

الواحد منِّنا بييجي عليه وقت يغمَّض عينيه وياخد نفس عميق ويقول: أخيرًا، دَه كان حالي بعد خمس سنين خطوبة؛ لمَّا اتقفل عليا أنا وعاطف باب واحد، بعد ما كان جوازنا بيتأجِّل سنة ورا التانية، والسبب إن بعد خطوبتي بكام شَهر؛ جَت لي وظيفة بمرتَّب كويس، من وقتها أبويا اتغيَّر من ناحية الخطوبة، وفي آخر مرَّة الموضوع اتفتح صدمني لمَّا قال لي: “الوظيفة والمُرتَّب أهم بكتير من الجواز، إني من خلال شُغلي هقابل اللي أحسن من عاطف ويكون مناسب أكتر”.
وقفت مصدومة، أنا بحِب عاطف ومبشوفش غيره، وفي البداية قالوا إنه شخص محترم، لكن من بعد ما اشتغلت وأبويا اتغيَّر، حتى أمي وأختي وأخويا كلامهم عنُّه مبقاش زي الأول، لحد ما في مرَّة كنت راجعة من الشغل وفتحت الموضوع، والكلام بيني وبين أبويا وصل إنه قال لي: “مفيش كتب كتاب والموضوع دَه مُش هيتِم”!
في الليلة دي دخلت أوضتي وقفلت عليا، ماكنتش عارفة أسيطر على الدموع اللي نازلة من عيني، وفي عِز الحُزن اللي كنت فيه سمعت رنة تليفوني، كان عاطف اللي بيرن عليا، تجاهلت الرَّنة لحد ما لقيته بيرن من تاني، مسحت دموعي وأخدت نفس عميق وفتحت المكالمة، رديت بكل هدوء عشان ميلاحظش إن صوتي متغيَّر:
-آلو.
-مالك يا سماح، من وقت ما اشتغلتي وأنتِ متغيَّرة، مبقتيش بتردي عليا من أول رنة زي الأول، ولا حتى بقيتي تطلبي إني آجي أزوركم.
-مفيش يا عاطف؛ كل الحكاية إن الشغل واخد وقتي، وعمومًا هانت ونتجوِّز ونبقى تحت سقف واحد.
-مُش باين لها جواز، المفروض كنَّا كتبنا الكتاب زي ما اتفقنا، بَس من وقت ما اشتغلتي والموضوع بيتأجِّل، وعندي إحساس إنه هيفضل يتأجِّل كده لحد ما نتجوِّز في الآخرة وعليكي خير.
-كلام إيه اللي بتقوله دَه!
-مُش دَه الواقع، تقدري تقولي إيه سبب التأجيل ده؟
كتمت الدموع اللي اتجمعت في عيني وقُلت له:
-الجهاز ناقصه كام حاجة كده وأول ما يجهزوا هنكتب الكتاب.
-كلامك مش مقنع، أنا عارف إن الجهاز موجود، وفرضًا لو في حاجة ناقصة، بناقص الحاجات اللي معطلة الدنيا دي، الناس بتبدأ من الصفر وبعدين بتكبر، بَس خلينا نكتب الكتاب ونتجوز.
قفلت المكالمة بعد ما وعدته إني هحِل الموضوع، بعدها قعدت ومكنتش عارفة إيه الخطوة الجاية اللي المفروض أعملها، وبعد شوية تفكير لقيت إني لازم أواجه، خرجت من الأوضة ولقيت أمي في الصالة، سألتها عن أبويا وعرفت منها إنه برَّه، بَس قُلت أمشي ورا المثل اللي بيقول اضرب على الحديد وهو سُخن، ودَه اللي خلاني أقول لها:
-لمَّا أبويا يرجع لازم نحدد ميعاد كتب الكتاب.
حسِّيت بعدم ارتياح في نظرات أمي لمَّا قُلت كده، وده اللي خلاها تقول لي:
-أبوكي عندك؛ لمَّا ييجي اتكلمي معاه.
سابتني واقفة لواحدي ومشيت، ومكانش قدامي غير إني آخد بعضي وأدخل أوضة أختي، كانت ممدة على السرير ومشغولة في تليفونها، وبرغم إنها أدركت وجودي في الأوضة لكن دَه مخلَّاهاش تلتفت ناحيتي، لكني عملت عبيطة وقُلت لها:
-عايزاكي في كلمتين يا رباب.
إيدها كانت تقيلة وهي بتبعد التليفون من قدام وشّها، حسيت إنها مش عايزة تبُص ناحيتي، ولمَّا قرأت دَه في تصرّفاتها قُلت لها:
-إيه الحكاية! أبوكي مقلوب عليا وأمك بتكلمني من تَحت ضرسها، وأنتِ عطياني الوِش الخشب، في إيه مالكم!
-مفيش يا سماح، بيتهيَّأ لِك بَس، أنتِ اللي متغيَّرة عشان حبيب القلب وعايزة تمشي من البيت.
-إيه العبط دَه! هو مش الطبيعي إن البنت بتتجوز وبتكمل حياتها في بيت جوزها، مُش دي سُنِّة ربنا في خلقه ولا جوازي من عاطف هو اللي جريمة.
ابتسمت لي ابتسامة باردة وقالت لي بلسان معووج:
-عاطف؛ عاطف، حبيب القلب.
دمي اتحرق واتنرفزت عليها وقُلت لها:
-اتكلمي كويس، إيه المرقعة دي!
-مش بقول لِك متغيَّرة عشان حبيب القلب، عايزة تبيعي أهلك عشان واحد يا عالم هتكملي حياتك معاه ولا لأ.
-أنا مش مستوعبة اللي بسمعه، وبعدين مش عارفة سبب التغيير اللي حصل فجأة ده، دَه حتى أنا مقصَّرتش معاكم، شُغلي كله بيتحط في البيت، مُش لاقية مبرِّر إنكم تتعاملوا معايا كده.
-هو أنتِ هتذلِّينا بالكام ملطوش اللي بتحطيهم في البيت ولا إيه، ولا سي عاطف بتاعك هو اللي بيملى دماغك بالكلام ده ومحسسك إن ليكي فضل علينا.
مشيت من قدامها عشان لساني ميفلتش بكلمة تتمسك عليا، رجعت أوضتي وانتظرت أبويا، وفضلت على الحال ده لحد ما سمعت صوته داخل البيت، خرجت واتكلمت معاه، لكن لقيته لسَّه عند رأيه لمَّا قال لي:
-الجوازة دي مش هتكمل يا سماح، ريَّحي نفسك.
في اللحظة دي شيء نزع رهبة أبويا من جوايا، جمِّدت قلبي وقُلت له:
-وأنا مش هتجوِّز غير عاطف.
لمَّا قُلت كده إيد أبويا نزلت على وشّي، كانت أول مرة يمِد إيده عليا، ولأن الموقف كان مفاجئ وصادم؛ أخدت بعضي وانسحبت في هدوء ورجعت أوضتي، قفلت الباب وطفيت النور وقعدت في الضلمة، حاولت على قد ما أقدر أكتم صوتي وأنا ببكي، مكنتش عايزة حد منهم يسمعني ولا يحِس إني بمُر بلحظات ضعف، ومع الوقت النوم غلبني، نمت في مكاني ومحسِّيتش بنفسي، مفتحتش عيني غير لمَّا سمعت خبط على باب الأوضة، مسحت وشي بإيدي عشان أفوق، ولمَّا قُمت وفتحت الباب لقيت أبويا في وشِّي، نظرته ليَّا كانت هادية، زي ما يكون بيعتذر لي عن اللي حصل، ساعتها مد إيده طبطب على كتفي وابتسم لي وقال:
-آسف أوي على اللي حصل ليلة امبارح، حقيقي مُش عارف أنا عملت دَه إزاي.
في الوقت دَه حسيت إن جوايا طاقة لوم رهيبة؛ لو منحتها فرصة تخرج هتتحوِّل لمشكلة تانية أنا في غنى عنها، دَه اللي خلاني أتجنَّب أي تعليق على كلامه، وهوَّ استغل صمتي وقال:
-عارف إنك بتحبي عاطف وهوَّ بيحبك، أنا بَس كان جوايا قلق الفترة اللي فاتت بسبب حاجة في نفس يعقوب مُش عاوز أتكلم عنها، عمومًا حددي مع عاطف ميعاد كتب الكتاب، ربنا يوفقك في حياتك.
مكنتش مصدَّقة وداني، ولا مستوعبة إن اللي واقف قدامي وبيقول الكلام ده يبقى أبويا، لقيت نفسي ببتسم غصب عني، بادلني نفس الابتسامة وسابني ومشي، جريت على تليفوني، رنيت على عاطف وانتظرته يرُد عليا، وأول ما المكالمة اتفتحت قُلت له:
-عاطف؛ بابا كلمني من شوية وطلب إننا نحدد كتب الكتاب.
حالته كانت من حالتي، مكانش مستوعب اللي بقوله، لكن الكلام جاب بعضه وحددنا الميعاد، وبرغم كده إيدي كانت على قلبي وخايفة أي حاجة تحصل تعطَّل كتب الكتاب، لكن كل حاجة تمَّت، لحد ما الفرح اتحدد واتجوِّزنا واتقفل عليا أنا وعاطف باب واحد، ودَه اللي خلاني أبدأ حكايتي بكلمة أخيرًا، ودَه لأني كنت فعلًا فقدت الأمل إن الجوازة تتم.
من بعد اللحظة دي والدنيا بقت وردية، لحد ما شَهر العسل انتهى ورجعت شُغلي، وعاطف كمان رجع شغله، والحياة مع الوقت بدأت تاخد شكله الروتيني المعتاد، شُغل ومسئولية وزيارات، كُنا بنزور أهالينا وهُمَّا بيزورونا، والروتين مع الوقت بدأ يتحوِّل لملل، ملل من كل شيء إلا عاطف، اللي كان بيرجع من شغله بَعدي، وفي الساعتين تلاتة اللي بكون فيهم لوحدي قبل ما يرجع؛ كُنت بجهِّز الغدا، وبعدها بنقعد مع بعض كأي زوجين، لحد ما ميعاد النوم ييجي.
لحد ما في ليلة كنا سهرانين قدام التلفزيون، عاطف كان جنبي وحاطط دراعه على كتفي، من وقت للتاني كان بيحرَّك كف إيده وبيطبطب عليا، ومرَّة في التانية وبدأت ألمح كَف إيده باللون الأسود، في البداية قُلت إن دي تهيؤات، بَس لمَّا الحكاية اتكرَّرت أكتر من مرَّة؛ لقيت نفسي ببُص ناحية كَف إيده، واتصدمت لمَّا لقيت صوابعه عاملة زي أعواد الحطب المحروقة!
الصدمة خلَّتني أتفزع، اتفاجئت إني واقفة ومبحلقة في عاطف وعيني على كَف إيده، وفي نفس الوقت كان بيبُص لي باستغراب ومذهول من تصرُّفي، لدرجة إنه سألني:
-مالك! ليه وقفتي فجأة وبتبُصي ناحيتي البصة الغريبة دي؟
الخوف لجِّم لساني، خصوصًا لمَّا شُفت كف إيده بيتغيَّر، مرَّة لون صوابعه يتحوِّل للأسود ومرَّة تانية ترجع لطبيعتها، كان شيء أكبر من إني أستوعبه، الصدمة كانت أقوى منّي، وقفت ومقدرتش أتزحزح من مكاني، ولا حتى لساني نطق، كل اللي قدرت عليه هو إني بحلقت في عاطف، ساعتها قام من مكانه وهوَّ بيبُص ناحيتي باستغراب، قرَّب منّي ومَد إيده ناحيتي، وقبل ما إيده تلمسني اتقلبت لنفس الهيئة المخيفة، صوابعه اتحوِّلت لأعواد فَحم محروقة، الخوف اللي جوايا خلاني عاجزة عن الحركة، مقدرتش أبعِد من قدامه، كل ما إيده كانت بتقرَّب مني قلبي كان بينخلع من مكانه، لكن فجأة حسيت إني عندي قدرة على الهروب، لكن بمجرَّد ما اتحرَّكت مسكني من دراعي، صوابعه علِّمت على جِلدي باللون الأسود، صرَخت؛ ومع صرختي لقيته بيشدِّني ناحيته، وبكُل قوِّتي زقِّته بعيد عني، ولمَّا عملت كده سألني باستغراب:
-إيه اللي حصل يا سَماح؟
كُنت لسَّه هشاور على كف إيده عشان يفهم أنا ليه عملت كده، لكن لقيتها رجعت لطبيعتها، حسِّيت إني في نُص هدومي، مقدرتِش أبرَّر اللي عملته، خصوصًا إني لو قُلت له على اللي شُفته هيفتكر إني بهلوس، حاولت أعدِّي الموقف وقُلت:
-أنا آسفة، مُش عارفة إزاي عملت كده!
قرَّب منّي وهو بيبتسم، طبطب على كتفي وأخدني تَحت دراعه وقال لي:
-حصل خير، جايز عشان ضغوط الحياة بدأت تزيد تكون أعصابك تعبانة.
مقدرتش أكمِّل قعدة سَهر معاه، وده لأني حسيت بخوف من ناحيته، قُلت له إني محتاجة أنام، وكالعادة عاطف سابني على راحتي، دخلت الأوضة وفردت ضهري على السرير، ولسَّه بغمَّض عيني لمحت ضوء خفيف فوق الكومودينو، افتكرت إني من وقت طويل وأنا سايبة تليفوني صامت ونسياه، مديت إيدي ومسكته عشان أشوف مين اللي بيرِن عليا في وقت زي ده، لقيتها رباب أختي، ولما فتحت المكالمة ورديت عليها قالت لي:
-طبعًا رايحة في سابع نومة ومش دريانة بالناس اللي بتتصل بيكي.
طريقتها المندفعة ضايقتني، لكني تمالكت أعصابي وقُلت بهدوء:
-التليفون كان صامت ومسمعتش الرنة.
-ما علينا من كل ده، أمك بتسأل قبضتي ولا لسَّه.
-القبض هينزل بُكره يا رباب.
-طيِّب متنسيش لمَّا تقبضي تعدِّي علينا، وياريت تزوِّدي الفلوس شوية عشان الحياة بقت غالية والمصاريف كتير.
-أعمل إيه أكتر من إني بسيب نُص المُرتَّب، وكفاية إني بعمل دَه من ورا عاطف.
-هو مين اللي ربَّاكي يا سماح، أبوكي وأمك ولا عاطف، قال على رأي المثل، اللي مالوش خير في أهله.
قفلت المكالمة وأنا دماغي هتنفجر، الصداع زاد لدرجة إني مقدرتش أفتح عينيا، وفوق كل دَه كان بيفوت قدامي شريط طويل، كل لقطة فيه كانت عبارة عن إبرة بتنخز في ضميري، أنا بعمل كل دَه من ورا عاطف، من باب إني بساعد أهلي وإن ليهم حق عليا، أخويا بيتعلِّم وأبويا معاشه على قدُّه، أمي سِت بيت وأختي مُش بتشتغل، عشان كِدَه بساعدهم، وهُمُّا شارطين عليا إن عاطف مياخدش خبر بالحكاية دي، دَه غير إنهم دايمًا بيوصّوني إن عاطف ميعرفش مرتّبي كام، وبيقولوا إن دَه لمصلحتي عشان أعمل حاجة لنفسي، ولمَّا قُلت لهم إن عاطف عُمره ما سألني بقبض كام؛ ولا بيفتش ورايا زي ما أغلب الرجالة بتعمل؛ أمي ردَّت عليا وقالت برضه ما ياخدش خبر، ولو سأل أقول له أي حاجة غير الحقيقة.
الشريط فضل يدور لحد ما وقف عند أكتر حاجة خلَّت ضميري ينقَح عليا، شبكتي اللي طلَّعتها من دولابي في السِّر وراحت بيت أبويا، وكانت الحِجة إن دهبي يبقى في الأمان، ولأن عاطف مُش من عادته يدوَّر في الدولاب مأخدش باله، ولحد دلوقت الموضوع لسَّه متعرِفش.
مخّي كان زي المركب اللي البَحر هاج تَحته، أمواج التفكير كانت بتشيل وتحُط فيه، بَس كل ده انتهى بمجرَّد ما نور الأوضة اتفتح، بصِّيت ناحية الباب ولقيت عاطف اللي سألني:
-لسَّه صاحية؟
حاولت أكون هادية على قد ما أقدر، طردت الهواجس من دماغي وقُلت له:
-كُنت لسَّه بغمَّض عيني ونور الأوضة اتفتح.
مَد إيده وقفل النور من تاني، بعدها دخل ونام جنبي، انتظرته يعلَّق على أي حاجة من اللي حصلت لكنه متكلِّمش، ومع الوقت أنفاسه بدأت تِعلى، عرفت إنه راح في النوم، أما أنا؛ فضلت أتقلِّب من الجَنب دَه للجنب دَه، شوية أفتكر اللي حصل مع عاطف في الصالة، وشوية أفتكر مكالمة رباب أختي، وشوية شريط الأحداث اللي بتحصل من ورا ضهر عاطف يتعاد قدامي، لحد ما النهار بدأ يشقشق، والمنبّه رن في ميعاده، ومع رنته عاطف قام من النوم وهزِّني في كتفي وقال لي:
-صباح الخير يا سماح، قومي يلا صحّي النوم.
قُمت وأنا مُش قادرة أصلب طولي، وده لأني منمتش طول الليل من التفكير، اتحاملت على نفسي وعملت الروتين اللي بيتعمل كل يوم الصُّبح، تجهيز السندوتشات والهدوم.
كل واحد فينا خرج وراح شغله، واليوم فات بطوله وعرضه والمرتب نزل، ولما خرجت عدِّيت على أقرب ماكينة ATM وسحبت نُص المرتب، بعدها طلعت على بيت أبويا، ملقتش هناك غير أمي وأختي، سلِّمت عليهم وقعدت معاهم شوية، وفي وسط الكلام مديت إيدي في الشنطة وطلَّعت الفلوس وناولتها لأمي، مسكتها وبدأت تعِد فيها، ولمَّا خلصت حطتهم جبنها وقالت:
-هي مُش رباب قالت لك إن الدنيا بقت غالية والمصاريف زادت!
كنت فاهمة كلامها بيرمي على إيه، عشان كِدَه رديت عليها:
-الدنيا زادت بَس مرتبي مزادش، وبعدين أعمل إيه أكتر من إني بسيب نُص المرتب من ورا جوزي.
-وهو اسم النبي حارسه وصاينه لازم يعرف ولا إيه! وبعدين إيه اللي جالنا من الجوازة الهباب دي، أبوكي كان على حق لمَّا كان بيقول الجوازة مش لازم تِكمل، ما كنتي عايشة معانا ومرتبك في البيت والدنيا ماشية.
كلامها كان زي بُركان مقلوب فوَّهته بتصُب الحِمم اللي فيها فوق راسي، دَه غير إنه فسَّر ليَّا سبب تأجيل جوازي أكتر من مرَّة، وفسَّر لي كلمة أبويا لمَّا قال إنه بيأجِّل لحاجة في نفس يعقوب.
كُنت بغلي من جوايا، لدرجة إني قُمت وأخدت شنطتي، ومن غير ما أعلَّق على كلامها أخدت بعضي ومشيت. وصلت البيت وبدأت أجهِّز الغدا، وأثناء ما كنت في المطبخ سمعت صوت خطوات في الصالة، ولمَّا خرجت لقيت عاطف جاي ناحية المطبخ، كان بيبُص لي وبيبتسم، استغربت إنه راجع قبل ميعاده ودي حاجة بتحصل لأول مرَّة، عشان كده قُلت له باستغراب:
-راجع بدري عن ميعادك يعني؛ في حاجة حصلت ولا إيه؟
ابتسامته زادت وقال لي:
-مفيش حاجة حصلت ولا حاجة، كل الحكاية إنك وحشتيني وقُلت أرجع بدري شوية.
قال كِدَه وقرَّب وشُّه منّي، ولأن تصرُّفه كان مفاجئ ودي مُش طبيعته أخدت خطوة لورا، ولمَّا عملت كده ابتسم أكتر وقال لي:
-خايفة من إيه؟ أنا عاطف جوزك.
اتوتَّرت ومبقتش عارفة أجمَّع كلمتين على بعض، بَس مسكت أعصابي وقُلت له:
-طيِّب غيَّر هدومك على ما الأكل يجهز.
وبنفس الابتسامة هَز راسي وقال لي:
-ماشي، نتغدَّى الأول.
سابني ودخل الأوضة، رجعت على المطبخ وأنا بحاول أفسَّر تصرُّف عاطف اللي كان غريب بالنسبالي، ولمَّا انتهيت من الأكل وغرفت الأطباق، ندَهت عليه عشان ينقلها للسفرة زي ما متعوِّدين نعمل، وندهة ورا التانية ولا حياة لمن تنادي، خرجت من المطبخ عشان أشوفه لتكون راحت عليه نومة، بس لما وصلت الأوضة لقيتها فاضية، خرجت من الأوضة للصالة؛ ومن الصالة للأوضة التانية، حتى الحمَّام بصيت فيه، عاطف مكانش له أي أثر.
دخلت في حالة صدمة، مستحيل يكون خرج من غير ما أسمع صوت الباب وهو بيتفتح، وفي اللحظة دي لقيتني بفكَّر في حاجة معرفش إزاي راحت عن بالي، إزاي أصلًا عاطف دخل الشقة بدون ما أسمع صوت الباب زي ما بيحصل كل يوم؟!
قعدت في الصالة وأنا مُش مستوعبة، اللي حصل خلاني مُش طبيعية، خصوصًا لمَّا افتكرت اللي حصل في الليلة اللي سهرنا فيها سوا، دماغي فضلت تودِّي وتجيب لحد ما باب الشقة اتفتح ولقيت عاطف قدامي، أول ما دخل وقفل الباب وراه قال لي:
-ريحة الأكل جايبة السلم تحت، أنا عصافير بطني بتصوصو.
الذهول كان لسَّه مسيطر عليا، جسمي كان تقيل ومقدرتش أقوم من مكاني، فضلت قاعدة لحد ما قرَّب مني وقال لي:
-يا ترى طبخالنا إيه بالظبط؟
للمرة التانية مقدرتش أرُد على كلامه، بَس لقيته بيكمل كلامه وبيقول لي:
-ولا أقول لِك، بلاش تقولي، أنا هدخل المطبخ وأشوف الأكل اللي ريحته تجوَّع الشبعان ده.
سابني ودخل على المطبخ، وبعد شوية لقيته خارج والأطباق في إيده، رصَّها على السفرة وسحب كرسي الترابيزة وقعد، ولحد هنا قاومت شعور الخوف اللي جوايا وقُمت، قعدت معاه على السفرة ونفسي مسدودة عن الأكل، لاحظت إنه بياكل بنفس مفتوحة، الفضول والتفكير غلبوا قدرتي على التحكم في نفسي ولقيتني بسأله:
-عاطف؛ هوَّ أنت رجعت من شوية وخرجت تاني؟
بمجرَّد ما سألته حط المعلقة قدامه وقال لي:
-تقصدي إيه بإني رجعت وخرجت تاني؟
-أقصد إنك كنت هنا وأنا لسَّه بجهِّز الأكل وخرجت.
نظرته ليَّا كانت بتغني عن الإجابة وبتقول إن دَه محصلش، وبعد ثواني من الاندهاش قال لي:
-إيه السؤال الغريب ده؟
-عاطف أنا شُفتك هنا من قبل ما تدخل وتقول لي إنك شامم ريحة الأكل من على السِّلم.
لاحظت إن تفاحة آدم عنده اتحرَّكت، وده دليل إنه كان بيبلع ريقه لمَّا استغرب اللي سمعه، بعدها علَّق على كلامي وقال:
-أنتِ عارفة ميعاد رجوعي، إيه بقى حكاية إني كُنت هنا وخرجت دي؟
-بصراحة مُش قادرة أفسَّر اللي شُفته، دَه حتى أنت قرَّبت وشَّك منّي وكنت عاوز…
-كنت عاوز إيه يا سماح؟
بصيت بعيد عنه وقُلت له:
-كُنت عاوز زي أي راجل لمَّا بيقرَّب وشُّه من مراته.
بمجرَّد ما قُلت كِدَه بَص لي وهو مُش مستوعب كلامي وقال:
-أنا رجعت لم دخلت أجيب الأطباق من المطبخ، يعني لا رجعت قبل كده ولا قرَّبت منك زي ما بتقولي، جايز عشان ميعاد رجوعي أقرَّب اتهيَّأ لِك ولا حاجة.
مقدرتش أرُد على كلامه، خصوصًا إن مفيش عندي إثبات مادّي على الكلام اللي بيقوله، بَس الصمت أنقذ الموقف، كملنا أكلنا بدون كلام، ولما خلَّصنا أخدت الأطباق على المطبخ وغسلتها، ومع آخر طبق حطِّيته في المطبقية حسيت بدوخة، ومع الدوخة حسيت إن معدتي عاوزة تطرد الأكل اللي فيها، توازني اختل فجأة، وعشان مسقطش في الأرض مسكت في المطبقية، لكن جسمي كان أتقل من إنها تتحمله، عشان كده المطبقية نزلت في الأرض وكل حاجة فيها اتكسرت، ومعاها نزلت في أرضية المطبخ وفضلت مبحلقة في السقف، في الوقت دَه لقيت عاطف بيحاول يقوِّمني، قُمت بالعافية وأنا ساندة على كتفه، أخدني لحد ما وصلت عند السرير، ولمَّا نِمت وأنفاسي بدأت تِهدا سألني بلهفة:
-حاسَّة بإيه؟
استجمعت أنفاسي اللي بتهرب منّي وقُلت له:
-دايخة ومُش قادرة أصلب طولي، وحاسَّة إني هجيب اللي في بطني.
لمَّا قُلت له كده طلب مني أقوم أغيَّر هدومي، ولمَّا نفذت طلبه اللي صمم عليه؛ أخدني وطلعنا على المستشفى، وهناك عرفت إني حامل، الفرحة مكانتش سايعة عاطف، بَس أنا كان جوايا خوف غريب، قلبي مكانش مطَّمن. خرجنا من المستشفى بعد ما الدكتور كتب لي على أدوية ومقوِّيات أمشي عليها، رجعنا الشقة وساعتها عاطف كلِّم أمي وبلَّغها الخبر، وتاني يوم آخر النهار لقيت أمي وأختي وأخويا وأبويا عندي، باركوا لي على الحَمل ومشيوا، ساعتها عاطف قعد جنبي على السرير وقال لي:
-هنسمّي وليِّ العهد إيه بقى؟
-خلاص خلِّيته ولي العهد، مُش جايز تطلع بنت، ولا هتقول لي إنك عاوز ولد والكلام ده.
-أكيد مش هقول كده طبعًا، دَه رزق من عند ربنا وكل اللي يجيبه خير.
لمَّا خلَّص كلامه قرَّب إيده من وشِّي وبدأ يملِّس على جبهتي ويبتسم، في الوقت دَه حسِّيت إن جبهتي بتتحرق، وكأن اللي بيلمسها قطعة جَمر حرارتها أكبر من قدرتي على إني أتحملها، وبقدرة قادر كف إيد عاطف اتحوِّل للون الأسود، بقى بنفس الهيئة اللي شُفته فيها قبل كده، غمَّضت عيني لأني مكنتش قادرة أشوف المنظر، عضِّيت على أسناني وكتمت الألم جوَّايا، خُفت أصرخ وكل ده يطلع هلوسة في النهاية، وحاجة زي دي لو اتكرَّرت مرَّة ورا التانية قدام عاطف أكيد شَكلي مُش هيبقى أحسن حاجة.
كتمت إحساسي بالألم وأنا حاسَّة إن جبهتي لازقة في فُرن والع، ومع كل ثانية بتمُر كنت بضغط على أسناني أكتر، لحد ما لقيت نفسي بنفصل عن الواقع وإحساسي بكل شيء حواليا بدأ يتلاشى، بَس فجأة حسيت بهزَّة في كتفي، ومعاها سمعت صوت عاطف وهو بيشدِّني ناحيتي وبيقول:
-مالك يا سماح؛ إيه الدَّم اللي نازل من بوقِّك ده؟!
فتحت عيني على نبرة صوته المفزوعة، شُفت دَم على صدر البيجامة اللي كنت لابساها، وبإيد مهزوزة بدأت أفتِّش في نفسي، لحد ما إيد عاطف اتمدَّت ناحية بوقّي وبدأت تمسح سيل الدَّم اللي نازل منُّه، ومع الوقت أدركت إني كُنت بعض على خدودي من جوَّه لمَّا حاولت أستحمل ألم جبهتي.
نزلت من السرير وجريت ناحية مراية التسريحة، وقفت قدامها وفتحت بوقّي، اتفاجئت إن ضغط أسناني عمل جروح قطعية في الخدود من جوَّه، مقدرتش أتحمِّل منظر الجروح، قفلت بوقّي وجريت على الحمَّام، وقفت قدام الحوض وفتحت الحنفية، بدأت أتمضمض عشان أتخلَّص من طعم الدَّم، بَس للأسف، الميَّه زوِّدت الدَّم اللي نازل من الجروح، سحبت كام منديل من علبة كانت على الرف اللي فوق الحوض، وفي كل جَنب من جوانب بوقّي حطيت منديل، بَس لقيت نفسي ببحلق في المراية وأنا مش مستوعبة اللي شيفاه، زي ما أنا بالظبط مش قادرة أستوعب كل حاجة بدأت تحصل معايا، والسبب إن جبيني كان عليه شيء أشبه بالصَّدا، وبدون ما أحتاج شرح أو تفسير؛ عرفت إنها آثار إيد عاطف اللي بدأت أشوفها من وقت للتاني في شكل حطب متفحَّم.
-أنتِ كويسة يا سماح؟
سؤال عاطف خلاني أنتبه لوجوده، كان واقف على باب الحمام وبيبُص لي لمَّا وقفت أبحلق في المراية، وبرغم كده مقدرتش أجاوب على سؤاله؛ لأني فعلًا مكنتش عارفة إن كُنت كويِّسة ولا لأ، وقفت من غير ما أتكلم، انتظرته يجيب سيرة آثار إيده اللي شُفتها على جبهتي في المراية، بَس اتضح لي إنه مُش واخد باله، ودَه لمَّا قال لي:
-مبتردّيش عليا ليه، بوقّك ماله وإيه الدَّم ده؟!
مع سؤاله كُنت ببُص في المراية، جبهتي كانت طبيعية ومفيش عليها أثر لأي شيء، مزاولة جديدة من أحداث معرفش إيه سببها، وعشان مفتحش كلام مُش هيفيد بحاجة، ردِّيت على سؤاله وقُلت:
-أسناني عضَّت على خدودي بدون ما أنتبه وعملت كام جرح كده.
-بالبساطة دي! أنتِ مُش شايفة منظر الدَّم كان عامل إزاي، أنتِ قُمتي من على الأكل وأنتِ جعانة ولا كنتي بتفترسي نفسك ولا إيه الحكاية بالظبط!
-أهو اللي حصل بقى.
-طيِّب تعالي ننزل أي مستشفى ولا صيدلية نشوف حل للجروح دي.
رفضت أنزل لأن الدَّم كان وقف، وكمان مكانش دَه الشيء اللي شاغل بالي، أنا دماغي كانت في حتة تانية، تفكيري أخدني في رحلة للبحث عن إجابة سؤال مبقتش أسأل نفسي غيره، ليه كل دَه بقى بيحصل معايا؛ وليه بشوف عاطف بالشكل ده؟!
بعد ما رفضت فكرة إني أروح مستشفى أو صيدلية؛ عاطف طلب منّي أرتاح في السرير، أخدني لحد هناك وفضل قاعد جنبي، بَس بعد شوية تليفونه رَن، ولمَّا بَص فيه حسِّيت إنه اتوتَّر وملامحه اتبدِّلت، بعدها أخد تليفونه وخرج برَّه الأوضة، ولمَّا رجع بعد ما خلَّص مكالمة سألته:
-مين اللي كان بيرن عليك يا عاطف؟
بَص لي وابتسم وحاول يغيَّر الكلام لمَّا قال لي:
-متشغليش بالك يا سماح، ركزي أنتِ بَس في صحتك.
لأول مرَّة كنت أشوف منُّه تصرُّف زي ده، مُش من عادته إنه يحاول يتهرَّب من إجابة سؤال بسأله، لكني تغاضيت عن الموضوع لأن دماغي كانت لسَّه شاردة في الأحداث الغريبة اللي بدأت تحصل معايا.
الأيام بدأت تفوت بنفس الروتين القاتل، شُغل وبيت، وفوق كل ده تَعب الحَمل اللي كان بيزيد كل ما الجَنين بيكبر، وبرغم تعبي كان مفروض عليا المشوار إيَّاه بتاع آخر كل شَهر، لمَّا بروح بيت أبويا وبسيب لأمي نُص المرتب، واللي بالمناسبة بقت بتقطَّمني بالكلام بحجة إنه مبقاش يكفّي، وبرغم إن الموضوع بقى فوق طاقتي بَس مكنتش بتكلم، لأن دماغي كانت مشغولة في عاطف اللي بقى عبارة عن لغز، من وقت للتاني بقى بيتكلِّم في التليفون بعيد عني، ولو حاولت أسأل عن اللي بيكلِّمه بياخدني بالكلام في ناحية تانية، دَه غير كَف إيده اللي بيتبدِّل من وقت للتاني لما بيحاول يلمسني، واللمسة بتسيب أثر محدش بيقدر يشوفه غيري!
المثل بيقول: الضغط بيولِّد الانفجار، وأنا فضلت كاتمة في نفسي حاجات فوق طاقتي، دَه طبعًا جنب تعب الحَمل والشُّغل والروتين اللي بيخنق، ونتيجة دَه إني كنت قاعدة في الشغل ودماغي في دنيا تانية، لدرجة اتفاجئت إن سميرة زميلتي بتناديني بصوت عالي على غير العادة، اتخضّيت من صوتها وقُلت لها:
-إيه لزمة صوتك العالي؛ هو أنا قاعدة في آخر الدنيا؟
-مُش في آخر الدنيا ولا حاجة، بَس قُلت مش هيخليكي تخرجي من السَّرحان اللي أنتِ فيه غير كده، بكلِّمك من ساعتها وأنتِ زي الكرسي اللي قاعدة عليه، إيه حكايتك؟
كلامها خلَّاني أفتكر إني كنت سرحانة فعلًا، حاولت أبان طبيعية وإن دَه مجرَّد سَرَحان عادي وقُلت لها:
-أنا بَس تعبانة شوية من الحَمل والشُّغل.
-بقول لِك إيه، مُش على سميرة، تَعبانة النهاردة ولا امبارح ولا أول، أنتِ بقالِك فترة مش مظبوطة، وبعدين حَمل إيه اللي بيخلِّي الواحدة تسرح وتبقى في ملكوت تاني؟ دَه على أساس إني مخلِّفتش مرتين قبل كده ولا أنتِ غيرنا!
-عايزة إيه يا سميرة، أنا بالي مُش رايق!
-كده وقعتي بلسانك، بالك مُش رايق ليه؟
بعد محايلات من سميرة؛ بدأت أحكي لَها كل حاجة، أغلب كلامي كان عن عاطف اللي اتحوِّل للغز مش قادرة أفسَّره، وبعد ما عرفت تفاصيل اللي بيحصل معايا قالت لي:
-جوزك بيحب واحدة عليكي، ومسجِّلها على التليفون باسم مستعار وبيرُد عليها بعيد عنك، واللي بتشوفيه ده معناه إن اللي بيحبها عاملة سِحر عشان تطفِّشك.
الذهول سيطر عليا لثواني قبل ما أقول لها:
-كلام إيه اللي بتقوليه دَه!
-اشتري منّي، الأيام هتلِف وهتثبِت لِك إن اللي بقوله صح.
-بَس عاطف مستحيل يعمل كده.
-عاطف دَه راجل ولا ملاك نازل من السما، اسأليني أنا، نفس المشكلة بتاعتي اللي انفصلت بسببها، ولو مش مصدقاني تعالي معايا عند الشيخة نعمة تكشف عليكي وتقول لِك اللي فيها.
مكنتش مستوعبة طلبها، وعشان أقفل الباب دَه قُلت لها:
-أنا مستحيل أروح أماكن من دي.
قفلت الكلام معاها وبدأت أركِّز في شُغلي، اليوم انتهى وخرجت رجعت على البيت، بدأت الروتين العادي بتاع كل يوم، وقفت في المطبخ وجهِّزت الغدا وانتظرت لحد ما عاطف رِجع من شغله، في الوقت دَه كنت قاعدة في الصالة، أول ما شافني ابتسم وقرَّب منّي وقال:
-عاملة إيه النهاردة؟
كلام سميرة كان لسَّه سايب أثر في دماغي، لقيتني برُد عليه بنبرة حادة:
-كويسة.
-مالك، مصدَّرالي الوِش الخشب ليه؟
-ولا خشب ولا بلاستيك، أنا وشِّي كده.
-طيِّب نبقى نشوف الموضوع ده بعدين، أنا كنت عاوز منِّك طلب.
-خير!
-كنت عاوز دهب الشبكة بتاعتك مؤقتًا ولمَّا الظروف تتحسِّن معايا هرجَّعه.
اتكهربت بمجرَّد ما سمعت طلبه؛ لأنه ميعرفش إن الدهب خرج من البيت بدون علمه، الصمت سيطر عليا ومقدرتش أتكلِّم، لكنه فسَّر صمتي على إنه تردُّد، ساعتها مَد إيده ناحية كتفي وبدأ يطبطب عليا وكأنه بيراضيني، وفي الوقت دَه كِف إيده اتحوِّل للأسود وهو بيلمس كتفي، وقبل ما أنطق بكلمه تليفونه رَن، شال إيده من على كتفي وطلَّع التليفون، وبمجرَّد ما شاف اسم المتصل أخد بعضه ودخل على الأوضة وقفل الباب عليه عشان مسمعش المكالمة. منكرش إن الشَّك اللي جوايا كان عامل زي القنبلة الموقوتة، وتصرُّفه اللي بقى بيتكرر كان بمثابة نزع فتيل قنبلة الشك عشان تنفجر جوايا، وبالمناسبة؛ كانت فرصة إني أشوشَر على حكاية الدَّهب، اللي شكِّيت إنه عاوزه فعلًا عشان يقدِّمه لواحدة غيري، دَه اللي خلاني قُمت من مكاني ورُحت ناحية الأوضة اللي بيتكلم فيها، وبمجرَّد ما فتحت الباب عليه اتوتَّر وقفل المكالمة، ومن هنا قطعت الشَّك باليقين، عشان كِدَه صرخت في وشُّه وقُلت له:
-مين اللي أنت بتكلِّمها يا عاطف؟
بَص لي بذهول وقال لي:
-إيه الهبل اللي بتقوليه دَه؟
-الهَبل اللي بجد إني أفضل عايشة معاك بعد اللي شُفته ده.
في الوقت ده كنت في أواخر شهور الحمل، وبرغم التَّعب اللي كنت فيه قرَّرت ألِم هدومي وأروح بيت أبويا، وقد كان.
في نفس اليوم بالليل كنت هناك، حكيت لأمي وأختي عن اللي حصل، وأمي حَكَت لأبويا بعد ما رجع من برَّه، وبعد كلام رايح جاي؛ أبويا وافق على اقتراح أمي لمَّا قالت: إن طالما الحكاية وصلت إنه يعرف واحدة عليا يبقى لازم أطلب الطلاق، وبعد أكتر من مكالمة بين أبويا وعاطف عشان الطلاق يحصل بطريقة وديَّة عاطف رفض، وساعتها اقتراح أمي اتنفّذ للمرَّة التانية، لمَّا قالت لازم نلجأ لمحامي عشان يرفع طلاق للضرر، ومعاه يرفع تمكين من الشقة بما إني على وِش ولادة وهكون حاضنة للطفل اللي هيتولد، دَه غير طلبات تانية كتير، أنا حتى سمعت أمي بتقول للمحامي في آخر مرَّة كنا عنده: “كل اللي تقدر تطوله منُّه هاته”!.
أصعب شيء الإنسان ممكن يمُر بيه؛ هو إنه يحوِّل نفسه لآلة ويعطي لغيره الريموت كنترول الخاص بيه عشان يتحكِّم فيه براحته، أدركت الحقيقة دي لمَّا كل ده كان بيحصل من حواليا وأنا لا أملك حق الاعتراض، ببساطة لأن أنا اللي قُلت عن عاطف إنه يعرف واحدة عليا، وبالتالي مكنتش قادرة أعترض عليهم وهمَّا بيقرروا مصيري وبيتحكموا فيه، حتى بعد ما عرفت رَد عاطف على حكاية المكالمات اللي بيتعمَّد يتكلِّمها بعيد عني عشان مسمعوش، لمَّا قال في المحكمة إنه بيمُر بظروف في شغله، ومكانش حابب يتكلم قدامي عشان الكلام ميأثَّرش عليا، خصوصًا إني في فترة حمل، والظروف دي كانت السبب إنه يطلب دَهبي مؤقتًا عشان يبيعه، وبفلوسه يقف على رجليه وبعد كده يشتري مكانه، بَس لمَّا الكلام ده وصل البيت عندنا، أمي ردَّت وقالت: “قالوا للحرامي احلف”، ولأني حطيت نفسي في موقف ضَعف؛ فكان قرارهم في تحديد مصيري أقوى منّي، والنتيجة إن المحكمة حكمت بطلاقي من عاطف بعد ولادتي لابني بكام يوم، وكمان حكمت بتمكيني من الشقة، اللي رجعت أعيش فيها من تاني مع ابني اللي لسَّه مولود، بَس مكنتش لوحدي، كان معايا أخويا وأختي بشكل دائم، بحجة إني مينفعش أعيش بطولي، لكن أمي وأبويا كانوا شوية عندي في الشقة وشوية عندهم.
من بعد الحكاية دي وكل شيء بيحصل بقى صادم بالنسبالي، لمَّا عرفت إن دَهبي اتباع بدون علمي، وأبويا اتصرَّف في تمنه لأنه كان محتاج فلوس، ودَه حصل بعد طلاقي بكام يوم، دَه غير إن ريما رجعت لعادتها القديمة، مرتَّبي مبقاش ملكي، ودَه بحجة إني بقيت عايشة معاهم وماليش أسرة، وبدل ما كُنت بسيب نُص مرتَّبي، المرتَّب كله بقى بيتبخَّر، طلبات أخويا وأمي وأختي، واللي زاد وغطَّى إن أبويا طلب منّي مبلغ تاني عشان لسَّه محتاج فلوس، ولمَّا قُلت له منين؟ لقيته بيقصد بالكلام مبلغ المتعة اللي أخدته من عاطف طليقي، ولمَّا كنت بقول لهم إني عندي طفل بيرضع صناعي ومحتاج مصاريف، كُنت بسمع رَد واحد مفيش غيره: “أبوه يصرف عليه”.
أما بقى عن القشة اللي قصمت ضَهر البعير، لمَّا عرفت إن رباب أختي اتقدِّم لها عريس، وفي قعدة الاتفاق لمَّا العيلتين اتجمعوا، لقيت أمي بتطلب منّي أخليني في شقّتي، مُش عايزة حد يستغرب كلامي، دَه حصل فعلًا؛ لأن أمي شافتني فال شؤم على أختي، وإن وجودي كمطلَّقة في بداية الموضوع ممكن يأثر على قناعة خطيبها بإنه يكمل الخطوبة.
بعد الخطوبة وجود أختي في حياتي بقى شيء نادر، حتى أمي انشغلت عني، لدرجة إني بقيت آخد ابني معايا الشُّغل أو أسيبه عند مُربِّية بالفلوس، كل شيء اتغيَّر ما عدا حاجة واحدة، مُرتَّبي اللي بيتم استنزافه، وده سبب إني قرَّرت لمَّا أخرج من شُغلي آخد ابني وأروح لعاطف في شغله، معرفش إيه سبب إني فكَّرت في كده؛ لكن شيء أقوى منّي هو اللي حرَّك الشعور دَه جوايا، وفعلًا محسِّيتش بنفسي غير وأنا واقفة قدامه في الشُّغل، ساعتها محاولش يبُص ناحيتي، كل اللي عمله إنه مَد إيده وشال ابنه وأخده في حضنه، استغلِّيت اللحظة دي وقُلت له:
-أنا آسفة يا عاطف.
عينيه اتحولت لقطعتين إزاز من الذهول، بعدها ضحك وقال وهوَّ بيسخر من كلامي:
-آسفة!
-عشان ابننا.
-ياااه؛ دلوقت افتكرتي ابننا، بس لمَّا كنتي مدوَّراها من ورايا وخلَّتيني أقف في المحاكم زي المجرمين مفكّرتيش في ابننا.
-كانت غلطة ومُش هتتكرر.
-مُش كل الغلطات ينفع نعتذر عنها، في غلطة بتكون هي الأولى والأخيرة، مفيش راجل بيسامح في إن مراته اللي كان طاير بيها في الدنيا تخليه يدخل محكمة، ومفيش راجل بيسامح لمَّا يتضح له إن مراته مدوَّرة الدنيا من ورا ضهره، وبتمشي ورا كلام أي حد مهما كان هوَّ مين، الراجل مُش بيسامح ولا بينسى أي شيء يدوس على رجولته، أنتِ جاية تعتذري بعد فوات الأوان، بَعد ما اكتشفتي حقيقة اللي حواليكي، وبعد ما عرفتي إن اللي بيخرج من داره بيتقل مقدراه، وأنتِ خرجتي من دارك وفتحتي الباب عشان أي أفعى في بوقّها شوية سِم تدخل تبخُّه جوَّاها، وبالنسبة لابني اللي جايَّة تقولي عشان خاطره؛ فهوَّ لمَّا يكبر هيعرف ويفهم كل حاجة، وهيعرف مين السبب في إنه يعيش ظروف اجتماعية المجتمع مش هيرحمه بسببها، ومهما حصل هو ابني وشايل اسمي، إنما اللي تعمل معايا كل ده مينفعش اسمها يرتبط باسمي تاني.
خلَّص كلامه وناولني الولد وسابني ومشي، مشيت وأنا فاقدة الأمل إن الدنيا ترجع من تاني لطبيعتها، في اليوم دَه بَس اتأكِّدت إني كنت مغفَّلة ومحافظتش على النعمة اللي غيري بيتمنَّاها، نِعمة البيت والسَّكن والمودَّة والرحمة، كنت فاكرة إن اللي هدِّيت بيتي عشانهم هيفضلوا سند ليَّا مدى الحياة، بس الأيام عرَّفتني إن السند اللي بجد؛ ميساعدش في إن بيتك يتهَد.
مع الوقت وبالتدريج بقيت لوحدي، كل واحد انشغل بحياته، وكأني ترابيزة سفرة كانت مليانة من خيرات ربنا والكل متجمَّع حواليها، وبعد ما الأكل اللي عليها بدأ يخلَص اللي حواليها بدأوا يقوموا واحد ورا التاني، الحياة بقت مُملَّة أكتر، بروح شُغلي وبرجع أقعد بابني، ومع الوقت بدأت أفتقد عاطف أكتر من الأول، ساعتها لقيتني بفتكر كلام سميرة زميلتي في الشغل؛ لمَّا كلمتني عن الشيخة نعمة، وإن سرَّها باتع واللي بتعمله مش بيخيب، لقيت نفسي بلجأ للفكرة لجوء المُضطر، كُنت عايزة حياتي ترجع من تاني بأي طريقة، لأني محسِّيتش بالنعمة غير لما زالت من وشِّي، ولأني مكنتش أقدر أروح للشيخة نعمة عشان سميرة هتعرف بحكم علاقتها بيها؛ بدأت أدوَّر على شيخة تانية.
بعد بحث طويل وصلت لصفحة شيخة اسمها فريال، كانت مسمِّية نفسها “الجلَّابَة”، ومعنى الكلمة حسب ما فهمت إنها بتجلب الحبيب والغائب والكلام اللي بنسمع عنه ده، اتواصلت معاها وحكيت لها حكايتي، بعدها طلبت منّي أروح لها البيت وآخد معايا أطري وأطر طليقي وأعمل حسابي في مبلغ، مكانش في صعوبة إني أوصل لأطره؛ لأن كان عندي شنطة تحت السرير فيها شوية هدوم من هدومه، أخدت منها العنوان، وفي اليوم ده أخدت أجازة من الشغل وجهّزت المبلغ ورُحت لها، ساعتها أخدت أطر عاطف وبدأت تكتب عليه رموز غريبة بقلم أحمر، وكتبت على أطري نفس الرموز، بعدها عقدت الأطرين ببعض وبدأت تقرأ عليهم كلام غريب، وفي النهاية جمعت كل ده في كيس أسود وعقدت حواليه عقدة من خيط كان موجود جنبها وقالت لي:
-الكيس دَه يتحَط في قبر قديم، بشرط إن النور ميطولش الكيس.
لمَّا مدَّت إيدها ناحيتي بالكيس حسيت إن جسمي اتنفض، لدرجة إني مقدرتش أرفع دراعي ناحيتها، في اللحظة دي كمِّلت كلامها وقالت:
-مدِّي إيدك متخافيش، عَدَلِك وصلاح بختِك في الكيس، خديه واعملي اللي طلبته منّك، وأسبوع وهيكون على بابك.
رفعت إيدي وأخدت الكيس وقُلت لها:
-قصدك إني أنا اللي أحطه بنفسي في القَبر؟
-لازم بنفسك؛ مينفعش حد غيرك.
برغم خوفي؛ قررت أكمّل الطريق لنهايته، أخدت الكيس وناولتها الفلوس وخرجت، وزي ما يكون في هاتف جوَّايا طلب مني أطلع من عندها على المقابر، الوقت كان بعد العصر، ولمَّا وصلت المقابر ولقيت الناس داخلة وخارجة، افتكرت إننا يوم خميس وإن ده وقت زيارة، ودَه خلى الحكاية سهلة بالنسبة ليا.
دخلت المقابر وكأني رايحة أزور حد، مشيت في شوارعها لحد ما دخلت شارع قديم، الظروف خدمتني وكان فاضي، بدأت أدوَّر في القبور لحد ما لقيت قَبر قديم، بابُه كان مكسور منه جزء بسيط، ملقتش فرصة أحسن من دي قدامي، وبدون ما أفكَّر رميت الكيس من الفتحة، بعدها دوَّرت في الأرض على كام قالب طوب يسدُّوا الفتحة، عشان ميدخلش منها نور زي ما الشيخة فريال الجَلَّابة قالت.
لمَّا خلَّصت أخدت نفس عميق، خرجت من المقابر وأنا حاسَّة بلمحة أمل، وقبل ما أرجع على شقتي؛ عدّيت على المُربِّية أخدت ابني، وفي الشقة؛ أخدت دُش وغيَّرت هدومي وقعدت، كنت زي اللي غرقانة في دوَّامة وميعاد خروجي منها بعد أسبوع، بدأت أعِد الأيام اللي بتفوت ببطء، مكُنتش بعمل حاجة غير شُغلي واهتمامي بابني، لحد ما وصلت لليوم اللي منتظراه؛ الخميس.
في اليوم ده اعتذرت عن الشغل، قعدت في البيت وكنت بعِد كل ساعة وكل دقيقة وكل ثانية، بَس اليوم فات والليل دخل، ومع فقداني الأمل سمعت خبط على باب الشقة، قُمت من مكاني ومشيت ناحية الباب، بصيت من العين السحرية ومصدَّقتش نفسي لمَّا لقيت عاطف، فَتحت وأنا مش مستوعبة اللي بيحصل، ومن جوايا كنت بشكر ربنا ومن بعده الشيخة فريال الجلَّابة اللي سرّها باتع فعلًا.
الموقف كان أكبر من إني أتكلِّم، وقفت قدامه في صمت، كنت بتأمّل ابتسامته اللي افتقدتها وقت طويل، وساعتها قال لي:
-عشان ابننا يا سماح، أنا ردِّيتك.
اترميت في حضنه ونسيت إننا واقفين على الباب، ولمَّا استوعبت إن الباب مفتوح شديته من دراعه جوَّه الشقة وقفلت الباب بالترباس، وكأني خايفة إنه يهرب تاني، في الوقت دَه سألني عن ابننا، قُلت له إنه نايم، ابتسامته زادت وقال لي:
-عمل خير، أكيد حاسس بيّا.
بدون مقدِّمات أخدني من إيدي على الأوضة، مشيت معاه وأنا جوَّايا سعادة عُمري ما حسِّيت بيها، مُش هنكر إني كنت في انتظار اللحظة دي من زمان، قضينا ليلة ولا ألف ليلة، بعدها حطيت راسي على صدره وعيني بدأت تغفِّل، غمَّضت عيني وأنا مرتاحة والنوم أخدني، بَس بعد شوية فتحت عيني على صوت ابني، كان بيصرخ بطريقة مخيفة، مديت إيدي عشان أصحِّي عاطف، لكني اتفاجئت بالسرير جنبي فاضي، خرجت من الأوضة وبدأت أدوَّر عليه، مكانش له أي أثر في الشقة، صراخ ابني زاد أكتر من الأول، أجِّلت التفكير في حكاية عاطف ودخلت على أوضة ابني، وبمجرَّد ما شُفته اتفزعت، لأن وشُّه كان عليه آثار سواد.
أنا فاكرة الآثار دي كويس، هي نفسها اللي كنت بلاقيها على جسمي لمَّا عاطف كان بيلمسني بكف إيده اللي بيتحوِّل، أخدت الولد من السرير وضميته لصدري، حاولت أخلِّيه يهدا لكنّي فشلت، رجعت بالولد على أوضتي وقعدت على السرير، كُنت بفكر إزاي الآثار دي وصلت لُه، في الوقت دَه لمحت صورتي على إزاز مراية التسريحة، نفس الآثار كانت على وشِّي ورقبتي ودراعاتي وكل جسمي، مكان ما عاطف كان بيلمسني لمَّا كان معايا!
حطيت الولد على السرير ورجعت أدوَّر على عاطف من تاني، لفيت في الشقة بدون فايدة، لكني وقفت عند باب الشقة وحالة من الصدمة بلعتني جوَّاها، لأن ترباس الباب كان مقفول من جوَّه، وبنفس الطريقة اللي قفلته بيها لمَّا سحبت عاطف من دراعه جوَّه الشقة، ساعتها حطيت كل حاجة على جنب وسألت نفسي سؤال: هوَّ إزاي عاطف خرج من الشقة والترباس لسَّه مقفول من جوَّه؟!
مفكَّرتش في أي حاجة غير إني مسكت تليفوني ورنِّيت عليه، رنَّة ورا التانية لحد ما رد عليا، صوته كان كلُّه نوم، ولمَّا رد عليا سألته:
-أنت رُحت فين يا عاطف؟
ساعتها رَد عليا بلهجة كلها استنكار وقال:
-يعني إيه رُحت فين! الواد كويس؟
-الواد كويس، أنا بسأل عنَّك أنت.
-وأنتِ إيه علاقتك بيَّا، وبتتصلي ليه طالما الواد كويس!
-عاطف أنت جيت وردِّيتني وكنت معايا في السرير، أنا متأكدة من اللي بقوله.
-ردِّيتك! دَه عشم إبليس في الجنة، أحلامك دي مش هتتحقق لمَّا تشوفي حلمة ودنك، وياريت مشوفش رقمك عندي غير لما الولد يكون محتاج حاجة، غير كده لأ.
الخط اتقفل في وشي، الدنيا دارت بيا ومبقتش فاهمة أي حاجة، أنا واثقة إنه كان معايا في الأوضة وكنت في حضنه، حتى الآثار اللي على جسمي بتثبت دَه.
وقفت من تاني قدام المراية عشان أتأكد من الآثار اللي على جسمي، لكن ملقتش لها أثر، وفي نفس الوقت اختفت من على وِش ابني، البرج اللي فاضل في نافوخي طار، جريت على تليفوني ورنّيت على سميرة، ردَّت عليَّا وهي مفزوعة وقالت لي:
-آلو، جرى إيه يا بنتي، ليه بتتصلي في وقت زي ده؟!
حكيت لها عن كل اللي حصل، ولمَّا سمعتني لحد الآخر قالت لي:
-بقول لِك إيه، لازم نروح للشيخة نعمة وإياك تقولي لأ، اعملي حسابك بُكره بعد صلاة الجمعة هنكون عندها.
مقدرتش أعترض على كلامها، خصوصًا وإني عملتها قبل كده في السِّر ورُحت للجلَّابة، وفعلًا تاني يوم بعد صلاة الجمعة كنا عند الشيخة نعيمة، وبعد ما سمعت منّي الحكاية وعرفت اسمي واسم أمي غمَّضت عينيها وبدأت تتمتم بحاجات مش مفهومة، وفضلت على الحال ده لحد ما فتّحت عينيها وقالت:
-اللي اتعمل لِك سبقِك على شقتك، عَمَل بالتفرقة والسيطرة وسلب الإرادة، الغرض منه إنك تكرهي جوزك وتشُكّي فيه وتبعدي عنه ومتبقيش طوعه، عشان كده خادم السِّحر كان بيخليكي تشوفي كِف إيده بالشكل ده ومع الوقت تبدأي تنفري منُّه، ويخلِّي ولائك برَّه بيتك.
كنت مصدومة من اللي بسمعه، عشان كِدَه قُلت لها:
-مين اللي يعمل فيَّا حاجة زي دي، أنا عُمري ما أذيت حد!
-حد ريحته من ريحتك ودمُّه من دمِّك.
-تقصدي حد من أهلي؟
-مش هقول مين بالظبط، بَس اللي اتعمل اترَش في شقتك وهي بتجهز، والهدف من وراه إنك متطوِّليش في الجوازة، والسبب أنتِ أدرى بيه منّي. أما بقى عاطف اللي بتقولي إنه ردِّك؛ فأحب أقول لِك إنه مُش عاطف جوزك، دَه قرين الشخص اللي اندفن في القبر اللي رميتي فيه العمل اللي بتقولي عنها الجلَّابة عملته، واللي حصل عهد بينه وبين خادم السِّحر اللي اترش عندك في الشقة، لأنك اعتديتي على حرمة ميِّت ورميتي جنبه نجاسة، ولأن اللي بيترمى في الضلمة مش بيجلب غير الخراب قرين الميِّت كان لازم ينتقم، عشان كده العهد حوِّل خادم السِّحر لمَس عاشق، يعني اللي نمتي معاه خادم السِّحر، ومرَّة في مرَّة هيتملِّك منِّك، أنتِ دمَّرتي نفسك أكتر من مرَّة يا سماح، مرَّة لمَّا سمحتي إن بيتك يتهَد، ومرَّة لمَّا دخلتي بيت نصَّابة بتستدرج الناس من على النت، يعني ضررها أكتر من نفعها، ومرَّة لمَّا مشيتي ورا هاتف شيطاني خلاكي تطلعي من عندها ترمي النجاسة اللي في إيدك في قبر ميِّت، بَس مهما بلغ الأذى مفيش شيء مستحيل، كله هيتحل بإذن الله، المهم تكوني نويتي التوبة والاستقامة.
في نفس اليوم بدأت معاها أوِّل جلسة علاج، وبعدها واظبت على جلسات العلاج في المواعيد اللي كانت بتحددها وكانت سميرة بتحضر معايا، وبعد كل جلسة كنت باخد منها إزازة فيها مَيَّه وبرُش منها في الشقة، دَه طبعًا بعد ما طلبت منّي أروح لنفس القبر وأطلَّع العمل اللي عملته فريال الجلَّابة.
مكانش قدامي غير إني أروح المقابر في يوم زيارة، فتحت الجزء المكسور من باب القبر وطلَّعت الكيس واتخلَّصت منه، من بعدها بدأت أشوف عاطف من تاني في الشقة، كان بيظهر من العدم وبيختفي، لكنه مكانش بيحاول يقرَّب مني، ومع آخر جلسة علاج كل ده اختفى، عاطف اللي بيظهر لي أو خادم السِّحر مبقاش له وجود، بالظبط زي ما عاطف طليقي مبقاش له وجود في حياتي، وده لأني عرفت إنه كتب كتابه على واحدة تانية وقرر يبدأ حياته من جديد.
أنا بحكي القصة دي بعد ما فات عليها سنين طويلة وابني كِبر، وعلى مدار السنين دي كنت عايشة حياة بائسة، الوحدة خلَّتني أعجِّز بدري، وده لأني كنت بلوم نفسي كل يوم والتاني، لأني سمحت لنفسي أكون الشاكوش اللي حد مسكه وهد بيه بيتي، دَه غير تأنيب ضميري على دخولي بيت نصَّابة والتعدّي على حرمة ميِّت.
الأيام كفيلة إنها تخلّي الواحد يتعلم، وده لأن أبويا وأمي ماتوا، أختي اتجوِّزت وبقى عندها عيالها وانشغلت في حياتها والعلاقة بينا شِبه مقطوعة لنفس السبب اللي منعني من حضور خطوبتها، أخويا كمان اتجوِّز وبقى مشغول في حياته، وعلاقته بيا شبه مقطوعة لنفس السبب، ومن وقت ما أدركت الحقيقة دي كنت بسأل نفسي باستمرار: أنا ضيَّعت حياتي ليه؟ وعشان مين خلِّيت ابني يعيش الظروف اللي عاشها؟ خصوصًا لما كِبر وأدرك حقيقة اللي عملته مع أبوه، وبقيت في نظره أم هدمت بيتها بغبائها، وده سبب إني مقدرتش أبدأ حياة جديدة وأتجوز تاني، لأني مقدرش أصدم ابني صدمة أكبر ويلاقي نفسه عايش مع جوز أم، من الآخر، مقدرتش أكون سيئة في روايته مرتين.
مكنتش قادرة ألوم حد منهم، لأن لولا الثغرة اللي سمحت بيها مكانش حصل اللي حصل، وبرضه مكنتش قادرة ألوم فريال الجلَّابة، أنا اللي رُحت لها برجليا وفتحت الباب لأذاها، أنا اللي مشيت في الطريق دَه من البداية، أعطيت فرصة للشياطين إنهم يوسوسوا ليا ونفِّذت كلامهم، لحد ما مشيت ورا هاتف شيطاني سمعته جوايا من الشيطان الأكبر ورميت السِّحر في القبر، ومن بعدها العمل اللي عملته الجلَّابه حوِّل خادم السِّحر اللي كان بيزاولني عشان يكرَّهني في عاطف لمَس عاشق؛ لدرجة إنه خدعني وخلاني أنام معاه وأنا فاكرة إني مع جوزي، أنا اللي عملت كل ده، يعني لو في حد يستحق لقب جلَّابة فعلًا هيكون أنا، أنا اللي جلبت الأذى لنفسي من البداية.
***
تمت…