الدُّنيا بَرد والواحد متلّج، المَطر مُش مقصَّر بصراحة، ومفيش فُرصة أحسن من دي؛ عشان أعمل كوباية سَحلب وأقعُد قُدّام اللاب في أوضتي، وأشوف رِحلِتي هتكون فين النهاردة..
وفعلًا عملت كوباية السَّحلب، ودخلت أوضتي وقفلت عليّا، وبرغم إنّ الدُّنيا مغيّمة، لكن كُلّها نُص ساعة والمغرب يأذّن، والشَّمس تكون غابِت تمامًا، حاوِلت أفكّر في أي مكان أو حدث عشان لمّا الموقع يِظهر يِنقِلني له، بَس تقريبًا مُخّي كان مِتجمّد من البرد، مفيش حاجة راضية تيجي على بالي، أو تِقدروا تقولوا إنّ كُل اللي جِه في بالي كانت أماكِن وأحداث الموقع خلَّاني أزورها قبل كِدَه.
بَس ربّنا بيبعت الفَرَج، لقيت “كريم” بيرن عليّا، مِسكت تليفوني وفتَحت المكالمة وردّيت:
-أخبارك إيه يا صاحبي؟
صوت “كريم” عرَّفني إنّه كان نايم، بَس لقيته بيِحكي في حاجة لَفَتِت انتباهي:
-يا “عصام” أنا حلِمت إنّي في نَفَق طويل وضَلمة، ماكُنتش شايف كويس، بَس كُنت بسمع صرخات صعبة من وقت للتاني:
حطّيت كوباية السَّحلب من إيدي، وبدأت أركّز معاه في اللي بيقوله وقولت:
-طيّب مشوفتش أي حاجة تدل على اسم المكان، أو هو فين؟
-لأ مفيش.. مَشوفتش غير كده وبَس.
هزّيت راسي، وقولت له:
-خير ياصاحبي..
وِقَفَلت…
كلام “كريم” كان شاغِل تفكيري، يعني واحد مقيّل بعد العَصر يشوف نفسه في نفق ضلمة ويسمع صرخات، ياترى إيه السَّبب؟!
مَلحقتِش أفكّر كتير، لأني سِمِعت صوت صرخات طالع من اللاب توب، نسيت إنّي كنت فاتحُه ومِستنّي الموقع يِظهر، بدأت أركّز مع الصّوت اللي طالع، وفجأة لقيتني واقِف في مكان ضَلمة، فيه بَرد شديد، حسّيت إن المكان ريحته موت، مُش عارف ليه الإحساس دَه وصلني، لأوّل مرّة بحِس بخوف في رحلة الموقع بياخُدني ليها، وخوفت أكتر لمّا حسّيت بإيد بتمسكني من كِتفي؛ بصّيت ورايا والخوف مكتّفني، ولقيت اللي بيقول لي:
-إيه اللي جابَك معايا في الحِلم يا “عِصام”؟
حسّيت جِسمي تلّج أكتر، زقّيت إيده وقولت بغضب:
-هو انت يا عم “كريم”!
بعدها دوَّرت على “كريم” لكنّه مَكَنش موجود، تقريبًا اختفى، بَس المكان اتغيّر، ولقيتني واقِف في شارِع فيه لافتة مكتوب عليها “لويزفيل”، وعلى مسافة قُريّبة كان فيه مبنى ضَخم، مكتوب عليه “ويفري هيلز”، السيّارات اللي شوفتها في المكان بتقول إن الزًّمن رِجِع بيّا فترة طويلة، ممكن إحنا مابين ال 1920 و ال 1930، أنا حافظ موديلّات السيارات كويّس، وتخميني بيقول إن الزّمن حاليًا في المرحلة دي، مكُنتش عارف أنا هِنا ليه، وإيه علاقة المكان دَه بالحلم اللي “كريم” حكى عنه، لكن لقيت الدُّنيا حواليّا بتبهت، ومفيش حاجة واضحة غير المبنى اللي عليه “ويفري هيلز”.
زي ما يكون الموقع بيوضَّح لي إن النَّفق اللي كُنّا فيه دلوقت في المبنى دَه، ومَلحِقتش أشوف تفاصيل أكتر في الشّارع، لأني فجأة رجعت لقيت نَفسي في النَّفق تاني!
أوّل حاجة شوفتها في النَّفق لمّا رجعت له هو “كريم”، واللي يادوب بتكلّم معاه لقيته بيرفع إيده عشان أسكُت، وبيقول:
-سامِع؟
ركّزت شويّة عشان أشوفه يقصُد إيه، مكَنش فيه غير الصرخات اللي سِمعتها طالعة من الموقع على اللاب توب، كانت هي نفسها بالظَّبط، بَس كانت جاية من فوق!
ومفيش ثواني، كُنّا في مَمَر مكتوب على حيطانه “Fifth Floor”، الدُّور الخامس، الصرخات هنا كانت عالية جدًا ومُخيفة، دا غير إن البَرد كان أصعب من النفق، “كريم” كان بيرتِعش، وأنا زيّه طبعًا، بَس اللي كان مخلّينا ناسيين كل دَه هو الضلمة اللي بدأت تبلع المَمَر واحدة واحدة، ما عدا أوضة واحدة كانت في نهاية المَمَر، زي ما يكون بابها بينوَّر، كأنّ الموقع كان بيقول لنا إن فيه حاجة موجودة جوّة الأوضة دي، ماكُنتش عارف إذا كُنّا بنقرَّب غصب عنّنا من الأوضة ولا هي اللي بتقرَّب مننا، بَس اللي بقى واضِح جدًا لمّا بابها بقى قُدّامنا هو رقم “502” اللي كان مكتوب على الباب.
باب الأوضة اتفتح لوحده، وظَهر منظر يِمكن ماشوفتش في بشاعته في أي رحلة فاتِت.
كانِت بِنت؛ واضح على هدومها إنّها مُمَرّضة، متعلّقة من رقبتها في السَّقف ومشنوقة بِحَبل..
الباب فِضِل مفتوح، وإحساس جوّايا كان بيدفعني إنّي أدخل الأوضة، دَخلت و”كريم” دَخل معايا، ولمّا بقينا في الأوضة سِمعنا صوت طِفل بيبكي، بَس الأوضة مكَنش فيها غير سرير فاضي، والكُرسي اللي كان تَحت رجلين المُمَرّضة المشنوقة.
ياترى صوت الطفل اللي بيبكي دَه جاي منين؟
المكان اتبدّل بينا وبقينا في أوضة مافيهاش غير طاولة معدنية عليها أدوات طبية، وطاولة تانية فيها حاجة زي الحوض، لقيت “كريم” بيسألني، وهو بيبُص في الأوضة ومستغرب:
-مُش دي طاولة تشريح؟
هزّيت راسي، وقولت له:
-أكيد.. أنا شوفت زيّها في مشرحة قبل كِدَه.
ويادوب خلّصت إجابتي، واتفاجئنا باتنين أطباء ظهروا قُدّامنا، مُش بَس كِدَه؛ دا ظهرت قُدّامهم جثّة على الطاولة، والمشهد بدأ قُدّامنا وهمّا بيشرّحوها، صوت الطفل اللي سمعناه في الأوضة اللي الممرضة مشنوقة فيها كان بيظهر من وقت للتاني، وقفنا في انتظار اللي هيحصل، وبعد شويّة لقيت طبيب من اللي بيشرّحوا بيقول للتاني:
-الحالة دي حامل.
بعد ما فحصوا الحالة مرّة تانية لقيت الطبيب بيأكّد على كلامه، دا كمان كان مطلّع الجنين على كفّ إيده، تقريبًا كان 3 أو أربع شهور.
المشهد اختفى من قدّامنا، والمكان اتغيّر، إحنا في نفس المَمَر اللي فيه الأوضة رقم “502” تاني، مجموعة أطبّاء كانوا واقفين قدّام الأوضة، ومعاهم ورق بيبصّوا فيه، بَس فهمنا إنّ الورق دَه تقرير تشريح جثة الممرضة، والاندهاش كان باين علينا لمّا حد من الأطبّاء قال:
-بَس المُمَرّضة اللي شنقت نفسها دي عزباء ومش متجوّزة.. دا غير إنه مثبت في التقرير إنها عذراء.. هو دَه تفسيره إيه؟!
المرّة دي الموقع مكانش مخلّينا ناخد نَفَسنا، اتفاجئنا إننا واقفين برَّه المَبنى، فيه ناس متجمّعين والدُّنيا زحمة، ماكُنّاش شايفين هُمّا متجمّعين على إيه، بَس النّاس اللي متجمّعة دي بدأت تِبهت، كأنّ أجسامهم بقت شفّافة، وقدِرنا من خلالهم نشوف جثة في الأرض، الدَّم مغرّق المكان حواليها، لِبسها برضه كان بيقول إنّها مُمرّضة، ولحد هِنا سِمعنا صوت واحد من الناس بيقول:
-سِمعناها بتًصرخ من الشِّبَاك قبل ما تِرمي نفسها.
وكان بيشاور على شِبّاك في الدّور الخامِس، اللي هو كان شبّاك الأوضة رقم “502”!
كنت واقِف لوحدي للمرة التانية في نفس الشارع “لويزفيل”، وشايف كل حاجة بِتِبهَت من حواليّا ماعدا مبنى “ويفري هيلز”، بَس المرة دي المبنى حواليه أسلاك شائكة وحواجز، وعليه عبارات تنبيه بعدم الاقتراب وتحذيرات من دخول المبنى، وإن السُّلطات غير مسئولة عن أي شخص يدخل المبنى ويتعرَّض لأي خطر.
ومن السّيارات اللي شوفتها حواليّا قبل ما كُل حاجة تِبهت عرفت إننا في بداية التمانينيات، زي ما يكون الموقع قاصِد يعرَّفني الزمن من موديلات السيارات..
اتنقلت فجأة جوّة المبنى، واتفاجئت إن “كريم” المرّة دي مُش معايا، انتظرته يِظهر لكن دَه محصلش؛ فعرفت إني غالبًا هاكمّل الرحلة لوحدي.
بدأت ألاحظ إن المكان بقى خرابة، ومن الحاجات اللي شوفتها مرميّة في الأرض عرفت إن المبنى لمّا اتهَجَر بقى مأوى للمشرّدين والمُدمنين، ماهو اللي على الأرض قدّامي دَه مخلّفات تعاطي مخدّرات.
وكان فيه هناك حاجة تانية بدأت تِلفِت نَظري، فيه خيال بيتحرَّك في المكان، زي ما يكون بينوّر نور باهِت في الضلمة، بيِظهر ويِختِفي، لحد ما ظَهر قُدّامي بدرجة كافية اللي تخلّيني أعرف إن دَه شَبح المُمرّضة اللي شَنَقِت نَفسها.
المرة دي كانت بتبُص ناحيتي، وده اللي خلّاني أفتِكر إنها شايفاني، وأنا متعوّد في رحلاتي مع الموقع إنّي بكون مُش متشاف لأي حاجة موجودة، ودَه اللي خلّاني أستغرب، بَس لمّا ركّزت شوية لقيتني سامِع صوت خطوات ورايا، بَصّيت لقيت اتنين شَباب داخلين المَبنى، ومعاهم مُخدّرات، وده اللي أكّد صحّة تخميني إن المبنى لما اتهَجَر اتقلب وبقى وَكر، لكن اللي ماكُنتش متوقّعه، إن شبح المُمرّضة بدأ يِهاجم الاتنين، وهُما كانوا بيلتفتوا حوالين نفسهم من الرُّعب، لحد ما الخوف خلّاهم يهربوا من المبنى.
من بعدها شَبَح الممرضة اختفى، وبدأت تِظهر أصوات ناس بتنازع، صرخات شديدة كفيلة بإنك تتخيل درجة الألم اللي حاسس بيها الشَّخص اللي بيصرُخ، وبدأت كُل الأصوات والصرخات تختفي، ماعدا صرخة واحدة، معاها اتنقلت للدور الخامس، عند أوضة رقم “502”، المَمَر كان مليان مَرضى، السُّل واكِل جِسمهم، ومفيش أمل في إنّهم يعيشوا، وفهمت إن الدور دَه كان متخصَّص للحالات دي، لكن اللي بيحصل دلوقت قُدّامي خلّاني أعرف إيه سر الأوضة رقم “502”.
كان فيه مريض بين المَرضى، شَكله بيقول إنّه أسوأ حالة فيهم، كانوا شايلينه على نقّالة وداخلين بيه الأوضة رقم “502”، واللي كان في الوقت دَه مكتوب جنب الرقم ” death”، الاحتضار!
المريض كان شاب في التلاتينات، بَس مرض السُّل خلَّى شكله عجوز عنده تسعين سنة، صوت منازعته كان مُرعب، لمّا دخّلوه أوضة رقم “502” وقفلوا عليه لقيت نفسي معاه جوّة، مع الوقت كان بينازِع أكتر، لحد ما بدأ صوته يروح واحدة واحدة، وفجأة جِسمه اتنفض نَفضة متحرَّكش بعدها تاني!
الأحداث ماوقفِتش لحد هِنا، روح المريض بدأت تتجسّد في شَكل شَبح، لما انفصل الشبح عن الجثّة كان بيبُص لنفسه وهو ميّت وبيبكي، وبعدها كان في حالة هَياج صعبة، وبدأ يكسّر في الأوضة!
بعد شويّة باب الأوضة اتفتح، ولمّا الأطباء دخلوا ولقوا المريض مات، وشافوا الأوضة تقريبًا متدمّرة استغربوا، ماهو مستحيل يكون المريض اللي عزلوه هنا عشان بيموت يِقدر يِعمل دَه وهو بيحتَضر، كان على وشوشهم اندهاش غريب من اللي شايفينه، بَس هُما لو شايفين اللي أنا شايفُه دلوقتي ماحدش فيهم كان هيندَهِش أبدًا..
شَبح المريض كان واقِف في رُكن الأوضة، بيضحك بطريقة مُخيفة، وهمّا بيشيلوا الجثة عشان يخرّجوها، وكأن ضِحكته دي كانت تهديد للي هو ناوي يعمله.
الأحداث بدأت تدور قُدّامي في الأوضة، الزمن بيتغيّر من وقت للتاني، مرضى في المرحلة الأخيرة بيخرجوا، وبيطلعوا بعد شويّة جُثث، بَس الغريب إن مُش السُّل هو اللي كان بيقضي عليهم، دا كان شَبح المريض اللي مات قُدّامي هو اللي بيخلّص عليهم بنفسه، زي ما يكون بيقول مُش أنا بَس اللي هموت!
الوقت اتغيّر، شريط أحداث ومستمر قُدّامي، لحد ما ملامح الأوضة اتغيّرت، زي ما تكون بَقِت سَكَن، وفعلًا بابها اتفَتَح ودَخلِت مُمرّضة، هي نفس الممرضة اللي شوفتها أنا و”كريم” مشنوقة، ومن الواضِح كده إن دي أوّل ليلة لها في الأوضة دي، واللي بمرور الأيام والشُهور بدأت تعاني من حالة عصبية، حتّى إنها ظهرت قُدّامي، وكان معاها زميلتها بتحاول تهدّيها، وكانت بتقول لها:
-أنا بَحِس بحد بيعتدي عليا وأنا نايمة!
زميلتها مَكَنِتش مصدّقاها عشان اتعرفت في المصحّة إنها بتعاني من حالة عصبية، لحد ما الوقت عدّى، وشوفت نفسي أنا و”كريم” في نفس المَشهد اللي شوفناه قبل كِدَه، أنا وهو واقفين، والممرضة مشنوقة، وصوت طفل بيبكي، تقريبًا كِدَه الموقع قصد بصوت الطفل دَه إنّه يعرّفنا قد إيه شَبح المريض كان غبي في انتقامه، زي ما يكون بيعاقِب المصحّة إنها ماعرفِتش تنقذ حياته، برغم إن في الوقت دَه مكنش فيه أي علاج لسّه اكتشفوه للسُل، يادوب كان علاج بأشعة الشَّمس والهواء النقي، وتقديم أكل كويس للمريض، وهو وحظّه؛ يا يعيش ويكمّل، يا يموت وده بيكون نصيبُه!
أنا دِلوقتي في النَّفق من تاني لوحدي، لحد دلوقت “كريم” مظهرش، وبشوف من وقت للتاني نقّالة شايلة جثّة حد مات بالسُّل، وفي آخر النفق كان بيتفتح باب بمجرد ما النقّالة توصل عنده، وكان اللي ساحبين النقالة بيدخلوا الجثة في سيارة نقل الموتى، وبيرجعوا تاني.
فهمت إن دَه النَّفق اللي بيخرَّجوا منه الموتى، عشان كِدَه كُنت حاسس فيه بريحة الموت في أول مرة اتنقلت فيه هِنا، وفهمت ليه سِمِعت الصرخات اللي سمعتها، كانت أرواح الجثث اللي الشَّبح كان بيخلّص عليها قبل السُّل ما يقوم بدوره، عشان كِدَه غالبًا، مُش شَبح المريض اللي شوفته هو اللي بينتقم بَس، دا أكيد كُل روح اتقتلت، هتنتِقم لنفسها.
رجعت أوضتي بعد الرحلة وكنت قاعد قُدّام اللاب، بَفتِكر الحِلم اللي “كريم” اتصل يبلغني به، واللي الموقع أخدني في رحلة لنفس المكان عشان يعرّفني سِر الموضوع كلّه، ولقيت نَفسي بَمسك تليفوني وبتصل بـ “كريم”، رد عليّا بعد كام رنّة وقال:
-مالك يا “عصام”! أول مرة ترن في وقت متأخّر كِدَه! حصل حاجة؟!
-لأ مفيش حاجة.. بَس حبّيت أقول لك إن النفق اللي أنت شوفته في الحِلم موجود في مصحّة اسمها “ويفري هيلز” في أمريكا.. بَس الموضوع مُش في النفق نفسه، الموضوع بدأ من أوضة رقم “502”.
-أنا مُش فاهِم حاجة.. أنت عِرفت إزّاي المكان اللي قولت إني شوفته في الحلم؟
-عِرِفت وخلاص.. بُكره في الجامعة لمّا نتقابل هحكي لك القِصّة بتاعته.
***
تمت.