
الحكاية بدأت من زمان، في صباح يوم من 13 سنة تقريبًا، في قرية اسمها “كفر الخوص”، لما فلاح على قد حاله اسمه “عِتمان”، كان في الغيط الفجر، زيه زي أي فلاح بيحب أرضه، وساعتها سمع في الجُرن؛ الأوضة البوص اللي في الغيط يعني، صوت طفل رضيع، كان مفطور من العايط، ولما دخل الجرن عشان يشوف الصوت ده جاي منين، كان الجرن ضلمة، لأن النهار كان لسه مطلعش، لكن كان سامع صوت الطفل، اللي كان بيزيد في العايط، ساعتها ولَّع اللمبة الجاز، اللي متعلَّقة على عمود الخشب اللي في الجرن، وبعدها الضلمة انكسرت، عشان يشوف تحت رِجله طِفل رضيع، ملفوف في قماش أبيض.
كان بيستغفر ربنا وهو بينزل على الأرض؛ عشان يشيل الطفل، اللي أول ما حس إن في إيد بتطبطب عليه بطل يعيَّط، في اليوم ده ماكملش في الأرض، لف الطفل وأخده ورجع على الدار، وأول ما دخل الدار، نده بصوته العالي على “نبوية” مراته، ولما شافته راجع على غير عوايده، ضربت على صدرها وقالت:
-خير كفى الله الشر، إيه اللي رجعك يا “عتمان”؟
ومن غير ما يجاوبها، كان بيقرب منها، وهي كانت بتبص للقماشة الملفوفة على إيده وبتقول له:
-إيه اللي على إيدك ده؟!
وبدون ما يجاوبها مد إيده بالطفل وقال لها:
-مدِّي إيدك وسمِّي.
أول ما شافت إنه بيعطيها طفل، عينها برَّقت وبوقها اتفتح، زي ما تكون اتصدمت، لكن بعدها بشوية أخدت نفسها وقالت له:
-يالهوي، إيه اللي أنت جايبه ده؟ جايب الواد ده منين؟!
-لقيته في الغيط يا “نبوية”، افتحي معايا تحقيق بقى.
-يعني إيه لقيته في الغيط؟ وإيه اللي هيودِّيه هناك.
-هايكون إيه اللي هيودِّيه هناك يعني؟ طفل مولود ومرمي في الغيط، هايكون خرج يتمشَّى وتاه يعني؟! أكيد واحدة خاطية ولدته وحبت تتخلَّص منه، رمَته في الغيط وطلع من حظنا.
-ربنا يستر على ولايانا، طيب وهنتصرف ازاي؟
-هنعمل اللي أي حد ممكن يعمله، هنربيه ونكسب فيه ثواب، ولو ظهر له أهل هما أولى به، ولو مظهرش أهو إحنا هنكون أهله، وماتنسيش إننا مخلفناش.
وساعتها سمى الولد “بركات”، ربنا ألهمه بالأسم ده وأنطَق به لسانه، ويوم ورا التاني، والطفل بدأ يكبر، يِحبي، وبعدها بدأ يخطِّي ويمشي، بقى بيتحرك في الدار، وشوية شوية بدأ يقف على باب الدار ويخرج للشارع، زي أي طفل في أي دار من دور الكفر، لكن هو كان بعيد تمامًا عن أطفال الكفر، بحكم حاجتين، أولًا إن دار “عتمان” كانت متطرفة وبعيدة عن دور الكفر، ثانيًا إنه لو كان في فرصة يتعامل مع أي طفل، كان أهل الطفل ده بيبعدوه عنه، لأنه مش معروف مين أبوه وأمه، وكل واحد بيخاف على ضناه.
لكن مع الوقت ده كله، مفيش حد سأل عن الطفل، عشان كده “عتمان” اعتبره ابنه، كان بيقول إن ربنا مارزقوش بطفل من صلبه، لكن بعت له طفل لحد أرضه، ويمكن ده السبب اللي خلاه يحب أرضه جدًا، لأنها كانت مصدر رزقه، في الأكل والفلوس والولد.
والولد بدأ يكبر، لكن كانوا بيلاحظوا عليه حاجات غريبة، إنه بيقوم في نص الليل، وبيتحرك في الدار كأنه بيدور على حاجة، وبيقف يبص لزوايا الدار، ولما بدأ يتكلم كويس، بدأوا يسمعوه بيتكلم مع حد مش موجود، سواء بالليل لما بيصحى لوحده، أو لما بيكون قاعد قدام الدار بالليل، ولما بدأ يكبر أكتر، بدأ يغيب ساعات طويلة عن الدار، كم واحد من أهل الكفر شافوه خارج من المقابر، كان بيعمل إيه هناك الله أعلم، كل اللي كان على لسان “نبوية”، هو إن “بركات” مجنون، ماهو مفيش حد بيقف يتكلم مع نفسه، لكن “عتمان” كان شايف إن الولد ممكن يبقى من أولياء الله، أما أنا؛ فكنت شايف إن “بركات” ملبوس، أو ممسوس، سموها زي ما تسموها.
نسيت أقولكم إني “عبد ربه”، صديق “عتمان” الله يرحمه، والفضول أخدني بعد ما “عتمان” كلمني عن “بركات” قبل ما يموت بأسبوع، استغربت إنه بيحكي لي حاجة الكفر كله عارفها، بما فيهم أنا، وعشان كده كنت عاوز أعرف إيه القصة بالظبط، فضلت قاعد سهران على باب الدار، عشان كنت متأكد إن “بركات” هيعدِّي زي كل ليلة ويروح المقابر، ما أنا الدار بتاعتي في الطريق، وأول ما لمحته جاي من بعيد، اتداريت في الباب، لحد ما فات وكمِّل طريقه، حطيت الشال على دماغي ولفيت طرفه حوالين وشي، ومشيت وراه من بعيد لبعيد، لحد ما وصلنا المقابر، وساعتها وقف شوية يبُص حواليه، زي ما يكون حاسس إن حد مراقبه، معرفش جاله الإحساس ده ازاي، رغم إن المسافة بينا كانت كبيرة، لكن حظي كان كويس، أول ما حسيت إنه هيبُص وراه، اتداريت في شجرة كانت قريبة مني.
بعدها دخل المقابر، وساعتها خطفت رجلي بسرعة، عشان أراقبه، قلت يعني مانتظرش كتير، عشان مايتوهش مني جوَّه، دخلت وراه وكنت واخد حذري منه، ما أنا معرفش الملبوس ولا الممسوس ده؛ ممكن يعمل معايا إيه لو شافني، كان كل ما يدخل شارع، أقف على ناصيته وأبُص أتأكد إن كان ملاحظني ولا لأ، ولما أطَّمن إن الدار أمان، كنت بكمِّل وراه، لحد ما بصيت لقيته واقف قدام قبر، كان بيبُص للقبر بطريقة غريبة، إيده كانت بتتحرك، وراسه، كأنه واقف بيكلم حد، وبعدها لقيته بيدخل القبر، قلبي اتخلع من مكاني، وسألت نفسي إيه اللي دخَّل المجنون ده جوَّه؟
فضلت مراقبه، الوقت فات والواد لا حِس ولا خبر، قلت مابدِّهاش بقى، دخلت الشارع ومشيت ناحية القبر، ولما قرَّبت منه وقفت وانتظرت شوية، مافيش صوت، مافيش حركة، بدأت أقرَّب واحدة واحدة، لحد ما لقيت نفسي واقف قدام القبر، واللي ماكنتش مصدقه، إن القبر كان فاضي، كُنت ببحلق في القبر المفتوح والرملة اللي فيه، وبسأل نفسي هو الواد راح فين؟!
بيني وبينكم، ماقدرتش أتحكم في أعصابي، ولقيت نفسي بقول يا فَكيك، أخدت بعضي ومشيت من قدام القبر، ويادوب هكسر يمين عشان أخرج من الشارع، وسمعت صوت ضِحكة، اتسمّرت في مكاني، ولما التفت ورايا بالعافية، لقيت طرف الجلابية بتاعة “بركات” خارجة من القبر، ماقدرتش أقرَّب ولا أروح ناحيته، كل اللي عملته إني خرجت من الشارع، ووقفت بنُص راس أراقب اللي بيحصل، لحد ما لقيته خارج من القبر، بيضحك ومبسوط، جسمي بقى يُنطر عرق من الخوف، هو ازاي خارج من القبر والقبر كان فاضي؟! والسؤال الأهم، هو اختفى فين وظهر تاني ازاي؟!
لما لقيته جاي ناحيتي، قلت يا روح ما بعدك روح، الجري في الحالات اللي زي دي، مُش بيبقى نُص المجدعة وبس، لا دا بيبقى المَجدَعة كلها، رِجلي مكانتش بتعلِّم على الأرض، لحد ما وصلت الدار، دخلت ووقفت ورا الباب، كنت منتظر أشوف إيه اللي هيحصل، لحد ما لقيته فايت في الشارع، وراجع ناحية بيتهم عادي، ولا كأنه راجع من الغيط.
من الليلة دي، اتأكدت إن الواد ده مخاوي، وإن اللي كان “عتمان” بيحكيه مظبوط، بس اللي متأكد منه، إن “عتمان” مكانش يعرف حاجة عن اللي بيدور في المقابر، أنا شُفت جزء منه، لكن معرفش إيه اللي بيتم بالظبط.
في الليلة اللي بعدها، اتداريت ورا باب الدار لحد ما يفوت، وطلعت وراه، المرَّة دي مكانش رايح ناحية المقابر، دا كان واخد طريق الغيط، مشيت وراه وكنت واخد حذري إنه مياخدش باله، لكن كان من وقت للتاني يبُص وراه، وكنت بتدارى منه في أي حاجة، شَجرة، ولا حوض مَيَّه، ولا ماكينة ري، تقريبًا الجِن اللي مخاويه كان بيقوله إن في حد وراه، لحد ما وصل الغيط، وزي ما تكون رجليه عارفة الطريق، دخل على الجُرن على طول، قربت من الجُرن، لكن مُش من ناحية الباب، عشان لو خرج فجأة مافيش مكان أتدارى فيه، أنا لفّيت من ورا الجُرن، ورقَدت في ضَهر البوص، ورميت وداني عشان أعرف بيعمل إيه، لكن فجأة؛ بدأت أشوف نور طالع من بين فراغات البوص، عرفت ساعتها إن اللمبة الجاز ولعت، بصيت من بين عودين بوص سايبين فراغ كبير ما بينهم، ولقيت الجُرن فاضي، كنت فاكر إنه ولَّع اللمبة الجاز وخرج، لكن لقيته بيتكلم في الجُرن، برغم إني مش شايفه، وداني كانت لاقطة الكلام كله لما كان بيقول:
-هانفضل كل ليلة نتقابل، في المكان اللي تحدِّديه، سواء هنا أو في القَبر.
جِسمي اتنفض وأنا بقول في سري: بسم الله الرحمن الرحيم، هو المخاوي ده بيكلم مين، لكن جسمي اتنفض أكتر، لما سمعت صوت واحدة بترُد عليه وبتقول له:
-المهم إنَّك متعدِّيش ليلة من غير ما تيجي.
الفراغ اللي ما بين البوصتين، كان مخليني شايف الجُرن كله من جوَّه، وكنت واثق إن الواد جوَّه ومعاه واحدة، لكن زي ما يكون في غشاوة على عيني منعاني من إني أشوفهم، الواد ده مخاوي عفريتة وبيكلمها، وبيقابلها، لو في الجُرن بس، هقول عشان “عتمان” لقاه في نفس المكان، إنما ليه القَبر، وازاي أنا سامع صوتها وهي بتكلمه؟!
مقدرتش أنتظر، أخدت بعضي ومشيت، رجعت على الدار من طريق تاني، الطُرق في الغيطان مفتوحة، وممكن يعرف إني ماشي وراه، دا لو مكنش عارف يعني، دخلت الدار ولقيت مراتي في انتظاري، وأول ما لمحتني؛ لقيتها بتقول لي:
-أنت راجع بعد نُص الليل بتتسحَّب زي اللي عامل عاملة ليه يا “عبد ربه”؟
اتخضِّيت لما لقيتها قدامي وقلت:
-بسم الله الرحمن الرحيم.
-إيه؟ فاكرني عفريتة هاتصرفني؟ راجع متسحَّب ليه؟ متجوِّز عليا وبتروح لها بالليل؟
-أتجوِّز عليكي إيه يا “بدرية”؟ دا أنتِ تسدِّي نِفس الجاموسة عن العَلف، خشي نامي، إيه اللي مصحِّيكي دلوقت؟!
دماغي كانت بتودِّي وتجيب، قعدت مع نفسي في الصالة، وكنت عاوز أعرف إيه الحكاية، فكرت أحكي اللي شُفته لـ “نبوية”، مهما كان هي عايشة معاه لوحدها في الدار، خُفت ييجي عليه وقت ويعمل فيها حاجة، وفي وسط التفكير، لقيت الباب بيخبَّط، قلبي اتقَبض، قُلت مين اللي هيخبط عليا بعد نُص الليل، رُحت ناحية الباب وأنا بقدِّم رِجل وبأخَّر رِجل، ولما فَتحت، لقيت “بركات” في وشِّي، بلعت ريقي واستغربت هو بيخبَّط عليا ليه، لكن وقفت من غير ما أنطق، انتظرته هو اللي يتكلم، وقف يبُص لي بصَّة غريبة، وبعدها قال لي:
-أنت صاحب أبويا الله يرحمه يا عم “عبد ربه”.
ارتبكت وأنا برُد عليه وبقول له:
-طبعًا يا “بركات”، وأنت زي ابني تمام.
-أنا عاوزك تعلمني شُغل الأرض، مش عاوز “نبوية” تروح الغيط، أنا اللي هروح.
استغربت إنه بيقول اسمها من غير أمي، وقلت دي حاجة ماليش فيها، لكن لقيتني بقول له:
-وهو الموضوع ده؛ يخليك تيجي بعد نُص الليل يا “بركات”؟ ماكنتش عارف تنتظر النهار يطلع؟! وعمومًا ياسيدي حاضر، عنيا ليك.
ومن غير ما يرُد عليا، سابني ومشي، وبصراحة أنا ما صدقت إنه اختفى من قدامي، قفلت الباب والفار بيلعب في عبِّي، الواد ده أكيد عارف إني براقبه، أو يمكن اللي مخاويها قالت له، وجاي في الوقت ده عشان يوصَّل لي رسالة إنه عارف، أو إني مامشيش وراه تاني.
لما النهار طلع، رُحت عند دار “عتمان”، كانت “نبوية” قاعدة قدام الدار، ولما شافتني قامت ورحَّبت بيا، وساعتها قلت لها:
-هو “بركات” فين؟
بصت لي وقالت:
-لسه نايم.
-وهو اللي عاوز يتعلم شغل الأرض ينام لحد دلوقت؟
-شُغل أرض إيه اللي بتتكلم عنه؟ أنا مش فاهمة حاجة.
-أصل “بركات” جالي ليلة امبارح بعد نُص الليل، وطلب مني أعلِّمه شغل الفلاحة، عشان ترتاحي أنتِ وهو يشتغل.
بمجرد ما قُلت لها كده، لقيتها بتبرَّق لي وبتقول:
-بتقول جالك ليلة امبارح بعد نُص الليل؟
-أيون زي ما بقول لك كده.
-ازاي؟ دا الواد قاعد قدام عيني لحد بعد الفجر ماخرجش!
ماعرفش مين فينا كان خايف أكتر من التاني، لكن ماعرفتش أرُد، يعني أصدَّق عيني وودني، ولا أكدِّبهم وأصدَّق كلامها، وقفت ساكت وهي بتبُص لي وبعدها قالت لي:
-اسمع يا “عبد ربه”، أنا كنت رافضة الواد ده، لكن “عتمان” الله يرحمه، قال يربِّيه عشان مخلِّفناش، لكن واضح إن الواد ده فيه حاجة، كفر الخوص كلها عارفة إنه ملبوس، أنا بشوف بنفسي حاجات تشيِّب الراس، أبقى سيباه في أوضة وأخرج، ولما أدخل أوضة تانية أتفاجأ ألاقيه فيها، كان وهو صغيَّر تصرفاته غريبة، ولما كِبر تصرفاته بقت أغرَب، و “عتمان” مات وسابه ومش عارفة أعمل معاه إيه، مانكرش إني اتعوِّدت إنه موجود، مهما كان أنا اللي ربِّيته، بس أنا ربِّيته من هنا وهو ربَّالي الرعب من هِنا، ومش عارفة جالك ليلة امبارح ازاي وهو قاعد قدام عيني؛ لحد ما دخل أوضته ونام، يعني يوم ما أتبنَّى عيِّل يطلع ملبوس! الموضوع ده معادش يتسكت عليه، لازم نشوف الشيخ “درويش” عشان يعالجه.
وساعتها قلت لها:
-وتفتكري الشيخ “درويش” هايعرف يعالجه؟ ماهو عارف زيه زي أهل الكفر كلهم، لو يقدر كان هو اللي طلب يعالجه.
-أهي محاولة، هو في إيدنا إيه تاني نعمله؟ وإلا يروح لحال سبيله، أنا مُش عاوزة عيال.
ولسه بنتكلم، واتفاجئنا إن “بركات” واقف على باب الدار، ماحدش يقول لي كان واقف من إمتى ولا مكناش واخدين بالنا منُّه ازاي، أول ما شُفناه جسمنا اتلبِّش، دا حتى “نبوية” سابتنا ومشيت، ولما لقيته واقف يبُص لي، ابتسمت وقلت له:
-بُص يا “بركات”، أنت دلوقت بقيت راجل، وبقيت مكان أبوك “عتمان” الله يرحمه، وأنا اقتنعت بكلامك، وهاخدك معايا وأقولك الأرض بتحتاج إيه بالظبط، مواعيد التسميد ومواعيد الرَّي، يلا البِس جلابيتك وتعالَ معايا.
أخدت “بركات” ومشيت، طلعت معاه على أرضهم، ولما وصلنا، بدأنا نجهِّز حالنا عشان ننزل الأرض، دخلت الجُرن وخلعت جلابيتي، ولاحظت إنه لسه واقف برَّه، طلبت منه يشد حيله ويجهز نفسه، وساعتها لقيته دخل ورايا الجُرن، وأول ما دَخَل، لقيت عامود الخشب بتاع الجُرن اتهَز، واللمبة الجاز ولَّعت من نفسها.
بقيت واقف مرعوب، عيني كانت مبحلقة في لمبة الجاز، اللي لما “بركات” بَص ناحيتها النار بتاعتها انطَفت، أخدت خطوتين لورا، لكن لقيته بيقرَّب مني، لحد ما لقيت إن مفيش مفر أهرب منَّه، عشان كده وقفت وأنا بستعيذ في سرِّي وبقرأ قرآن، واتفاجئت به بيقول لي:
-ماتقولش حاجة في سرَّك.
حسيت إن جسمي بيشوِّكني من الخوف، ماكنتش مستغرب هو ازاي عرف إني بقرأ في سرِّي، دا حتى شفايفي ماتحرَّكتش، ولقيته بعدها بيقول لي:
-عارف، أنا اتولدت هنا، في المكان ده.
كان بيكلمني وبيشاور على الأرض جنب عمود الجُرن، ماكنتش مستغرب إن ازاي طفل لسه بيشوف الحياة لأول مرة ينتبه لمكان ولادته، لكن الكفر كله يعرف إن “عتمان” لقاه في الجُرن، لكن الغريبة إنه قال لي:
-يوم ما اتولدت، شُفت أبويا “عتمان” وهو بيولَّع اللمبة الجاز، ولقاني تحت رجليه، وشُفت ملامحه وهو مبسوط لما شافني، الله يرحمه بقى.
حكاية إنه يعرف مكان ولادته واللي حصل، دا شيء طبيعي، لكن العجيب واللي مش طبيعي أبدًا، هو ازاي شاف “عتمان” وهو طفل ابن ساعات بس، وليه بيقول على “عتمان” أبويا، وليه بيقول “نبوية” من غير أمي؟
كان كل اللي يهمني، هو إن اليوم ده يعدي على خير، عشان كده قلت له:
-بقول لك إيه، يلا بينا نطلع نشوف الأرض.
سيبته وخرجت، وبعدها طلع ورايا، كنت بشرح له كل حاجة، عشان مش عاوز آجي معاه مرة تانية هنا، دا حتى نويت إني لا أراقبه بالليل، ولا ليا دعوة به بعد النهار ده، ولما اليوم خلص، رجعنا ووصلته لحد باب الدار، هو مش محتاج حد يعني يوصله، دا ابن جنِّية، لكن عملت اللي عليا وسلِّمته لإيد “نبوية” وسيبتهم ومشيت، واليوم فات والليل دخل، الوقت اتأخر وبقينا بعد نص الليل، تحديدًا في الميعاد اللي بنتظره فيه عشان أراقبه، لكن كنت ناوي خلاص ماليش صالح به، دخلت نمت، ولما رُحت في النوم، لقيت إيد بتزقني في كتفي، ماكنتش عارف “بدرية” مراتي عايزة إيه مني، عملت نفسي نايم ومعبَّرتهاش، لكن لقيتها لسه بتهز كتفي، فتحت عيني عشان أشوفها عايزة إيه، لكن لقيتني ببُص في وش “بركات”، اللي كان واقف جنب السرير، وفي إيده اللمبة الجاز اللي كانت في الجُرن، حسيت جسمي تلِّج، شفايفي كانت بترتعش ومش قادر أنطق، حتى ماقدرتش أستعيذ بالله، وزي ما يكون الوقت اتجمِّد ومش بيتحرَّك، ماكنتش عارف هو جه منين ولا دخل الدار ازاي، لكن هستغرب ليه؟ كل اللي بفكر فيه هو هنا بيعمل إيه؟
بعد وقت طويل، لقيته سابني وخرج من الأوضة، ماعرفش جبت القلب الجامد ده منين، قُمت من السرير وخرجت وراه، الواد فص ملح وداب، كان لازم أعرف إيه قصة الواد ده بالظبط، مُش قصدي القصة اللي الكفر عارفها، لكن أقصد السبب اللي مخلِّيه يعمل كده، يظهر ويختفي، يدخل ويخرج بدون ما حاجة تمنعه، إحنا ياما في الكفر شُفنا ناس ملبوسة وممسوسة، لكن مش بالطريقة دي أبدًا.
لبست جلابيتي وخرجت من الدار، ماعرفش ليه رجلي أخدتني لحد المقابر، زي ما تكون حاجة جوايا هي اللي أمرتها تعمل كده، ولما وصلت المقابر، ماكنتش محتار أروح فين وآجي منين، رجلي أخدتني لحد القبر إيَّاه، ولما دخلت الشارع بتاعه، لقيت القبر منوَّر، النور كان نفس نور اللمبة الجاز برضه، لكن لقيت حاجة غريبة، ضفيرة شَعر طويلة، لونها أحمر، سايحة وناعمة وبتلمع، كانت خارجة من القبر، وواصلة لحد نُص شارع المقابر، كنت مستغرب الضفيرة دي جاية منين، ولا بتاعة مين، لكن مع الوقت، لقيت الضفيرة بتتسحب جوَّه القبر، لحد ما اختفت جوَّاه.
قرأت آية الكرسي في سرِّي، وبدأت أقرَّب من القبر، ولما وقفت قدام بابه، لقيت القبر فاضي، مافيهوش أثر لأي حاجة، وزي المرة اللي فاتت، قلت يا فكيك ورجعت على الدار، لكن أخدت بالي من حاجة، الواد كان عارف إني براقبه، ولما نويت إني أشيله من دماغي، قرَّر إنه يرجَّعني أراقبه من تاني، أو مش حكاية مراقبة بقى، دا كده فهمت إنه عاوز يخليني أعرف حاجة، أو أقتنع بحاجة!
لما وصلت عند الدار، لقتني بقول لنفسي، ليه ما أروحش للشيخ “درويش”؟ دا مفيش حاجة بتعصى عليه، أخدت بعضي وروحت له، أي نعم كنا بعد نُص الليل، لكن قلت يمكن لما أروح له في الوقت ده؛ يعرف إن الموضوع مهم، وفعلًا ماكدِّبش خبر، لما فتح لي الباب والنوم مالي عينه، لقيته بيقول لي:
-أنت جاي يا “عبد ربه” عشان “بركات”، مظبوط؟
قلبي ارتجف وقلت له:
-أنت كنت عارف إني جاي؟
-كنت متوقع، لأني عارف إنك بتمشي وراه، وبتشوف حاجات مش مفهومة، وأكيد هاييجي الوقت تحاول تعرف سبب اللي بتشوفه.
-أنت ليه معرَضتش تعالجه؟ الواد ممسوس.
-الواد لا ممسوس ولا ملبوس ولا مسحور.
-معناته إيه الكلام ده يا شيخ “درويش”، يعني الواد ده ساحر ولا أهل الكفر مجانين؟
-الحكاية غير كده خالص.
-هو أنت تعرف حاجة؟
-أكيد أعرف الحكاية كلها.
-أومال ليه ماقولتش اللي تعرفه؟
-لأن كلامي لا هيقدِّم ولا هيأخَّر، لأنه أمر ونافّذ، وهايحصل يعني هايحصل.
-هو إيه الموضوع بالظبط ياشيخ “درويش”، أنا اتوغوشت.
-أنا هحكي لك الحكاية، لكن تخليها سِر، خلِّي الكفر كلها تعرف إن “بركات” مسحور أو ملبوس، بلاش يعرفوا إنه كان عايش بينهم حد من تحت الأرض.
-أنت بتقول إيه يا شيخ “درويش”، يعني إيه من تَحت الأرض؟
-زي ما بقول لك كده، حد من تحت الأرض، وصاحبك “عتمان” الله يرحمه، يبقى أبوه برضه.
-الكلام مش داخل نافوخي، ما تفهمني إيه الحكاية.
-الحكاية إن في ليلة “عتمان” كان بيقرأ الفاتحة لأبوه في المقابر، لكن وهو راجع كان فايت على قبر مفتوح، وساعتها حس بخيال في القبر، ولما الخيال لفت انتباهه، وقف قدام القبر وقعد يبحلق فيه، وساعتها “عتمان” هو اللي اتلبَس، لبسته جنِّية وعشقِته، اسمها “ماهيا بنت الجان”، من قبيلة قوية، بتظهر على شكل واحدة جميلة، شعرها أحمر، ممكن يوصل لمد بصرك، أغوَت “عتمان” وعشقته، وفي عُرف قبيلتهم، إن الواحدة منهم لما تعشق إنسي، بتنطرد من القبيلة، يا إما تخليه يعشقها وينساها في نفس الوقت، عشان كده كانت لما بتقابل “عتمان” بتسحر دماغه، عشان بعد ما تسيبه ينسى إنه كان معاها، وينساها خالص، عشان كده هو كان متجوِّز من تحت الأرض من غير ما يكون عنده علم، ولما تابت عن “عتمان”، كان في بطنها ولد منه، اللي هو “بركات”، مكانتش تقدر تولده في العالم بتاعها، ومالقتش مكان غير الجُرن، المكان اللي كانت بتسحر “عتمان” فيه وبتقابله، لما خلِّفته سابته هناك، قبل ما “عتمان” يوصل الجرن بلحظات، ولما شاف “بركات” أخده على إنه هيتبناه، لكن هو أبوه فعلًا وبدون ما يعرف، عشان كده “بركات” نُصُّه إنس ونُصُّه جِن، والنُّص الجِن هو اللي غالب ومسيطر عليه، لأنه الأقوى، وده سبب اللي “بركات” فيه، ودي الحكاية اللي الناس مش عارفاها.
حسيت إن شعري بيطقطق وأنا بسمعه، لكن بلعت ريقي وقُلت له:
-وإيه آخر الحكاية المنيلة دي؟
-الحكاية انتهت خلاص، النهاردة “بركات” تم 13 سنة، وده الرقم الخاص بعالم الجِن والشياطين، واللي مسموح فيه يرجع عالم أمه، ويتقبل في القبيلة، عشان كِدَه “ماهيا” أخدته لعالمها، أصل عندهم الإبن بيتنسب لأمه، مش زينا، يعني اللي كان بيكلمها “بركات” دي تبقى أمه، وكانت بتقابله في القَبر مكان ما عشقت أبوه، أو الجُرن في مكان ما ولدته.
-طيب معلش يعني يا شيخ “درويش”، أنت عرفت كل ده منين؟
-مش عيب تسألني السؤال ده يا “عبد ربه”؟ الدنيا مليانة وفي حاجات أكتر من كده بكتير، بس العالم مش بيشوفها، عمومًا، الحكاية خلصت خلاص.
كنت بسمعه، وأنا متخيِّل ضفيرة الشَّعر الأحمر، اللي كانت ممدودة من القبر لنُص الشارع، وازاي اتسحبت واختفت جوَّه القبر، لكن بعد ما فكَّرت شوية، لقيتني بسأله سؤال تاني:
-معنى كده إن “بركات” مُش راجع؟
-“بركات” رجع للعالم بتاعه النهاردة، مكانش ينفع بأي طريقة يقدر يعيش وسطنا، العالم بتاعنا ده للبشر، ميقبلش نُص بشر، عالم تَحت الأرض واسع ومليان، ويساع أشكال وألوان.
-طيِّب “ونبوية”؟ أكيد قلبها هايتحرق عليه، مهما كان هي اللي ربَته.
-ماتقلقش، “نبوية” هتنسى “بركات”، زي ما كان “عتمان” بيقابل “ماهيا” وبعد ما تسيبه بتتحذف من ذاكرته، الكفر كله هينساه، ماعدا اللي عارف السر، يعني أنا وأنت، ومتنساش إني بقول لك إنه سِر، هو خلَّاك تمشي وراه وهو سايب عالمنا، عشان تعرف الحكاية، ماهو شرط إنه يدخل لعالم تحت الأرض، إنه يسيب سرُّه مع حد في عالمنا، عشان ماينساش في يوم من الأيام إنه له أصول في عالم تاني، وأنت كنت صاحب أبوه الروح بالروح، عشان كده اختارك تحفظ السر بتاعه، خلي السر في قلبك، أوعى يطلع لمخلوق، عشان اللي بينكشف سره من تحت الأرض، مش بيسيب اللي كشَفه في حاله.
بلعت ريقي من الخوف، وبعدها سيبت الشيخ “درويش” ومشيت، بقيت ألِف في الشوارع زي اللي تايه، لحد ما النهار طلع، رجلي أخدتني لحد دار “عتمان”، ولقيت “نبوية” قاعدة قدام الباب، وأول ما شافتني، رحَّبت بيا كالعادة، واتكلمت معايا، لكن لقيتها بتكلمني عن جوزها وصديقي “عتمان” الله يرحمه، لكنها مجابتش سيرة “بركات”، ولا كلمتني عنه كالعادة زي كل مرة كانت بتشوفني فيها، ولا كأنها كانت تعرفه في يوم من الأيام!
***
تمت..