واطّمنت عليا ومشيت بعد ما قالتلي إن صحتي بقت تمام دلوقت، وساعتها بدأ تفكيري يشتغل تاني.
-هقلِقِك زي ما قلقتيني بالبيانو بتاعِك بالليل!
النهاردة محدّش فيهم جاب سيرة البيانو أو إنّه سِمِع أي عزف بالليل، وِدَه مالوش غير تفسير واحد، هو إنّ أنا بس اللي سمعت البيانو بيعزِف.
محبّتش الموضوع ياخُد أكبر من حَجمه معايا، مُمكن عشان لسّه خارجة من تَعب بهلوس، أو عشان متعلّقة بالبيانو وبمعزوفة ضوء القمر اتهيّأ لي كده، حاولت أنسى الموضوع واشغِل نفسي في أي حاجة، فَتحت شبّاك أوضتي عشان الشَّمس تدخل والهوا يتجَدّد، وِساعِتها بصّيت ناحية القبور ودقَّقت فيها قَبر قَبر، وفعلًا كانت كُل القبور القُريِّبة منّنا مقفولة.
لسّه منظر الكورة وهي بتدخل القبر مُش عاوز يروح مِن بالي، حاولت انسى، سِيبت الشباك ودخلت، لكن وأنا بَلِف وشّي لمحت البنت، كانت واقفة في المقابِر، قُدّام تالت قبر على شِمال القبر اللي في وِشّ بوابِتنا، وكأنها كانت بتبُصّ عليا وأنا في الشّباك، بالرغم من إن شَعرها برضو كان مِداري ملامِحها.
قفلت الشّباك، خرجت من الأوضة وروحت أوضة علي قعدت معاه، كان على لساني أحكي، لكن خوفت مع الوقت حد يفكّر إنّي بقيت بهلوس، أو لمّا الكلام يوصل لبابا يفهم بالغلط إنّي بستغل الظروف اللي مرّيت بيها وبضغط عليه عَشان نمشي من البيت، ملقِتش قُدامي غير إنّي أطلب من علي نتسلّى في أي لعبة، ولقيته بيقولّي…
-غريبة يعني مُش شايفك قاعدة على البيانو علطول زي زمان!
كلامه خلّاني أرتِبك لكن لحِقت نفسي وقولت…
-أهو تغيير، الواحد أحيانًا بيبقى عنده ملل لمّا يِفضل يِعمل نفس الحاجة وقت طويل.
قَعدنا نلعب طول اليوم، من كوتشينة لبنك الحَظ للسلّم والتِّعبان، كُنت بحاول أخرج من المود اللي أنا فيه لِدَرجة إني وافِقت إنه يعلّمني لعبة فيفا على بلايستيشن، أهو أي حاجة تِشغلني عشان تفكيري مَيروحش لحاجات تخلّي بركان الخوف اللي جوّايا ينشط.
لغاية ما المغرب أذّن ولقينا بابا راجع، اطّمّن علينا وقعد معانا شويّة، وكان عامل حسابه وجايب معاه أكل من بَرَّه، ولمّا علي طلب إننا ناكل عشان هو جعان أخدت الأكل ودّيته على الترابيزة وجهّزته، وقعدنا ناكل، كان طول الوقت عيني على البيانو، حتى بابا لاحظ إنّي سرحانة، ولمّا لاحظ إني سَرَحت أكتر ومَبَقِتش معاهم لقيته بيقولّي:
-مالك يا زَمزَم؟ سرحانة وبِتبُصّي للبيانو ليه؟!
-مفيش مُش سرحانة.
-لا أنتي مُش معانا خالص، إيه رأيك بعد الأكل تعمليلنا شاي وتعزفيلنا مقطوعة حلوة كِدَه من اللي بتعرفي تعزفيهم؟
بصّيت لبابا وكان على لساني أعتذر، لكن محبّيتش أرفُض طلبُه، خلَّصنا أكل وقُومت عملت الشاي، شِرِبناه وروحت قعدت على كُرسي البيانو، كُنت مقرَّرة أعزف أي حاجة تانية بعيد عن معزوفة ضوء القمر، كان في دماغي أكتر من حاجة بحبها، معزوفة كارمينا بورانا، أو رائعة باخ، أو كسّارة البُندق، أي حاجة تبعدني عن نقطة الخوف اللي أنا وصلتلها.
لكن لمّا بدأت أحرَّك صوابعي على لوحة المفاتيح، لقيتني بشكل لا إرادي بعزف معزوفة ضوء القَمر!
كُنت حاسّة إن في قوَّة غريبة بتخلّيني أعمل دَه، حاولت أوقّف عَزف لكن حسّيت إن حاجة بتمسك إيدي وبتخليني أعزف بالقوة، ومع الوَقت البنت ظَهرت، كانت قاعدَة بشكلها المُرعب بين بابا و علي، وبرغم كِدَه حسّيت كأنهم في عالم تاني مكانوش واخدين بالهُم منها.
عينها كانت بتلمع من ورا شَعرها، وللمرة التانية بَبُص لرجليها اللي كانت ظاهرة من تحت قميصها القُصيّر، لونها مُرعب، كأنها مليانة كدمات مخلّية لونها أزرق في أخضر، حتّى كفوفها نفس اللون، ولمّا ركّزت معاها أكتر لقيتها بترفع إيدها ناحية شعرها وبتبعِدُه عن وِشّها اللي لمّا ظَهَر لقيته بنفس لون إيدها ورجلها!
صَرَخت مِن الخوف، ومع الصَّرخة لقيتني وقَّفت عَزف، قومت من على كُرسي البيانو وأنا بَصرُخ، بابا وعلي اتفزعوا وقاموا من مكانهم وجريوا ناحيتي، حاولوا يهدّوني، لكن أنا مكُنتش مركّزة معاهم، كان كُل تركيزي مع البنت اللي قامت وقفت، وضَرَبِت صينية الكوبايات الفاضية اللي كانت على ترابيزة الأنترية طيَّرتها، وصرخِت صَرخة كلّها غَضب قبل ما تِختِفي!
الذهول كان باين على ملامح بابا و علي وهما بيشوفوا صينية الكوبايات بتطير في الهوا، لدرجة إن بابا استعاذ بالله من الشيطان وجِرِي فَتَح الراديو على إذاعة القُرآن الكريم، وبعدها رِجع قَعَد جنبنا ومخلَّاش حد فينا يقرَّب ناحية الكوبّايات اللي اتكسَّرت، وبعد فترة صمت طويلة لقيته بيخبّط كفّ على كفّ وهو بيقول…
-حاجة أغرب من الخيال، صينية الشاي تطير في الهوا من نفسها كِدَه، أعوذ بالله من الشيطان!
اتأكّدت كِدَه إن البنت بتظهرلي أنا بَس، يعني أنا المقصودة من كل دَه، طيّب ليه في الوقت دَه بالذّات واشمعنى أنا؟!
صوت بابا خرَّجني من تفكيري وهو بيقول…
-أنا لازم أبيع البيت ولو بأي تمن ونمشي من هنا، كفاية اللي حَصَل تحت في المقابِر واللي حَصَل دلوقت.
بصّيت لِعَلي، مَكَنش بيتكلّم، لكن ملامحه كانت بتقول حاجات كتير، كان باين عليه إنه عنده رغبة إن بابا ينفّذ كلامه ونمشي، لكن الإحساس اللي جوّايا هو اللي كان غريب، حسّيت لأوّل مرّة إن أمنيتي في إننا نمشي من هنا انعَدَمِت.
واتفاجأت بنفسي بقول بدون وعي…
-أنا مُش عاوزة أمشي!
بابا وعلي بصّولي وهُمّا مِبَحلقين، محدّش فيهم نَطَق، لكن بعد شويّة لقيت بابا بيقولّي…
-أنتي مُش كُنتي عايزانا نِنقِل مكان تاني؟!
اتلَجلِجت وأنا بَرُد عليه وبقول…
-بابا أنا مُش عايزة أكلِّفك وأشيِّلَك فوق طاقتك، أنا عارفة إن محدّش هيشتري البيت، أنت اللي هيزيد عليك إيجار شقة.
-وإيه المُشكلة، أهم حاجة إنكم تبقوا في أمان، هستنى يِحصل إيه تاني عشان نِمشي من هِنا؟!
بعدها بابا رَفَض إن كل واحد ينام في أوضته، وطَلب منِّنا ننام جنبه على السرير، مقدِرناش نرفُض كلام بابا بعد اللي حصل، دَخلنا نِمنا، بابا على طرف السرير وعلي في النُّص وأنا على الطرف التاني، غمَّضت عيني لكنّي كُنت صاحية، بفكَر في كل اللي بيحصل، وفي أقرب معزوفة لقلبي اللي حسّيت إنها اتقلبت للعنة بتنتقم منّي، وفي البنت اللي ظَهَرتلي، لغاية ما حسّيت إنّي فقدت القدرة إنّي أتحكّم في أعصابي، في حاجة بتضغط على صدري بتخنُقني.
فتحت عيني، أنا في المقابِر تَحت نايمة في الأرض، والبنت نازلة على صدري برُكبها وإيدها على رقابتي بتحاول تخنقني! صَرَخت لكن الصَّرخة مكَنِتش راضية تِطلع، كُنت فاقدة القُدرة إنّي أحرَّك إيدي أو رِجلي، كُل اللي عملته إني استسلمت، فتحت عيني وكُنت بَبُصّلها، لغاية ما سابِت رقابتي، بَعدها مسكتني من رجلي، كانت بتجُرّني في الأرض، كُنت عاجزة عن إنّي أقاوم، لغاية ما وصَلنا عند قبر مفتوح، كان تالت قبر على شِمال القَبر اللي في وش البوابة، اللي شوفنا الكورة بتدخُل فيه، لقيتها دخلت القبر ومدّت إيدها مسكتني من رِجلي تاني، وكانت بتحاول تدخَّلني معاها القَبر!
الدموع كانت مالية عيني وأنا بصرخ بصوت مكتوم، ولما حاولت اتخلّص من العَجز اللي متمكّن منّي كان يادوب عندي القُدرة إنّي أحرَّك إيدي وامسك في الأرض عشان ما ادخُلش القَبر، لكن هي كانت بتضحك ضِحكة مُخيفة، ضِحكة كلها إصرار إني أدخل، وأنا كُنت بصرُخ أكتر، وأخيرًا حسّيت إنّي قادرة أحرَّك رِجلي، وبإصرار اللي عاوز يهرب من الموت شدّيت رِجلي من إيدها بقوّة أجبرتها إنها تسيبني، وفعلًا رجلي فَلَتِت منها، وبَعدَها اختفت والقبر اتقَفل زي ماكان!
صرَخت بهيستيريا، حطّيت إيدي على وِشّي وكُنت بعيَّط بصوت عالي، وحسِّيت بجسمي بقى لوح تلج لمّا إيد مِسِكتني، فتحت عيني وأنا مرعوبة من اللي مُمكن أشوفه، لكن لقيته بابا، بيقوِّمني من الأرض!
أنا لقيت نَفسي نايمة على الأرض جنب البيانو، رقبتي ورجلي كان عليهم آثار إيد البنت، لدرجة إن بابا سألني نايمة كِدَه ليه وإيه اللي على رقَبتِك ورجلك ده؟! مكَنش قُدَّامي حاجة غير إنّي أحكيله، عن البِنت اللي بتظهرلي وِعن صوت المعزوفة اللي بسمعها طالعة لوحدها من البيانو، وعن اللي حصل من شويّة وأنا نايمة جنبهم واتفاجأت لقيت نفسي في المقابر والبنت بتحاول تدخَّلني القبر اللي الكورة دَخَلِت فيه، وإنّي بعدها اتفاجأت بيه بيقوِّمني من على الأرض جنب البيانو!
…
ريحة الخوف زي ريحة الموت بالظبط، بتخلّي الصمت سيّد الموقف، ساعتها في رهبة بتحضر في المكان، ومفيش أي فِعل أو كلام بيقدر يكسرها.
فضِلنا صاحيين للصُبح مفيش حد فينا بيتكلّم، كُنت حاسّة بنار في رقبتي ورجلي، حتى لونهم بدأ يغيّر بنفس لون رجلين البنت، كُنت مرعوبة من جوّايا بس مُش قادرة اتكلّم، حاولت على قدّ ما أقدر أداري رِجلي ورقبتي، لكن بابا عشان مركّز معايا أخد بالُه، وساعِتها الرُّعب كان باين عليه، طلب من علي إنه يخلّيه جنبي ميروحش في أي مكان، وقالّنا أنا هخرج مشوار وراجع علطول.
عدَّت ساعة محصلش فيها أي حاجة، ولا حتى علي اتكلّم فيها كلمة، لحد ما بابا رِجع، ولمّا دَخل طلب مني ألبس الإسدال، بعدها لقيته بيقول لواحد معاه…
-اتفضل ادخل.
كان راجِل كبير في السن، دقنُه بيضا ولابس جلَّابية لونها أبيض، كان مُبتسم وملامحُه مُريحة، لمّا الراجل قَعَد بابا قالّي إنه حكاله كُل حاجة أنا قُلتها، ساعِتها الراجل بَصّلي وقالّي…
-بتشوفيها من إمتى؟
ردّيت عليه وأنا بحاول أفتكر الوقت اللي شوفتها فيه بالظبط…
-ظهرتلي يوم ما الكورة وقعت من على السطح، تقريبًا من عشر أيام.
الراجل غمّض عينه شوية بعدها قالّي…
-اتكلّمت معاكي؟
ردّيت وأنا بحاول أفتكر…
-لأ.
-أوّل مرة تلمِسك كان النهاردة؟
-أيون.
بعدها الراجل غمّض عينه فترة طويلة، حسِّيت إنه بيتكلّم في سرّه، بعدها صوته بدأ يِعلى وهو بيسأل حد مُش موجود معانا…
-أنتي مين؟!
لقيتني أنا اللي بَرُد عليه، لكن بصوت غير صوتي، صوت مُخيف كُلّه موت وبقول…
-قَمر!
-عايزة إيه يا قمر؟
-المعزوفة.
بعدها حسّيت بجسمي بيتلّج، العَرق كان بيجري في كل حتة فيه، صَرَخت لمّا حسّيت بريحة البنت قُريِّبة منّي، كُنت سامعة وحاسّة بكُل حاجة حواليّا لكن مُش قادرة أنطق، اترميت في الأرض وبدأت اتشنِّج، الشيخ طَلب من بابا وعلي يكتّفوني، بابا مسكني من رِجلي وعلي مسك إيدي، والراجل بدأ يقرأ عليا آيات علاج المَسّ، كُل حتة في جِسمي كانت بتتنِفِض، كُنت سامعة صوت المعزوفة وصوت البنت وهي بتصرخ، ومع الوقت الدُنيا من حواليا بقت مشوّشة، مكُنتش شايفة كويس، ساعِتها سمعت بابا بيقول للراجل…
-عينها يا مولانا لونها بقى أبيض!
الراجل رد عليه بكُل هدوء وقالّه…
-دا طبيعي، هي هتاخُد وقت طويل لغاية ما الأعراض تروح من عليها، بس أنت لازم تتخلَّص من البيانو.
بعدها حسّيت ببابا وعلي بيشيلوني من الأرض، دخلوني على سرير، مكُنتش عارفة أنا في أوضتي ولا فين، بعدها كُنت سامعة بابا بيتكلّم مع الراجل وهو ماشي، وكان بيأكّد عليه إن البيانو لازم يُخرج من البيت، وسمعته كمان وهو بيقولّه متقلقش عليها هي هتتعب الفترة الجاية شوّية، هتِفقِد النُطق وهتِسخن لكن بعد كده هتبقى كويّسة!
الراجل مشي وبعدها سمعت بابا بيطلب من علي يشيل قُصادُه البيانو، وسمعت علي وهو بيقول لبابا…
-هنودّيه فين؟
بابا ردّ عليه بعصبية وقالّه…
-هنرميه تحت في أي داهية المهم يخرج من هنا.
…
مكُنتش حاسّة بالوقت، كُل اللي كُنت بحِس بيه من وقت للتاني هو وجود بابا وعلي جنبي، حد فيهم كان دايمًا يعملّي كمادات عشان الحرارة اللي بتجيلي من وقت للتاني.
كُنت بغيب عن الوعي كتير، بَحلم أحلام غريبة، كانت كُلها هلاوس مفيهاش حاجة مفهومة، لغاية ما حلمت حِلم كانت كُل حاجة فيه واضحة، كانت بِنت قاعدة في أوضة لابسة قميص أبيض قُصيّر، بتعزِف على بيانوا زي اللي عندي بالظبط، والغريبة إنها كانت بتعزف معزوفة ضوء القَمر.
فجأة بتدخُل عليها الأوضة واحدة، بشرتها سمرة وملامحها صعبة، كانت بتقولّها…
-مفيش وراكي غير المعزوفة دي؟!
ردّت عليها البنت بخوف وقالت…
-أنا بحب معزوفة ضوء القمر عشان هي على اسمي.
السّت شدَّتها من إيدها وقوِّمتها غصب عنها من على البيانو وقالتلها…
-آخر مرَّة هتقعدي على البيانو يا قَمر.
بَعدَها شوفت في الحلم إن البيانو بيتباع، وإن في واحد بتاع روبابيكيا بيشتريه، كانت البنت واقفة في الشّباك بتعيّط والبيانو بيتشال على العربية، وكان باين على شكل المبنى اللي البنت فيه إنه دار أيتام أو ملجأ.
وبعدها شوفت إن البنت متعلَّقة في السَّقف ومشنوقة بِحَبل، كان شكلها مُرعب وشعرها نازل مغطّي وشّها، وسمعت بعدها صوت بنات بتصرخ وبتقول…
-قَمر انتَحرت!
بعدها شوفت جنازة البنت، ومَكُنتش مستوعبة اللي بشوفه، البنت كانت بتندفن في المقابر اللي قُدَّامنا، في تالت قبر على شِمال القبر اللي قُدَّام البوابة، اللي الكورة دَخَلِت فيه، واللي البنت كانت بتشدِّني جوَّاه قبل ما بابا يشيلني من الأرض جنب البيانو، ومجاش في بالي خالص إن أغلب المقابر اللي جنبنا كانت مقابر صدقة.
وشوفت بابا وهو عند بتاع الروبابيكيا اللي اشترى البيانو، كان بيتكلّم معاه وبيطلب منه بيانو وبيقولّه أنا بشتريه عشان زَمزَم بنتي، عايز حاجة تسلّيها وتخرَّجها من الحالة النفسية اللي هي فيها، ومفيش حاجة أحسن من البيانو عشان هي بتحب تعزف عليه، وشوفته وهو بيشتري من بتاع الروبابيكيا نفس البيانو!
بعدها شوفت لمّا كُنت أنا وعلي بنلعب بالكورة على السطح، ولمّا وقفنا نتكلّم وكان على ساند بالكورة على سور السطوح، البنت كانت موجودة، هي اللي خبطت الكورة من إيد علي ووقّعتها في المقابر تحت، وهي في نفس الوقت اللي كانت أخدت الكورة ودخلت بيها القبر اللي هي مدفونة فيه!
وشوفت نفسي وانا بعزف معزوفة ضوء القَمر وكنت بكرَّرها، وفي نَفس الوَقت كُنت شايفة البنت قاعدة على ضَهر قبرها بتسمعني وانا بَعزف، في المرة دي كُنت شايفة ملامحها كويس، لون عينها كان أبيض وبشرتها لونها أزرق من الموت، كانت عينها بتنزّل دَم وبتصرخ من وقت للتاني وهي غضبانة إني بعزف على البيانو اللي بتحبّه!
قومت من الحِلم مُش مستوعبة، لسّة الدُّنيا من حواليّا مشوِّشة، كُنت شايفة قُدامي كل حاجة طَشاش، لكن لسّه مكُنتش قادرة اتكلّم، بس اللي قِدِرت أفهمه إن الظروف خلَّت البنت تندفن جنب المكان اللي فيه البيانو اللي بتحبه، وإن روحها كانت بتدوّر عليه، وإن حركة الكورة كانت مجرّد إنها تستدرجني عشان تِقدر توصل للحاجة اللي بتحبها عن طريقي.
الحلم دَه رَبط لي الدُّنيا ببعضها، بس إيه يثبتلي إنه مُش هلوسة هو كمان؟!
مع الوقت عرفت إن بابا وعلي نزّلوا البيانو ورموه في المقابر تحت، ولمّا شدّيت حيلي وقدرت أنزل، اتسحَّبت ونزلت المقابر، كان النهار لسّه بيشقشق ومحدش لسّه صِحي، روحت عند القَبر اللي المفروض البنت مدفونة فيه عَشان أتأكّد إن كُنت بهلوس ولا لأ، وفعلًا، اللي مدفونة فيه كانت بنت، اسمها قَمر هلالي، وكان تاريخ وفاتها قبل التاريخ اللي بابا اشترى فيه البيانو بأيام بسيطة!
حسّيت برعشة وأنا بقرأ اسم قَمر وتاريخ وفاتها، خُفت يِحصل زي اللي حصل قبل كِدَه، لفّيت ورجعت البيت بسُرعة، بس بعد ما لمحت البيانو مَرمي قُريّب من قبر قَمر.
قرَّرت إني مُش هَفتح شباك أوضتي تاني ولا هَبُصّ على المقابِر، ومن ساعِة ما بدأت أعمل كِدَه والخوف بدأ يروح من عندي مع الوقت، الدُّنيا رجِعِت طبيعية، مفيش أحلام مُخيفة، هدوء وِبَس، هدوء كُنت مفتقداه من زمان، برغم إنّي دلوقت بعد ما بابا وعلي دخلوا ناموا، شايفة من ورا شيش الشِّباك قَمر وهي قاعدة في المقابِر تَحت قُدَّام البيانو، وبتعزِف معزوفة ضوء القَمر!
***
تمّت…