قصص

قصه زقاق البانسيون

عمري ما اتخيلت إني أرجع أحكي عن الأيام دي، لكن الظاهر كده إني لو ما اتكلمتش وحكيت، فالهواجس دي هتفضل تطاردني في كل لحظة.. في يوم عجيب نزلت القاهرة أخلص شوية ورق، لأني كنت مسافر أشتغل بره، السفرية اللي بقالي مدة مستنيها، كنت متخيل إن الأمور هتكون عادية جدًا؛ يومين تلاتة في القاهرة وأرجع بعدها البيت ألم وأجمع حاجتي وأسافر، وأبدأ صفحة جديدة في حياتي.
كان لازم ألاقي مكان أقعد فيه، هما ٣ أيام بس يعني وهيعدوا.. مش مستاهلة أدور على فندق غالي..
فضلت أدور على النت؛ لحد ما لقيت بنسيون قديم في الحُسين.. السعر كان معقول والمكان كده شكله “كلاسيكي”، بيجمع بين الأصالة والهدوء اللي أنا محتاجهم.. قررت على طول بعد ما شوفت الصور أحجز فيه.. ودي كانت غلطة عمري.

يومها وصلت القاهرة على العصر كده، قولت آجي بدري يوم اتفسح واقضي يوم حلو، ومن محطة رمسيس أخدت تاكسي على وروحت البنسيون.. وأنا في الطريق كنت مبسوط بشوارع القاهرة القديمة، الزحمة، البيوت، الناس.. لحد ما التاكسي وقف قصاد زقاق ضيق، والسواق قال لي إن البنسيون في الزقاق ده، أو الممر الضيق، واللي منكم راح خان الخليلي مثلاً هيعرف شكل الشوارع هناك.. أخدت شنطتي ونزلت، حاسبته والتاكسي مشي.. دخلت جوه الزقاق والبنسيون كان في آخره.. مبنى قديم.. كان واضح إنه من عصور قديمة، يجي فات عليه ٢٠٠ سنة وأكتر.. لما دخلت جوه البنسيون، شوفت الحيطان باهتة، الأبواب خشبها دايب وباين عليه العمر الطويل.

قربت من الاستقبال، ماكنش فيه أي حد إلا راجل عجوز قاعد ورا مكتب.. بص لي بعينيه اللي كإنهم عنين ميتين من غير ما ينطق كلمة، رميت عليه السلام، وقولت له على الحجز اللي حجزته قبل ما آجي.. مد ايده في درج من إدراج المكتب، ومن غير ما ينطق كلمة إداني مفتاح مش مكتوب عليه رقم، وشاور لي على سلالم خشب، فيما معناه إن الأوضة فوق، طريقة مريبة؛ بس قولت يمكن الراجل عنده مشاكل صحية ولا حاجة، أو يمكن ده الأسلوب هنا، وماركزتش بصراحة، هما ٣ أيام، وأنا هقضي معظم الوقت في الشارع، أنا مش محتاج كلام ولا ناس، كل اللي محتاجه سرير، أرمي نفسي عليه وأنام آخر كل يوم..

طلعت من على السلم الخشب، السلم كان بيزيء من كتر ما هو قديم، ولقيت ممر في ١٠ أوض بالعدد، كلهم عليهم أرقام من ١ ل٩، ما عدا أوضة واخدة، ففهمت إن دي أوضتي، تقريبًا كسلوا يكتبوا عليها رقم.. فتحت الباب بالمفتاح ودخلت، لقيت نفسي جوه أوضة صغيرة وضيقة، الشباك بيبص على الحارة الضيقة أو الزقاق، والسرير شكله قديم جدًا. فكرت نفسي: هنا تلاتة أيام وهمشي، عادي يعني.. ماكنتش عارف إن دي هتكون أول ليلة من كابوس هيفضل محفور في عقلي وذكرياتي طول حياتي..
سيبت حاجتي ونزلت اتمشيت شوية، الحسين، الغورية وكل الأماكن اللي حواليهم، وبعد اللف والمشي تعبت، فرجعت البنسيون، كان الراجل لسه قاعد زي ما هو، سألته عن الحمام، فشاور لي إنه فوق برضو، لما طلعت لقيت في ٣ حمامات صغيرين، الممر كان ممتد بس أنا ماخدتش بالي، أخدت دش ودخلت أوضتي مرهق وتعبان.. رميت نفسي على السرير، بس ماجاليش نوم، لما الواحد مننا بيغير فرشته مابيكونش مرتاح.

أول ليلة عدت عليا ببطء.. أول ما حطيت راسي على المخدة سمعت صوت.. صوت خطوات، خطوات تقيلة، بطيئة، زي ما يكون حد مش قادر يشيل رجله من علل الأرض..
قومت من على السرير بسرعة، فتحت الباب، وبصيت برا.. وبما إن الأوضة على السلم تقريبًا، فبصيت مالقيتش حد طالع ولا نازل، الدنيا كلها ساكتة ومافيش أي حد ولا حاجة غريبة.. قفلت بابي ورجعت بصيت من الشباك، لقيت إن الحارة كمان ساكتة، رجعت فردت جسمي على السرير، حاولت أنسى اللي سمعته.. لكن مع مرور الوقت، الصوت بقى أوضح وأقرب.. أنا مش عارف إيه اللي خلاني أطلع من السرير وأقرر أفتح الباب تاني، لكن لما عملت كده، شوفت ضوء ضعيف ساقط على السلم، زي ضوء المسرح بس ضعيف، ولمحت جسم غريب كان بيتحرك ببطء نازل تحت، الجسم ده كان طويل بطريقة غير طبيعية، وحركته بتديك إحساس إنك شوفت شبح أو دخلت جوه كابوس، كابوس بطيء بيمشي على رجلين مش ثابتين.
خوفت، دخلت أوضتي وقفلت الباب، وهنا بدأت أسمع صوت أنفاس بطيئة وقريبة جدًا. حسيت إن في حد معايا جوه الاوضة، لكن مش قادر أشوفه ولا أعمل حاجة.. لكن ده استمر ثواني واختفى، وكل حاجة رجعت طبيعية، شغلت قرآن على تليفوني، ولما ركزت مع القرآن هديت ونمت.

تاني يوم الصبح، صحيت وأنا حاسس إن اللي حصل امبارح مجرد حلم، لكن لما فتحت عيني، لقيت الأوضة زي ما هي، نفس الحيطان القديمة، نفس السرير الخشب اللي بيصرخ مع كل حركة بسيطة.. حاولت أقنع نفسي إن الصوت اللي سمعته بالليل وهم، يمكن من الإرهاق أو الضغط اللي أنا فيه.. بس في حاجة جوايا كانت بتقول إن اللي حصل مش عادي، وإن فيه حاجة غلط في البنسيون ده.
نزلت عشان أفطر في الصالة اللي تحت، كانت فاضية تمامًا، ما فيش نزيل غيري، ولا حتى فطار.. ونفس الراجل العجوز اللي استقبلني امبارح كان قاعد ورا المكتب، لكن المرة دي كان بيتابعني بنظرات عينيه الصامتة، زي ما يكون عايز يقولي حاجة بس مش قادر، ماكنش في أي صوت في المكان غير صوت عقارب الساعة اللي متعلقة على الحيطة وبتدق بهدوء مخيف.
سألته إذا كان فيه نزلاء تانيين في البنسيون، وأخيرًا رد عليا، قال ببرود:
_ لا.
حسيت بخوف مع إنها كلمة واحدة اللي نطقها، وسألته بنفس الخوف:
_ إزاي؟ يعني مافيش ولا حجز واحد، وصاحبه هيجي حتى؟
فضل باصص لي.. صمت رهيب استمر لدقيقة مثلًا، وبعدها كسره وقال:
_ البنسيون قديم، وفي حارة ضيقة.. قليل اللي بيعرفوا يوصلوا هنا.

بصراحة رده مكانش مقنع، رد مريب من راجل عجيب، حسيت إن الراجل مخبي سر، مخبي حاجة مش طبيعية.. فكرت إني أسيب المكان الغريب ده وأروح أدور على مكان تاني، لكن رجعت قولت لنفسي: وأنا مالي، أنا هقضي ليلتين وأمشي، بس كان جوابا إحساس بالفضول، أنا هبعد استكشف البنسيون ده..

خدت بعضي ومشيت، فطرت في الشارع، واتسحلت في تخليص الورق بتاع السفر.. اليوم عدى ببطء، وفضلت برا البنسيون طول النهار، خلصت ورقي ومشيت في شوارع الحسين، لكن في كل لحظة حاجة بتشدني للمكان ده وكأنه بيناديني أرجع، وإني مش هقدر أهرب منه بسهولة.. ورجعت بعد المغرب.
أول ما دخلت البنسيون، حسيت ببرودة غريبة في الجو. الصالة كانت زي ما هي، ساكتة، والراجل العجوز في مكانه، طلعت أوضتي، ولما فتحت الباب وقفت مستغرب، لأني لقيت ورقة صغيرة على السرير، قربت وأخدت الورقة، ولقيتها مكتوبة بخط قديم جدًا، والحبر بتاعها باين إنه بقاله سنين، وقريت فيها جملة رعبتني ونشفت ريقي:
“اخرج قبل فوات الأوان.”
بقيت هتجنن: مين اللي ساب لي الورقة دي؟ الراجل العجوز؟ حد تاني في البنسيون؟ الصوت اللي سمعته امبارح؟ بدأت أحس إن في حاجة بتحصل مش مظبوطة.. مااتحركتش من الاوضة، قفلت الباب على نفسي وفضلت باصص للورقة، وأنا مش فاهم الجملة اللي مكتوبة فيها تفسيرها إيه، لكن حاولت أكون ميتعد، لإيه ما أعرفش، بس أكيد اللي جاي أخطر بكتير من اللي فات..

السكون اللي جوه وبره البنسيون كان مش طبيعي، استنيت كنير، الوقت أتأخر ومافيش حاجة بتحصل، حاولت أنام، لكن عقلي رفض يسيبني في حالي، كل شوية أفتكر الورقة وأبصلها، وأفتكر الصوت والخطوات اللي سمعتهم امبارح.
ومافاتش كتير؛ لحد ما بدأت أسمع الصوت تاني، نفس الخطوات التقيلة اللي سمعتها في الليلة الأولى، الصوت جاي من عند السلم، بس مش نازل ولا طالع، الصوت المرة دي المرة أقرب، لإني حاسس بيه جاي ناحية أوضتي.

قومت من على السرير بسرعة، قلبي بيدق جامد، لكن حاولت أهدى عشان أقدر أواجه اللي بيحصل.. مشيت ببطء وفتحت الباب، نفس الضوء الضعيف ساقط على السلم، نفس الشيء اللي لمحته ليلة امبارح، بس المرة دي زي ما يكون بيهرب، أول ما حس بباب أوضتي بيتفتح، جري ونزل على السلم.. لقيت نفسي بمشي في اتجاه السلم وبنزله، ولما وصلت لنهاية السلم، سمعت صوت جاي من ورا الحيطة اللي في نهايته، زي صوت حد بيتكلم.. قولت يمكن الراجل العجوز، لكن لما ركزت، لقيته صوت مكتوم.. قررت أدور أكتر وأكتشف الصوت ده جاي منين، بصيت على الراجل العجوز لقيته نايم وبيشخر، ندهت عليه ماردش، قربت منه وصرخت في ودنه، ولا الهوا برضو، ولولا إنه كان بيتنفس كنت قولت ده مات.. الصوت فضل مستمر، صوت مكتوم طالع بالعافية، فضلت اتصنت لحد ما لقيت ستارة قديمة، ووراها لقيت تجويف يشبه محاريب المساجد، وفيه باب خشب، فتحت الباب، وساعتها لقيت سلم حديد زي بتوع المطافي بينزل تحت الأرض.. إحساسي بالخوف زاد، لكن فضولي كان أقوى.. سميت الله ونزلت السلم، صمت رهيب، مافيش أي صوت غير صوت خطواتي وأنا بنزل.
لما وصلت لآخر السلم الحديد تحت، لقيت نفسي جوه أوضة ضيقة زي القبر، بس سقفها عالي شوية، ريحتها كانت لا تطاق، زي ما يكون فيها جثث بدأت تتحلل، فضلت أكح وسديت مناخيري وبؤقي بكمي، لسه النور الخافت اللي شبه ضوء المسرح موجود، ومنور لي إني أشوف.. ولمحت في وسط الأوضة صندوق خشب قديم، فتحته بهدوء وأنا إيديا بتترعش، وياريتني ما اتنيلت ولا فنحته، صرخت ووقعت على الأرض، كان جواه ولقيت جواه جمجمة بشرية.. فضلت استعيذ بالله من الشيطان الرجيم، حاولت آخد نفسي وأهدى، قربت تاني من الصندوق، وبصيت حواه، لقيت جمب الجمجمة دفتر قديم صفحاته متآكلة.. مسكت الدفتر وبدأت أقلب صفحاته براحة عشان هي كانت دايبة، الدفتر مكتوب فيه أحداث غامضة من سنين فاتت، عن نزلاء كانوا بيسكنوا في البنسيون ده واختفوا فجأة،.

بمجرد ما قريت الكلام ده حسيت بأنفاس حد ورايا، قلبي كان هيوقف. الهمسات اللي سمعتها قبل كده بقت واضحة أكتر، وكأنها بتقول: “اخرج”. بس قبل ما أقدر أتحرك، حسيت حد واقف ورايا، لفيت بسرعة بس مالقيتش حد.

جريت بسرعة ناحية السلم، بس لسه حاسس إن في حد معايا، أصوات همسات مخيفة، زي ما يكون في حد بيقرب مني وأنا مش قادر أشوفه، حسيت برعشة جامدة في جسمي زي ما أكون اتكهربت، الدم نشف في عروقي، وماكنتش قادر استوعب كل اللي بيحصل.. حسيت إن رجليا مش شايلاني، فماقدرتش أطلع على السلم لأن أعصابي سابت، وقفت لحظة وحاولت أسيطر على نفسي، قرأت اللي جه على بالي من القرآن وقررت أواجه الموقف:
_ مين هنا؟.
صوتي كان مهزوز، لكن لازم أكون شجاع.. رد صوت من العدم
ـ أنت ماينفعش تكون هنا.
_ أنت مين؟ وليه أنا هنا؟
مافيش إجابة، اتوترت، خوفت، لحظات عدت كأنها ساعات، كان لازم أهرب، الخوف بيخلي ويجبر الواحد إنه يتغلب على أي حاجة، طلعت السلم بسرعة، ومنه جري على الأوضة، ورغم سرعتي؛ إلا إني لمحت الراجل العجوز لسه نايم.. أخدت السلم جري لحد ما دخلت الأوضة وقفلت الباب بالمفتاح، كنت مقرر آخد شنطتي وأهرب من الجنان والجحيم اللي أنا دبست نفسي فيه، لكن للأسف؛ أنا بقيت مجبر.. لما دخلت الأوضة لقيت على السرير مجموعة صور، ونفس الدفتر المتهالك اللي أنا متأكد مليون في المية إني سيبته تحت، وبما إن ده بنسيون العجب، فأنا عودت نفسي على المفاجآت.. بصيت في الصور، أول صورة جت في إيدي كانت لواحدة ست، شعرها طويل، عينيها واسعة، مبتسمة، لكن ابتسامة مرعبة، كإنها هي مرعوبة لما اتصورت، أو زي ما تكون بتحذرني وبتقول لي: “اخرج قبل فوات الأوان.”
فتحت الدفتر على أول صفحة، وبدأت أقرأ، زي قصة قصيرة، أو حكاية، حكاية عن نزلاء سابقين في البنسيون، كلهم اختفوا. الأسماء متشابهة إلى حد كبير، بصيت للصور من جديد، ولاحظت إن معظم الناس اللي في الصور متشابهين في الملامح، زي ما يكونوا عيلة واحدة، قولت لنفسي ساعتها: لازم أخرج من هنا فعلًا.. بس إزاي؟ حسيت إن البنسيون رافض يسيبني أهرب، كإنه سّجَان قافل الباب والمنافذ كلها.
حسيت بحركة حواليا، وصوت بيهمس في ودني:
“خالد، أنت ماينفعش تخرج.”
صرخت: أهرب ولا أبقى، أخرج ولا هتحبس هنا، جننتوني، رعبتوني، بس بقى، بس، بس.
أعصابي باظت جدًا، قعدت على السرير وأنا بسأل نفسي: مين الناس دول، وإيه الدفتر ده، يا رب أنا مش حِمل كل اللي بيحصل لي ده.. سمعت صوت:
“خالد.. القدر مالوش تفسير، ولا يعرف منطق ولا أسباب واحتمالات، والقدر جابك هنا.. عشان تعرف.”
بصيت ورايا بسرعة لمصدر الصور ناحية الشباك، ولقيت خيال زي ما يكون ماشي في الحيطة، وعند الشباك اتسحب من تحته واختفى.
هنا قولت لنفسي: دي نهايتك يا خالد، يعني اللي بيبقى راكب أتوبيس ومسافر لشغله، والأتوبيس يتقلب، وهو بس اللي يموت، ده بيرجع لأي تفسير منطقي؟ أكيد لا، هو ده القدر، بنوقف قدامه نستعجب.

عشان كده قولت أحاول، يمكن القدر مش في الموت، يمكن يكون بياخدني لاكتشاف لغز.. تفكيري ساعتها خلاني أفتح الدفتر وأركز مع اللي مكتوب جواه.
قلبت في الدفتر، لقيت صفحة مكتوب فيها:
(ليلى عبد الحق الدمرداش، ٥ سبتمبر ٢٠٢٣)
يا دي النيلة المطينة، ده كان تاريخ إمبارح، يعني تاريخ اليوم اللي أنا وصلت فيه البنسيون، يعني إيه الكلام ده بقى؟ يعني ليلي دي هربت وكتبت المذكرات دي وقبل ما تهرب خبيتها في البدروم، أو القبر اللي تحت؟
طيب هربت ليه، ومن مين، وإزاي؟.. دماغي كانت هتنفجر من كتر التفكير.
قلبت تاني في صفحات الدفتر، لقيت مكتوب في صفحة جملة واحدة من كلمة ورقم: “الغرفة ١٠”.
جريت بسرعة على بره، بصيت في الممر، ترتيب الأوضة كان من جوه لبره، يعني رقم واحد هو أول أوضة في آخر الممر، يعني ده معناه إن الأوضة اللي أنا فيها هي رقم.. قولتها بصوت عالي: رقم ١٠.. أنا لازم أركز في الحاجات اللي بكتشفها دي، أكيد في الآخر هتوصلني لحل.. قولت لنفسي: يبقى الحل في الأوضة، لازم أقلب الأوضة وأفتش فيها شبر شبر..
جيت أتحرك لقيت حاجة كإنها كلبشت رجلي، عيني جت على آخر الممر عند السلم، ولقيت خيال واحدة، ثابتة، لكن مافيش ملامح، هي مجرد خيال زي خيالنا على الحيطة في الشمس، أو في ضوء الكشاف والنور قاطع.. صمت تام، والخيال متخشب زي ما أنا متخشب، وفجأة خيال الست نزل من على السلم، وأنا رجليا فكت، جريت على الاوضة وقفلت الباب على نفسي..
وقفت ورا الباب آخد نفسي، قلبي من كتر الرعب تقريبًا كان هيخرج بره صدري، فتحت الدولاب، فضلت أفتش فيه، لحد ما لقيت لوحة، لوحة على ورق مقوى، اللي هو زي الكارتون ده ومش كبيرة، اللوحة دي مرسومة بطريقة غريبة جدًا، ١٠ أشخاص، بس بنفس نمط رسم الإنسان كالتالي: الرأس دايرة، نازل منها خط مستقيم، متفرع منه خطوط الإيدين والرجلين، واللي يميز الراجل عن الست هو شعر الراس، ٣ ستات كبار، راجل عجوز، شاب في العشرينيات، و٥ بنات في أعمار ما بين ٣ سنين ل١٧ سنة.. تسريحات الشعر وألوانه بتدل على كده، اللي راسم الصورة دي قاصد يوصل رسالة غير مباشرة، مش مجرد شخبطة أطفال، أو حد بيجرب، ده حد متمكن من اللي بيعمله.

أخدت اللوحة، أو الرسمة اللي ماكنتش كبيرة والصور والدفتر وحطيتهم في شنطتي، اللي بستعملها أشيل جواها التليفون والفلوس والكتب اللي بحب أقراها.
ورجعت أدور أكتر، كان في برواز متعلق على الحيطة، شيلته وبصيت وراه، كان في زي حفرة في الحيطة صغير، زي ما يكون اللي عملها، استخدم شكوش وسكينة، أو مفك، عشان بس يخبي فيها حاجة، ولما قدرت أخرج اللي جوه الحفرة، كانت سلسلة، فيها دلاية عبارة عن دايرة على هيئة علبة، لما فتحتها؛ لقيت فيها صورة عائلية ل١٠ أشخاص.. نفس الناس اللي في الصور اللي لقيتها على السرير.. بس في حاجة غريبة هنا، رجعت للصور على السرير لقيتهم ٩ صور، كل صورة فيها شخص واحد بس، أما الصورة في السلسلة ففيها ١٠ الأشخاص، بس مش ده الغريب، الغريب بقى إن الشخص العاشر اللي موجود في صورة السلسلة، ومش موجود في الصور اللي على السرير هو.. أيوا بالظبط كده، هو الراجل العجوز اللي تحت..
أنا كده بجمع الإشارات عشان تتقعد أكتر مش عشان تتحل، نفوخي كان هيضرب من الجنون، كان كتير على عقلي إنه بقدر يستوعب كل ده، أنا لو عليا أطلع أقول البنسيون أنا أهو، موتني وأخلص.. لكن رجعت فكرت، هو إيه اللي أنا بقوله ده، أنا في مصيبة سودا، ولازم أقدر أهرب وأخرج من هنا بأقصى سرعة..
لميت كل حاجتي، ونزلت على السلم، وساعتها مالقيتش الراجل العجوز.. لقيت مفاجئة أكبر، اتخشبت مكاني، شوفت بنت في مرحلة المراهقة داخلة من باب البنسيون، ماسكة في إيدها بنت عندها يجي ٣ سنين، وحواليها ٣ بنات في سن ٨ أو ١٠ سنين.. هما هما البنات اللي في الصور.. عدوا وماشافونيش، كإني سراب، فضلت متسمر مكاني، مش عارف أتحرك، يا دوب بتابعهم بنظراتي وبس، طلعوا على السلم، وأختفوا من قدامي.. ساعتها جسمي فك، عيني جت على باب البنسيون.. ماكنش فيه باب أصلًا، مجرد حيطة، ومافيش أي مخرج.. ده معناه إيه؟.. طبعاً مافيش إجابة.

جريت بسرعة طلعت السلم، البنات مالهومش أي أثر، وقفت أفكر، يا ترى راحوا فين؟ طيب ده بجد ولا وهم، بس استنتجت إنه بجد، لما فتحت الشنطة لقيت الصور والدفتر واللوحة والسلسة لسه معايا.. هنا قررت أفتح الأوض، أكيد الأوض دي فيها أسرار كتير.. بدأت من آخر الممر، فتحت الأوضة رقم ١، وياريتني مافتحتها، لأني لقيت اللوحة على الأرض، والبنت اللي في سن المراهقة جمبها مدبوحة.. فتحت الشنطة بسرعة، عشان ألاقي اللي خلاني بقيت هتجنن.. لقيت اللوحة.. لا كده كتير بجد، ده جنان رسمي، دي حاجة عدت مرحلة الجنان بمراحل.. لما رجعت بنظري للبنت واللوحة على الأرض، لقيتهم اختفوا، والأوضة اتحولت لمكان مهجور، كل شيء فيه مترب وقديم.. خرجت بسرعة بره الأوضة وقفلت بابها، قولت لنفسي: هل ده معناه إني لو فتحت كل أوضة هلاقي جثة؟ كده يبقى في حد قتل الناس دي ودفن كل جثة في أوضة؟
فتحت الأوضة رقم ٢، واللي حسبته لقيته، جثة البنت الصغيرة اللي عندها ٣ سنين، لقيتها على السرير مدبوحة بنفس الطريقة، ماوقفتش لحظة بمجرد ما شوفتها، قفلت الأوضة بسرعة، وقفت بنهج، الموقف يخلي القلب يوقف، وبعدها كملت، فتحت الأوضة رقم ٣، و٤، و٥.. ال٣ بنات مدبوحين بنفس الطريقة، ونفس المكان على الرقبة، بنفس الجرح وطوله، أو القطع.. وقبل ما أفكر في أي حاجة؛ صدمة جديدة حصلت.. سمعت صوت خطوات جاي من عند السلم، صوت بيوحي إن في حد طالع؛ لحظات وظهر قصادي شاب بين سن ال٢٠ وال٢٥، تقريبًا في المرحلة دي من عمره، بيصفر، ومبسوط عادي جدًا، ماكنش شايفني، مشي لحد ما دخل أوضة رقم ٦ وقفل الباب، جريت فتحت الباب بسرعة.. عشان ألاقيه حصله زي البنات، نفس كل حاجة هي هي.. بس جمبه الدفتر المتهالك.

سمعت صوت باب بيتفتح، الأوضة رقم ٧، ولمحت ست دخلتها، بس مش ليلى، واحدة من الاتنين التانيين، ولما دخلت الأوضة كان معمول فيها زي غيرها..
بقيت هتجنن، مش قادر أفكر، يعني أنا ميت ولا حي، صاحي ولا نايم، اتجننت ولا لسه بعقلي.. ست تانية ظهرت، ودخلت أوضة رقم ٨، نفس الحكاية، ميتة نفس الموتة، بس جمبها السلسلة.. وساعتها ظهرت ليلى، لقيتها واقفة على باب أوضتي، الأوضة رقم ١٠، المرة دي كانت بصة لي، كانت شايفاني مش زي الناس اللي قبلها، فتحت باب الأوضة وقالت لي قبل ما تدخلها:
“القدر يا خالد.. القدر لازم يتحقق.. حاول تخرج من هنا، أو تكون هنا للأبد”.
بلعت ريقي، جريت فتحت الأوضة رقم ٩، وعلى عكس كل مرة، الأوضة فاضية، أنا توقعت هلاقي الراجل العجوز ميت فيها زي الناس التانية، لكن مالقيتهوش، وهنا ربطت كل حاجة ببعضها وبدأت أفهم:
كل شخص حاول بطريقة ما يسيب علامة هنا، لما حس بطريقة ما إنه هيموت ومافيش مفر من الموت، البنت سابت اللوحة، الشاب ساب الدفتر، البنات الصغيرين عقلهم ماجبهمش يتصرفوا كده، والاتنين الستات سابوا السلسلة.. وكده يبقى الجمجمة اللي تحت هي جمجمة الراجل العجوز.. جريت فتحت الأوضة بتاعتي، ولقيت المفاجأة الأكبر، ليلى مدبوحة هي كمان وجمبها الصور.. الدولاب مفتوح زي ما سيبته، والبرواز متشال من على الحيطة زي ما أنا شيلته، ووراه الفتحة اللي لقيت فيها السلسلة.. مين بقى اللي قتل كل الناس دي؟
ولاحظت حاجة أغرب وأغرب.. الناس كلهم لابسين لبس يدل على فترة الستينيات..الناس دي ميتة من السنينيات؟ أومال إزاي الإعلان اتكتب في ٢٠٢٣؟
يا رب هو أنا كل ما أوصل لحل، ألاقي لغز جديد ظهر، يدمر لي كل حاجة وصلت لها؟!

قولت لنفسي: أنا لازم أدور على مخرج في البنسيون ده، أقدر أهرب منه وأنقذ حياتي، أنا لا عايز أعرف مين عاش ولا مين مات.. لفيت عشان أخرج، الباب اتقفل، حاولت أفتحه، مرة واتنين وتلاتة، ولا الهوا، كل المحاولات فشلت، ومن ورايا سمعت صوت بيأن، واتحول في لحظة لصوت عياط هستيري، لقيت ببطء وأنا حاسس إني خلاص هموت، وساعتها انصدمت صدمة عمري، لأني شوفت ليلى قاعدة على السرير.. قبل ما يخرج مني أي رد فعل، لقيتها قالت لي وهي منهارة من العياط وبصوت فيه ندم:
_ اللعنة يا خالد.. البنسيون ده ملعون، أنا ماكنش قصدي، مش أنا، مش أنا اللي قتلتهم.
لاحظت إن ليلى أو شبحها، أو أيًا كان مسمى اللي بيكلمني بشكلها وهيئتها، كان طببعي، لا مدبوحة، ولا مقتولة، شخص عادي جدًل، غير لما شوفتها ميتة من ثواني، ورجعت كملت كلام وقالت:
_ جينا هنا من المنصورة، كنا في أول الستينيات، البنسيون ده كان مقفول واتفتح قبل ما نيجي بأيام قليلة، مأعرفش ليه كان مقفول، بس قالوا بيجددوه، لما حينا هنا، جينا عشان نعالج بابا، أنا وأخواتي البنات الي وولادهم.. وحجزنا في البنسيون ده كل الغرف عشان نبقى براحتنا، وإحنا من أعيان المنصورة.. كانت بتحصل هنا حاجات غريبة، في تالت ليلة كيان غريب ظهر لي، زي خيال، وأمرني إني أحقق القدر، ومش بس ظهر لي أنا، ظهر للكل، أنا خوفت عليهم كبهم، ومافهمتش يعني إيه أحقق القدر، الطلب ده طلبه مني أنا بس، ماحدش قال عليه من عيلتي إن الخيال اللي شافوه طلبه منهم، وافقته لما ظهر لي في الليلة ال٥، لأننا حاولنا نمسي، أو نهرب وماعرفناش، البنسيون اتحول، مابقاش مكان علدي، بقى مكان مافيهوش غيرنا، مافيهوش ولا شباك ولا باب، مافيهوش حياة أصلًا.. برغم أننا لما جيناه، لقينا عنه إعلان في جريدة، واتصلنا حجزنا بالتليفون، مافهمتش إزاي ده حصل، البنسيون بقى مهجور فجأة، بس إحنا جواه، ولقيت نفسي بموتهم، قتل كل واحد فيهم في أوضة من الأوض، هو اللي قال لي، هو اللي كان متحكم فيا، وهو اللي رتب تسلسل موتهم، ولما وصلت لبابا أمرني أدفنه تحت، في النهاية بقيت لوحدي، قررت أرسم الرسمة، وأجمع الصور، والسلسة، وأخبيهم كلهم هنا، يمكن حد يقدر يوصلهم.. ساعتها الظل ظهر لي، وخيرني؛ لو كنت عايز ماموتش، فلازم أعمل إعلان في أي جريدة عن البنسيون، وساعتها هيسيبني ومش هيموتني، وافقته، عملت الإعلان، لكن ماقدرتش، ماقدرتش أتحمل عذاب ضميري، أنا قتلت كل عيلتي، بس مش أنا، ده هو، هو الظل صاحب اللعنة، أنا ماعرفش سببها، بس هو السبب، هو اللي اتحكم فيا، وهيحكم فيك يا خالد.. أنا ماقدرتش أتحمل، ورجعت هنا، دخلت الأوضة دي وموت نفسي.. هيموتك يا خالد، مش هتعرف تهرب، مش هتقدر تقاومه.

الباب اتفتح، لا إراديًا بصيت عليه بسرعة، ولما رجعت بنظري لليلى، لقيتها اختفت.. يعني مش زي ما أنا استنتجت نهائي، دي فعلاً لعنة، لعنة خارج حدود العقل والتفكير والاستنتاج والمنطق، خارج حتى حدود الخيال..
خرجت بره، لقيت الضوء اللي زي ضوء المسرح ساقط على السلم، والخيال موجود، بس المرة دي ما أتحركش، وسمعت صوت بيقول لي:
_ اعمل الإعلان وأنقذ نفسك.. ده جزء من الحقيقة، لسه في حاجات كتير أنت ماتعرفهاش، بس أنا اللي بتحكم في اللي أنت بتشوفه، واللي شوفته ده هو شيء من اللي حصل هنا، القدر يا خالد، القدر لازم يتحقق.
لقيت نفسي بدون وعي بسأل:
_ ليه، قدر إيه، وإيه اللعنة اللي موجودة هنا، أنا مش فاهم حاجة.
الصوت رجع اتكلم وقال:
_ البنسيون ده كان بيتي، حرامية قتلوني هنا أنا وأسرتي كلها، مراتي وابني وبناتي ال٣، ماكنش ليا ذنب، كل الحكاية إني وقفت في وشهم زي أي حد بيحمي عرضه وشرفه، والمكان اتهجر واتقفل لسنين، بس أنا فضلت هنا، اتحولت لشيء بينتقم من أي حد يحاول يقتحم المكان، اللي ماقدرتش عليه الأول قدرت عليه بعدين، ولما المكان اتفتح بنسيون، قررت انهي حياة أي حد يدخل هنا، أحول حياته لجحيم، لأن اللي قتلوني وقتلوا عيلتي، استولوا على البيت وحولوه بنسيون، وكان قائدهم أخو الراجل العجوز، أول عيلة ماتت هنا، اللي أنت عيشت حكايتهم، أخو الراجل العجوز أخفى عنه قتلي، ولما عمل الإعلان ماكنش يعرف إن القدر هيتحقق، وبنت أخوه تتصل وتحجز، وهو مايقدرش يقولهم الحقيقة.. فاتحقق القدر وانتقمت منهم كلهم.. أما الشخص اللي قتلني أنا وأسرتي، اللي هو أخو الراجل العجوز فهرب، وساب البنسيون رجع مهجور من جديد، وخسر كل فلوسه اللي عمل بيها البنسيون، ومات بعدها من الاكتئاب.. القدر لازم يتحقق يا خالد.
سألته بسرعة:
_ وأنا دخلي إيه بكل ده؟ أنا مالي؟
قال:
_ ما أنت من نفس العيلة يا خالد.
قال الجملة المفزعة دي واختفى.

نزلت أجري، دورت في كل مكان على مخرج، لا لقيت باب ولا شباك، ولا خرم إبره حتى تقدر نملة تخرج منه، أنا هنا جوه فجوة، جوه لعنة حقيقة.. أصوات الهمسات رجعت من جديد، أصوات بتتعذب، بتئن، بتصرخ، حسيت إن الحيطان بتقفل عليا، بتحاصرني، كل حاجة في البنسيون بتتبدل، بتتحول من مكان عادي وطبيعي لمكان قديم، مهجور، مكان ميت زي كل الناس اللي ماتت وادفنت فيه.. هل كلهم من عيلتي، ولا ليهم صلة بيا وخلاص، ولا زي ما صوت اللعنة ده قال، ناس قدرها كان لازم يتحقق، في دايرة عمرنا ما فهمنا بتحصل ليه وإزاي؟.. دايرة القدر اللي ماحدش بيعرف يخرج براها.
مابقيتش قادر أتحمل الأصوات، حطيت أيدي على وداني لأن الصوت كان بشع، مافيش حد يقدر يتحمله، الألوان باهتة، الدنيا عتمة، مافيش غير ضوء بسيط، ضوء المسرح اللي إنارته خافتة، وساعتها؛ حصل قُصاد عينيا عرض غريب، تداخل مرعب، زي ما أكون قاعد قدام شاشة سينما وبتفرج على فيلم.. ناس كتير بتعدي من قدامي كإنهم أطياف، وكل مجموعة منهم لابسين لبس زمن معين، سبعينيات، تمانينيات وهكذا، فيهم ناس أعرفها، أو مش أعرفهم بالمعنى الحرفي، ناس فعلاً من عيلتي، قرايبي من بعيد يمكن شوفتهم مرة ولا مرتين في حياتي، أما ليلى وعيلتها دول أنا مش فاكر إني شوفت أي صورة ليهم قبل كده، ممكن يكونوا قرايبنا من بعيد، وماحدش من أسرتي، وأفراد العيلة اللي قريبين مني، جاب سيرتهم في أي قاعدة قبل كده، ولو بالصدفة حتى.. حسيت إني بتخنق، مش قادر آخد نفسي بسهولة.. ساعتها حسيت إنها النهاية.. وساعة النهاية الواحد بيحاول يستجمع اللي باقي فيه من قوة.. وقفت في صالة البنسيون أزعق:
_ أرجوك، ارحمني، أنا ماليش ذنب، أنا ما أعرفش حاجة، أنا عمري ما أذيت حد، أرجوك، أرجوك سيبني أمشي.
ساعتها الصوت ظهر تاني وقال لي:
_ خرج تليفونك، اعمل إعلان عن البنسيون، قدم لي ضحية من عيلتك وأنا أسيبك.
ـ وإيه يضمن إن حد من عيلتي بالذات هو اللي يحجز البنسيون؟
_ ما قولت لك.. القدر لازم يتحقق.. حتى لو مش من عيلتك، فلازم الضحية تكون عن طريقك، عن طريق دم من دمهم، وده في حد ذاته انتقام، إنك تعيش متعذب طول عمرك، فده انتصار كبير ليا، وأحلى بكتير من موتك، وغالبًا مش هتقدر تتحمل، وهتعمل زي ليلى، هتعيش ضميرك بيعذبك، إنك كنت السبب في موت غيرك، وهتلوم نفسك إنك جبان، خسيس، زيك زي عيلتك، تبيع أي حاجة عشان خاطر نفسك، وساعتها هتيجي هنا، وهتختار نفس مصير ليلى.

بدون ما أفكر، فتحت تليفوني، وكتبت صيغة إعلان عن بنسيون أثري في منطقة الحسين، وكتبت حاجات كتير عن مميزاته زي أي إعلان.. ونشرت الإعلان في كل مكان على النت، جروبات الفيسبوك، جوجل، تويتر، كل مكان حرفيًا.. لما خلصت نور الشمس نبهني.. ولقيت الباب مفتوح… ما أترددتش لحظة إني أهرب، خرجت أجري زي المجنون من البنسيون.
أول ما شوفت الشمس، وبصيت ورايا لقيت البنسيون مهجور، والزقاق فاضي مافيهوش غيري، جريت بكل ما فيا من قوة وعزم، جريت وأنا مش عارف رايح فين، أنا عايز أهرب وبس، وما صدقت خرجت من جحيم البنسيون..

في نهاية الزقاق؛ لقيت باب خشب كبير، يشبه أبواب بواب القصور القديمة، أو زي ما يكون باب خلفي لقلعة، حسبت إني لسه محاصر، الخوف دفعني أحاول أدور فيه على مخرج، ولقيت فعلاً باب أصغر فيه، فتحته لقيته اتفتح، ولما خرجت من الزقاق، بدأت أشوف الناس، كانوا باصين لي ومستغربين، زي ما يكون لسان حالهم بيقول:
(جه منين ده)
ماوقفتش لحظة، كملت جري، وهما لسه مش مستوعبين، ولو عارفين إن في حاجة جوه ممكن تتسرق، كانوا جريوا ورايا وقالوا حرامي، استغرابهم ودهشتهم أكدوا لي إن المكان ده ملعون، ونظرات عنيهم قالت: (إزاي حد دخل المكان ده أصلًا عشان يخرج منه؟).
كل ده رميته ورا ضهري، أنا حي، أنا عايش، أنا هربت من لعنة البنسيون؛ اللي خارج حدود العقل والخيال.

عدي على الموقف ده سنة، حاولت بكل الطرق ما أفكرش في اللي حصل، أمسحه من ذاكرتي، لكني فشلت، حتى لما سافرت، لسه بفكر فيه، لسه كل حاجة عيشتها بتتعاد في عقلي، بتتعاد قصاد عينيا كإني لسه بعيشها.. أنا جبان، هربت، بس كنت أعمل إيه يعني، أضحي بنفسي، أموت عشان حاجة أنا ماليش ذنب فيها؟
مش عارف، أمش عارف أنا صح ولا غلط، كل اللي عارفه إني زي ما صوت اللعنة قال لي؛ إني هعيش على عذاب الضمير، وأنا بيدبحني كل يوم بسكينة تلمة، باردة، عذاب الضمير ده موت بالبطيء، ولو كنت موت ساعتها؛ كان هيبقى أريح بكتير.. أنا محاولتش أبص على الإعلان ولا مرة، فكرت أشيله، أحذفه، بس حاجة جوايا كانت بتقول لي: لا، لو حذفته لعنة البنسيون هترجع تاني.

بس في الحقيقة كده كده لعنة البنسيون بتطاردني، بس أنا خايف، ففضلت عذاب الضمير عن الموت.. لكن النهار ده الموضوع اختلف، وقررت أحكي، يمكن العذاب اللي ضميري بيعذبه ليا يخف شوية، وإن رجعت لعنة البنسيون تحاصرني، فهيكون مصيري زي ما الصوت قال بالظبط: القدر كده كده لازم يتحقق.

تمت..

فهد_حسن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى