قصص

ابن الدجال

حَيَاتِي اِتحَوَّلِت لِجَحِيم من يوم المُكَالمة اللي جاتلي وأنا في الشُغل. كُنت واقِف على الكاشير، بحاسِب زبون، لقيت الموبايل بيرن، الرقم مش متسجل، وأول لما رديت سمعت صوت شخص غريب بيتكلم بنبرة حزن وبيقول لي:
-البقاء لله .. والدك اتوفى.
انهارت واعصابي كلها سابت، رديت والدموع بتنزل من عيني وقولت:
-إزاي ده حصل .. لأ مش ممكن، أكيد في حاجة غلط، قول لي إنك بتهزر.
-شد حيلك يا أستاذ… ربنا يصبرك.
-طب انتوا فين.. قولي اسم المستشفى… أنا جاي حالًا.
أول لمَّا وصلت لقيت دكتور في وشّي سألته عن الشخص اللي جه في حادثة عربية من شوية، بص في الأرض وحط ايده على كتفي وهو بيقول:
-ربنا يرحمه يارب. هو أكيد في مكان احسن.. أنت ابنه مش كده؟.
-أيوه.. إزاي ده حصل؟. أنا مش مصدق.
– والدك عربية خبطته على الطريق من شوية، وجالنا هنا، لكن للأسف السر الإلهي طلع وهوَّ على البوابة، كُنّا عاوزين نوصل لأي حد من أهله، ولحسن الحظ لقينا الموبايل ده معاه، ومكنش عليه باسورد، فتحته ودخلت عشان أشوف حد ابلغه، لقيت رقم متسجل “بأبني”. كلمناك عشان تيجي هنا وتخلص الإجراءات.
-طب هو فين دلوقتي أنا عاوز اشوفه. أبص عليه بصة واحدة بس.
-أنا مقدر تمامًا اللي انتَ فيه، بس للأسف مينفعش دلوقتي، لأنه دخل المشرحة، تقدر ترتاح هنا لحد ما تستلمه، عن إذنك.
كُنت هتجنن، حسيت إني عجّزت وضهري اتكسر، مكنتش مصدق إن أبويا خلاص راح ومش هشوفه تاني.
“معقول أتحرم منّه ومن حضنه الدافي وحنيته عَليّا، يارب الصَبر من عندك يارب، يارب ارحمه واغفر له برحمتك الواسعة يارب.. ربنا يرحمك ياراجل ياطيب، إن لله وإن إليه راجعون.”
فضلت ادعيله وانا بعيط، لحد ما فات وقت طويل وقدرت استلمه بعد ما خرج تصريح الدفن. أنا وابويا مكنش لنا حد من بعد موت أمي، كُنّا مقطوعين من شجرة، ودلوقتي ابويا حصّلها وأنا بقيت لوحدي في الدنيا. روحت به البيت، ودخلت حضرت الغُسل، وشه كان ابيض منوّر وكان بيضحك، ومن رحمة ربنا إن جسمه كان سليم.. مفيهوش غير خدوش بسيطة، قربت منّه وبوست دماغه، حسيت بحرارة غريبة خارجة من جسمه على عكس العادة، لأن الشخص الميت جسمه بيكون متلّج. فضلت واقِف قريب منّه، وفجاءة عينيه فتّحت واتقفلت تاني بسرعة، اتنفضت.. ورجعت كام خطوة لورا وانا جسمي كله بيترعش، حسيت بالخوف تجاه جثة أبويا، لأن مهما كان؛ حتى لو الشخص أقرب الناس لك، رهبة الموت لوحدها كفاية ترعبك منّه، ما بالك بقى لو لقيت عينيه فتحت فجأة.
فضلت واقف مبلم لحد ما لقيت عم “عارف” المُغَسّل بيسألني:
-مالك يابني فيك أيه.
مكنتش قادر أرد عليه لأن حسيت إن لساني مشلول من أثر الصدمة.
-أنا مقدر اللي انتَ فيه يابني ربنا يصبرك.
من كلامه عرفت إنه ملاحظش أي حاجة، فضلت واقف ساكت لحد ما خلّص، بعدها نقلنا أبويا الجامع. وبعد ما صلينا عليه.. روحنا التُرب، الجو كان هادي ومقبض بسبب قلة الناس اللي كانت موجودة، وقفنا قُدام تُرب الصدقة والشيخ بدأ يدعي.
“اللهم اجعل قبره روضة من رياض الجنة ولا تجعله حفرة من حفر النار، اللهم إن عبدك في ذمتك وحبل جوارك فقه عذاب النار واغفر له وارحمه إنك أنتَ الغفور الرحيم، اللهم ادخله الجنة برحمتك ورضاك، يا رب اغفر لعبدك الميت الفقير له في أول ليلة في القبر وارفع درجته وافسح له قبره.”
وبعد ما الشيخ خلّص، الناس كلها بدأت تمشي واحد ورا التاني، لحد ما بقيت لوحدي. الهدوء زاد أكتر لحد ما التُرب بقت ساكنة كأنها مدينة أشباح، واللي زاد وغطى الجو لما قلب فجاءة، ولقيت قطرات ماية بتنزل على وشّي، واللي كانت بتزيد مع الوقت، قلبي كان مقبوض وكنت هموت من البرد والخوف، فضلت اقرأ قرآن لأبويا ومردتش اسيبه؛ كنت عارف إنه بيخاف من الضلمة، فضلت كده طول الليل ولما النهار طلع روّحت.
اترميت على السرير ونمت. صحيت معرفش بعد قد أيه، بس اللي متأكد منّه إني نمت كتير لأن الليل جه، غسلت وشي ولبست الچاكيت الجلد وروحت التُرب عشان اقضي الليلة معاه، مكنتش سامع أي صوت غير صوت صرصور الحقل، ومع كل خطوة كنت بمشيها ضربات قلبي كانت بتعلى معاها. أنا صحيح كنت خايف، بس مكنتش أقدر اسيب أبويا، فراقه كان صعب عليا وكنت رافض أصدق إنه مات، واللي عملته الليله اللي فاتت قررته تاني، بس المرادي بدأت أسمع أصوات همس اشبه بالهمهمة كسرت الهدوء اللي في المكان، وشي شَحب وشعر أيدي وقف من الرعب، وقفت وأنا ببص يمين وشمال، ما كنتش شايف غير القبور اللي محوطاني من كل ناحية، حسيت إن حد واقف ورا ضهري، لفيت وشي بسرعة ملقتش حد، أتكلمت بتلعثم وقولت:
-ف.. في حد هنا؟.
صوت الهَمهَمة وقف، والمكان رجع للهدوء من تاني. لكن مستمرش الوضع كده كتير، لأن سمعت اصوات أقدام في كل حتة حواليا، فضلت ابص يمين وشمال، لكن مفيش أثر لأي حد، مشيت ببطء.. جريت .. جريت بكل طاقتي لما سمعت أصوات الخطوات دي بتقرب منّي، ضربات قلبي كانت بتزيد مكنتش قادر اخد نفسي .. تعبت فـَ وقفت، وطيت على الأرض وفضلت اخد نفسي بسرعة، أصوات الخطوات اختفت وحسيت بحرارة شديدة كانت جاية من ورا ضهري، جسمي اترعش ورجلي خبّطت في بعضها، حسيت إن الدنيا بتلف بيا بس مش بسبب الدوخة لأ.. بسبب دماغي اللي مكنتش قادرة تميز اللي بين الحقيقة والوهم، لفيت وشي ببطء لمحت وشه، كَيان أسود له قرن في وسط راسه، وعينيه حمرا زي الجمر، وله ديل مدبب؛ اشبه بديل الشيطان، قرّب منّي وقال بصوت أجش:
يتبع…
لفيت وشي ببطء لمحت وشه، كَيان أسود له قرن في وسط راسه، وعينيه حمرا زي الجمر، وله ديل مدبب؛ اشبه بديل الشيطان، قرّب منّي وقال بصوت أجش:
-سترث العهد، فأنت الوريث الوحيد لخادمنا.
مقدرتش اتحمل اللي بيحصل واغمى عليّا، فوقت لقيت نفسي مرمي في وسط التُرب، والتراب مغرق هدومي وفي دود بيزحف عَليّا ووصل لجسمي، اتفزعت ونفضت هدومي وخرجت جري من التُرب، رجعت البيت، كنت قاعد بفكر، ياترى اللي شوفته ده حلم ولا علم؟ وايه الكلام اللي سمعته ده، كنت عاوز أفهم، وقفت قُدام اوضة أبويا اللي كان رافض إني أدخلها، أكيد الأوضة دي وراها سر وأنا لازم أعرفه، كسرت القفل اللي كان عليها ودَخلت، اتجمدت من المنظر اللي شوفته قدامي، الحيطان كان عليها رسومات وأرقام غريبة، وكان في كمية لبن كبيرة محطوطة في ازايز..وورق كتير مرسوم عليه شياطين ومحطوط جوا راس خنزير متحنط، فضلت واقف مبلم، يعني أيه الكلام ده، ابويا كان دجال! فضلت اقلب في الأوضة لحد ما لقيت مُذكرة شكلها كان غريب، لونها اسود وملمسها شبه جلود الحيوانات، فتحتها وبدأت اقرأ اللي فيها، واللي فهمته إن أبويا كان عامل عهد مع الجن، ورفضه لدخولي الأوضة دي إنه كان خايف عليَّا لتأذي منهم، وبما إنه مات يبقى أنا كده الوريث؛ ولازم أكمل العهد اللي بدأوا لأما هموت! مكنتش قادر أفكر، دماغي كانت هتتشل. ابويا الراجل اللي كنت بحلف به وبتشرف إنه ابويا يطلع دجال مشعوذ ونصاب، وأنا عشان اعيش لازم أكمل اللي بدأوا!
خرجت من الأوضة وقعدت على الكنبة، كنت سرحان وتايه، خايف من مصيري اللي جاي، الأيام بقت تمر والكيان ده مظهرش تاني، بس انا كنت منعزل في البيت لا باكل ولا بشرب ولا حتى بخرج اروح الشغل، شعري طول وظهر عليه الشيب، الجلخ ملى جسمي، لدرجة إن جسمي اتملى تقرحات بسبب الدود اللي كان بينهشه، أيامي بقت تقيلة. كنت مفكر الموضوع خلص بالعقدة النفسية اللي جات لي، لكن اللي حصل بعد كده عرفني إن كل دي كانت بداية لحاجات ابشع، ظهرلي تاني بنفس الملامح اللي شوفتها قبل كده، واداني ورقة وطلب منّي امضي العقد، وبدون إرادة منّي لقيت أيدي مسكت سكينـ،ة وجرحت صُباعي.. وبالدم العهد تم، كنت بتعذب بطلباته اللي مش بتنتهي وتأثيرها النفسي عَليّا، قطعت صلاة وعملت كل المنكرات، لدرجة إنه طلب منّي اقدم له قربان عشان أثبت ولائي، رفضت وتمسكت بكلامي، عذابه ليا زاد لحد ما وافقت.
استنيت الليل يليل، وخرجت من البيت، كُنت براقب الأطفال اللي بتلعب في الشارع، لحد ما حددت هخطـ،ف أنهي واحد فيهم، طفيت لمبة العامود الوحيد اللي كان منور الشارع، واتأكدت خلاص إن محدش شايفني، جريت على الطفل كتفته بأيدي وحطيت أيدي على بُقه عشان ميصرخش، ورحت به للتُرب، الطفل دموعة كانت مغرقة أيدي، وجسمه كان بيترعش.. بس مش من البرد.. من الخوف، ظهر لي الكيان المُرعب تاني، ووجهني؛ خلاني رسمت نِجمة خُماسية.. وبإشارة منّه، النار قادت حواليها، سحبت السكيـ،ة من جيبي.
كنت سامع انين الطفل من ورا اللزقة اللي حطيتها على بُقة وهو مستني مصيرة الأسود، كُنت باخد نفسي بسرعة، أيدي كانت بتترعش، عقلي رافض يصدق اللي هعمله.
مَشّيت السكيـ،نة ببطء على رقبته، الدم اتنطور في كل حتة، لدرجة إنه غرّق وشّي وحوّله للون الأحمر، مسكت جسمه اللي كان بيتنفض وثَبتّه.. مخلتوش يتحرك جوا الدايرة، الغريبة إني محستش بأي تعاطف تجاهه، الأدرينالين كان عالي في جسمي، ومكنتش حاسس بنفسي، فضلت كده وقت طويل لحد ما الأرض اتفتحت وبلعت الجثة، ووقتها كل حاجة رجعت لطبيعتها.. إلا أنا. عدى اليوم وفي اليوم التاني اهل الطفل كانوا قالبين عليه الدنيا، كُنت سامع صوت صراخ امه وبكائها ليل نهار، ومكنتش مخلي حد يشوفني في الحالة دي، كنت متخفي بعيد عن أنظار الناس.
سمعت صوت خبط على الباب. لقيت واحدة ست في وشي، اول لما شافتني اتخضت ورجعت كام خطوة لورا، تعابير وشها اتغيرت وحسيتها اتوترت من منظري، حاولت تتماسك وقالت:
-مشوفتش الواد ابن “راضي” جاركم؟ أصله مظهرش من امبارح، وقلبنا عليه الدنيا ما لقيناهوش كأنه فص ملح وداب. وتقريبًا سألنا كل الجيران مفاضلش غيرك.
-زي ما أنتي شايفه كده، انا مبخرجش من البيت، ربنا يعتركم فيه يارب.
وقبل ما ترد كنت قافل الباب في وشها، دخلت اترميت على السرير، وسَرحت في كُل اللي حصل، مر اليوم والساعة وصلت ١ بعد نص الليل، لقيت رجلي وخداني على التُرب، بقيت بحس إن ده بقى مكاني المُفضل، حتى رهبتي تجاه المكان اختفت.
ممرش كتير ولقيت اصوات ناس في كل حتة؛ هجموا عليا وكتفوني.. وأم الواد لما شافت الدم اللي كان ناشف على الأرض فضلت تصرخ وتحط تراب على هدومها وهيا بتردد جملة واحدة بس:
-مفيش غيره اللي قتل ابني.
****
-وبس كده يا دكتور، سلموني للقسم، وهناك اعترفت بكل حاجة.
-يعني انتَ عاوز تفهمني إن كل اللي حصل ده بسبب عهد بينك وبين الجن؟
-أيوة.
-بقى ده كلام يدخل العقل يا راجل. ساعدني “يا يحيى”، عشان أقدر اساعدك، انا مطلوب منّي اسلّم التقرير النهائي لحالتك في اسرع وقت. ولو مساعدتنيش هتتعدم.
فضل يتلفت يمين وشمال.. وحط ايديه على وشه كأنه بيدافع عن نفسه من حاجة أنا مش قادر اشوفها، جسمه أتشنج وفضل يصرخ بهيستريها.
المُمَرضين دخلوا كتفوه، وخد حقنة مُهَدّئ.. ورجَعوه قسم العزل. أما أنا بعدها بكام ساعة.. كَتبت التقرير النهائي لحالته.
لأن خلال الأيام اللي فاتت، لاحظت تصرفاته الغريبة، كلامه المُتَقطّع، والعُنف اللي ظهر عليه فجأة من غير سبب واضح. الفحوصات النفسية اللي عملتها بينت إنه مريض فَصّامي، ومش فاهم اللي بيعمله، ووقت الحادثة أفعاله كانت نتيجة هلوسات وأوهام، مش قرار واعي. ده غير حكايته اللي حكاها لي من شوية. كل دي حاجات بتأكد إن الشخص ده عمل كده وهو غير واعي تمامًا. لأن لما النيابة امرت بتفتيش بيته محدش لقى أي حاجة من اللي كان بيقولها في اوضة والده.
أنا بكتب التقرير ده عشان أوضح إن الراجل ده محتاج علاج نفسي مستمر، وعزل عن أي مؤثرات ممكن تزيد حالته سوء. وكمان لازم نأمن المجتمع منّه في الفترة دي.
ده مش مجرد تقرير قانوني، دي حالة إنسان محتاجة رعاية حتى لو أفعاله صعبة ومؤذية.
أنتَ رأيك أيه؟ هل هو فعلًا مريض نفسي، ولا كان يستاهل حُكم الإعدام.
تمت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى