قصص

قصة مفترق احمر

قصة مفترق احمر أنا المفروض مكنش هنا، كالعادة أنا تايهه وكل الناس في الشارع عارفه ده، مرسوم على وشي، الهلع باين عليا، عيني الزايغة وخطواتي المهرجلة، دايمًا بعمل كده، مخليش أي حد يكمل
جملته ويشرحلي العنوان بالظبط، أعمل فيها اللي فاهمة وعارفه كل حاجة ، “لأ تمام هوصل متقلقش”، “أيوه أيوه عارفاه”، “عيب عليك صحيح مروحتش قبل كده بس هوصل” وحتى لو روحت قبل كده برده بتوه، عندي ذكاء خارق في الأماكن والاتجاهات…
اللي فهمته من ال50 سؤال اللي سألتهم للناس في الشارع أني أنا في مكان اسمه الدرب الأحمر وأنا عايزه أروح الموسكي وأصحابي حرفيًا هيقت.لوني ومش عايزه أرد عليهم عشان مبانش مبفهمش، لازم أعرف الاتجاهات من الناس اللي حواليا، عادتي ولا هشتريها…
قصة مفترق احمر
بس مش هو ده اللي وقفني وشلني في مكاني، المفروض أمشي في سكة معينة بناء على كلام الناس بس مش عارفه أمشي، ده مش بيحصل لي كتير، مش بنجذب لأماكن غريبة عني لدرجة يبقى عندي الفضول الرهيب ده إني أدخلها، خصوصًا إن في ناس مستنياني، أتحرك لمصالحي ولا أدخل، هتحرك، هتحرك، بس لقيت رجلي بتوديني للمكان!….
مكتبة عتيقة، الدهان مقشر والحيطان مخوخة والكتب أغلفتها متربة وورقها أصفر دبلان، نفسي أقراهم كلهم! مشيت ببطء جنب الأرفف، ببص على كتاب كتاب، بمد إيدي وألمسهم ، لحد ما شديت كتاب معين ووراه ظهرلي حد….
قلبي كان هيقف من الخضة، طلعت مني صرخة غصب عني….
-مش الناس تقول سلامو عليكوا وهي داخلة أي مكان؟
-آسفة ، بجد أنا اتشغلت ف…ده
رديت وأنا ببص حواليا، عيني زايغة في كل المحيط، مش عارفه أوصف بالظبط حاسة بإيه أو اتشغلت بإيه
-مقدرش ألومك، أنا الأمين..
-أنا…
-قارئة، مش لازم تقوليلي إسمك، مش داخلة السفارة يعني، أو فضولية، مفيش مانع برده.
-المكان هنا…
-عارف، عارف، بتدوري على إيه؟
-على إيه؟
-عايزه إيه من المكان هنا؟ يعني مثلًا إيه الكتب اللي بتتشدي ليها؟
-بقالي كتير مقرتش، بس أنا بحب التاريخ.
-تقريه ولا تسمعيه؟
-الاتنين.
-وليه
-نعم؟
-أي شغف بيبقى ليه سبب مرتبط بالشخص نفسه، يعني عادة اللي بيحب الأرقام، بيبقى شخص منظم، بيفضل كل حاجة تبقى ماشية بسيستم، اللي بيحب الفن السريالي، مش بيحب الروتين والكتالوجات، واللي بيحب التاريخ…
-الغموض، الفجوات اللي فيه، الاحتمالات، عشان اللي بيوصلنا بيبقى عبارة عن وجهات نظر معينة، وعلى فرض بأمانة اللي بيوصل الحدث التاريخي، هو مش بيقول الحقيقة العارية، هو بيوصف بناء على الذاكرة بتاعته ومنظوره وتحليله للأمور، أقول لحضرتك على حاجة، جرب تحكي لحد على موقف، وسجل لنفسك وأنت بتحكيه وبعدين بعد فترة، وإن كانت كام يوم بس، جرب تحكي نفس الموقف وسجل لنفسك، هتلاقي نسختين مختلفتين من الحكاية، أظن الإنسان بيتحاسب على صدقه، اللي هو إيمانه الشخصي وقناعته ، ميتحاسبش على الحقيقة زي ما هي…..
قدرت أميز إعجابه بيا، عينيه لمعت، وإبتسم غصب عنه، مقدرش يخبي الإعجاب…
قصة مفترق احمر
-إنتي بتطلبي تاريخ، وأنا هجيبلك طلبك، بس مش كتاب، حدوته أنا هحكيها، عندك إستعداد؟
ضربات قلبي بقت سريعة، أنا كده هضيع المعاد، بس مش ده بس اللي مخوفني، حاجة تانية مش عارفاها، مع إن الراجل يبان بسيط، والعرض بسيط والمكتبة بسيطة، بس الأمور مش زي ما بتبان…
-مستعدة.
-متأكده؟ عشان مفيش رجوع…
عيني وسعت، بلعت ريقي بصعوبة ورديت بهزة من راسي…
شاورلي على طربيزة حواليها كراسي، مشيت وهو مشي ورايا وقعدنا على كرسيين قدام بعض.
-تعرفي ليه المنطقة هنا اتسمت الدرب الأحمر؟
-ليه؟
ابتسم ابتسامة عريضة كشفت عن أسنانه، قرب براسه أكتر ، نور الشمس اتسلط على ملامحه لما قرب .
-عشان الأحمر صبغ أرضها.
مفيش تراجع، كان عندي يقين بده، مقدرش أقول مش عايزه أعرف، مانيش لاعبه ، بس كنت متأكده أن القصة مش رومانسية أبدًا، عيني بترف وأطرافي بتترعش…
-يوم تخليص الحسابات، نصب المحاكم وإصدار الأحكام والإعدام الفوري العلني، رؤوس إمبارح تحت مقصلة اليوم…. اليوم ده كان في واحد فضولي زيك، اتحرك مع الحشد لحد هناك، قدام العمارة المهيبة، والأسوار اللي بتفصل ما بين علية القوم والناس الملهيين في الجري جوه عجلة النجاة من ظروف الحياة العادية، أكل العيش وسد جوع نفسهم وغيرهم، الناس اللي زيي وزيك، “آصف” ، الولد اللي في أول شبابه، في البرزخ ما بين الطفولة والبراءة والرجولة ، ما بين الرغبة في اللعب والجموح والطيش والمسؤولية اللي لو ماشلهاش على كتفه لحد ما ينحني هتقع، ومحدش هيشيلها وهيقع معاها هو وأسرته، كان لسه مكمل ال16 ، لكن مش هو ده الإنجاز ولا الحدث اللي تحمس ليه، حدث تاني تمامًا طغى عليه، خروج الجيش من القلعة في طريقهم للحجاز لمواجهة الوها .بيين، حدث بيحصل مرة واحدة بس في العمر، مش عشان المعركة في حد ذاتها، عادي ما الح.روب مبتخلصش، الإنسان بيعمل إيه غير أنه ياكل ويشرب ويحارب ويقتل ويروي الأرض بدم الإنسان اللي زيه، المقصود أن دي كانت المرة الأولى اللي جموع الشعب قدر يحضر بداية المسيرة، يراقب الموكب المهيب ويبقى جزء منه، ده اللي كان فاكره “آصف” مع الناس الكتير اللي كانت واقفة على الأبواب، مستعدين للاحتفال…. بس مكانش لوحده ، في حد تاني كان جنبه، أخوه الصغير، اللي من فرحته وتحمسه شد على جلبية “آصف” عشان يشيله وفعلًا رفعه على كتفه…
انتظار، انتظار وطال الانتظار ، واضح أن الناس اللي ورا السور إتلهوا في حفلتهم واستحلوا الضيافة والاستقبال، صدى الضحك والكلام رن في الأركان، وأخيرًا علي صوت الحدوات على الأصوات التانية، وإزدحمت الأصوات، الموكب بيقرب، بيقرب، خلص وقت احتفال المماليك وجه وقت احتفال الشعب ، دلوقتي، المفروض البوابة تتفتح دلوقتي…في أي لحظة… الخيول وقفت، البوابة ماتفتحتش، الضحكات خفت، والكلام اتعدم، طلقة انطلقت ولعبة الهروب ابتدت، هرج ومرج، وصريخ وطلقات، خبط عالأبواب، صليل سيوف واستنجاد وآهات…
شوية ناس هربوا، مستنوش البوابة تفتح ، وشوية استنوا، في مكانهم إتشلوا، يمكن رعب، يمكن فضول أو الاتنين مع بعض، مش مصدقين اللي بيحصل، مش كفاية، عايزين يشوفوه، مدبحة قوة طاغية محدش توقع ليهم نهاية وجت النهاية بالعرض، حرفيًا، نهاية حياتهم، طلوع روحهم مش نهاية حياتهم السياسية وقبضتهم، من ضمن اللي استنوا كان صاحبنا وعلى كتفه أخوه، تماثيل شمع مبتتحركش، لا عينيهم بتطرف ولا أصواتهم قادرة تخرج، مقدروش يشوفوا بس سمعوا صهيل الحصان الوحيد اللي طار كأنه براق من رعبه ورعب اللي كان سايقه، المملوك الوحيد اللي قدر يهرب ونط من فوق الأسوار…. وبعد ما الصرخات وصلت لعلو السما، بدأت تهبط، وتهبط لحد ما سكتت، سكوت مرعب أكتر من صرخات المدب.حة ونحيب الرجال….
وأخيرًا البوابة اتفتحت…
“أول ما خلص جملته سمعت صوت بوابة ضخمة بتتفتح، شهقت، بصيت حواليا في ذعر، وايدي اتحركت بعصبية، سألته بصوت مهزوز:
-ايه ده؟
-مالك؟
-إيه الصوت ده؟؟
-صوت ايه؟
-أنت اكيد سمعت، صوت بوابة كبيرة بتتفتح.
-صوت الباب، باب المكتبة، أكيد حد دخل.
هزيت راسي بسرعة بنفي كلامه
-لأ، ده مش صوت باب، وفين اللي دخل؟ محدش دخل، محدش هنا غيري أنا وأنت!
-وبعدين معاكي؟ لازم أكمل الحكاية..
غمضت عيني مستسلمة عشان يكمل…
-وخرج العساكر، انطلقت الخيول، كأن مفيش حاجة حصلت، الدم كان مرشوش على السروج وهدوم وجزم العساكر، أما الجنود الألبان فكأنهم كانوا عايمين في بحر من الدم، أبيض وشوشهم إختفى ، وجسمهم منقوع في الأحمر…
-الألبان؟
-ما هما اللي اتولوا المهمة تحت إشراف إبن الوالي، هما اللي قاموا بالمدب.حة وأطلقوا النيران..
-خلصت الحكاية؟
-أبدًا، دي لسه بتبتدي…
قصة مفترق احمر
-مش هي دي مدبحة القلعة؟
-تعرفي بيحصل إيه بعد عدد من جرايم القتل، مدبحة مثلا؟
هزيت كتافي علامة على إني معنديش إجابة.
عينيه جحظت وابتسامته ضاقت..
-بيحصل هيستيريا، هيستيريا الدم!… “آصف” مكنش عنده علم بالمصطلح ومعندوش خبرة في الموضوع ده، بس كان عنده حدس، إحساس فطري أنه لازم يجري وحالًا، نزل “دياب” من على كتفه، ومسك ايده وجري بيه…
سرعته سبقت سرعة الخيول، سرعة رعبه من المجهول..
“ايه اللي بيصير؟” سأل “دياب”، رد عليه “آصف” “مش خير”…
“آصف” مبصش وراه ، موقفش واتلفت حتى …لما بدأ يسمع صوت صراخ، المرة دي مش صراخ الأمرا، الأمرا خلصوا خلاص، دول ناس تانية، الناس اللي في الشارع…
“سألت وأنا مش متأكده إذا كنت عايزه أعرف الإجابة: -بيصرخوا ليه؟”
-مانا قلتلك، هستيريا الدم، الدم بيجيب رغبة في الدم، رغبة مابتشبعش، خصوصًا لو اللي ارتكب الجرايم الأولى معندوش رسالة ولا مبدأ ولا ولاء، قتل عشان اتقال له اقتل ودي غايته وشغفه، بيعيش ويتغذى على العنف… الجنود الألبان، المرتزقة، مشبعوش وعايزين تاني……
“ميلاء” كانت واقفة في الدكان، يوم جميل ، شمس ساطعة مش طاغية عليها غيوم، الشتا بيودع وبيضعف وبيحرر بريق النهار ودفا الوجود، كانت مستبشرة، النهارده هتبيع جلاليب وسراويل كتير، كل الإشارات بتقول كده، بس الضلمة حلت فجأة، مظهرتش غيوم، السما ضلمت وحدها، وفي نهاية الشارع ظهرت ضلال ميزتها، وجود ولادها ، كانوا هما، أكيد هما، ووراهم أمر غريب، مش المفروض يرجعوا دلوقتي، كانوا هيقعدوا طول اليوم، رؤوسهم هتتلوح مع حركة الجنود ومسيرتهم على ضهر الخيول ، وحتى بعد ما الجنود هيمشوا، هيفضلوا ، يمكن يمشوا لحد ميدان الرميلة ويقفوا هناك لحد ما الشمس تغيب وبعدها كمان، وجودهم دلوقتي ميطمنش وغيابهم راحة، مع كل خطوة ليهم تجاهها، كل ما يقربوا، الدنيا تضلم أكتر…
“في اللحظة دي لمحت واحدة واقفة في ركن من أركان المكتبة، ملامحها مش مصرية خالصة ومش أجنبية، خليط كده، عينيها مكحلة، ملامحها جامدة، عينيها إزاز، ولبسها، لبسها غريب جدًا، جلابية أو عباية فضفاضة، حزام قماش على وسطها وخف في رجليها ، محدش في وقتنا بيلبس اللبس ده! الست كانت بتبصلي بس زي ما تكون مش شايفاني، متقصدنيش أنا، ظهرت إمتى ومنين؟؟”
قلت لأمين المكتبة وأنا برفع دراعي وبشاور ناحيتها:
-مين….دي؟
في اللحظة اللي بيلف راسه فيها يشوف بشاور على إيه، أشعة الشمس اخترقتها، حرفيًا عدت من خلالها، كأنها هولوجرام وبدأت تتلاشى لحد ما اختفت في نفس الوقت اللي أمين المكتبة بص في اتجاهها!
-قصدك إيه؟
قلت بإصرار:
-كان في واحدة واقفة في الركن ده دلوقتي، شكلها ولبسها غريب كأنها…كأنها من زمن تاني.
-مفيش حد، مش شايف حد.
-عشان هي اختفت!
اتحركت في مكاني، عايزه أقوم، بس ملحقتش…مد إيده وقبض على كوعي بقوة وقال:
-لازم تسمعي بقية الحكاية.
“في قلب بير، ده كان إحساسي بالظبط، محبوسة جواه، الحيطان حواليا لزجة، لو حاولت أمد إيدي هتتزحلق ، مفيش هروب، مفيش مخرج، بس إحساس تاني بدأ ينمو جوايا ، إحساس بالمسؤولية، لازم أسمع الحكاية، الحكاية لازم تكمل، المفروض أعرف اللي حصل….”
-في سرعة البرق كانوا قدامها “الأمرا اتقتلوا، كلهم اتقتلوا، أمرا المماليك اتصفوا، كانت مصيدة، القلعة سلخانة، مش محفل”….أصواتهم كانت بعيييدة، كأنهم بيتكلموا من قاع محيط، ودان “ميلاء” كانت مسدودة وإدراكها محدود…
-يا أمي، سامعاني، بقولك إتدبحوا!
“وو…وإحنا مالنا؟ تصفية حسابات ما بين رؤوس الحكم، إحنا مالنا؟”… “المدبحة منتهتش، الإعدامات لسه مخلصتش”… …”إزاي، أنت مش بتقول أعدموا كل الأمرا؟؟!”… “المرتزقة طلعوا بره ساحة القلعة وطايحين في الخلق”…”ليه؟؟”…”معرفش! معرفش! مش قصتنا نفك ألغاز ، الناس بتموت، وإحنا هييجي علينا الدور”…
هزت راسها بتنفي، مش مصدقة ولا مستوعبة اللي بيقوله…”على أساس إيه، ليه؟”…”يمكن القرايب ، المعارف، اللي ليهم صلة بالمماليك، لو على أساس عشوائي فإحنا ميتين ولو عشان القرب من المماليك فإحنا بالتأكيد ميتين! إحنا قرايب الأمير “جقمق”…
قصة مفترق احمر
مدت إيديها وطبقت بكفها على شفايفه عشان تخرسه، السر ده مينفعش يخرج ، لو هو سبب المدابح، والفوضى اللي بتحصل…
“إحنا مصريين، ملناش دعوة بمماليك، مطحونيين وملهيين في أكل عيشنا، ده اللي هنتمسك بيه لو اتمسكنا، فاهم؟”….”أنتي اللي مش فاهمة، مفيش استجوابات، بس اعدامات!، ملناش غير الهروب، لازم نختفي، وحالًا”…”والمحل وفلوسنا وعيشتنا؟”… “مفيش عيشة لو مفيش روح! مش هنكون موجودين أساسًا”…
خطوات أقدام، خيول ماشية بتتمختر، بهدوء وثقة ومشاة جنبهم، كأنهم عارفين أنهم هينولوا هدفهم، مفيش داعي للهوجة، تحت السلاح كله هييجي، مفيش مفر من القضا …
“الأصوات في الشارع، صوت العربيات اختفى، حتى همهمات الناس اختلفت، الشارع مبقاش هو الشارع، اتنفضت من مكاني برغم محاولة أمين المكتبة أنه يمنعني، قربت من الشباك القديم اللي عليه خدوش وتراب وبصيت من خلاله…
أحصنة، ناس فوقيهم، لبسهم مش عادي، بدل غريبة، معاهم أسلحة، بنادق وسيوف، وشوشهم، مش مصريين، بقع دم عليهم، وجنبهم مشاة بنفس الأزياء، وناس بتتفرق يمين وشمال ، بيوسعلهم السكة ، ناس مرعوبين، ساكتين ، مستنيين اللي هيجرا، وأزيائهم برده غريبة. واحد من الفرسان فجأة بص لفوق، ناحيتي! كأنه انتبه لوجودي، وقف بحصانه وفضل باصص ليا، وقف بحصانه ونزل من عليه واتحرك ناحية المكتبة!
المفروض، أهرب، استخبى ف أي ركن، بس بدل كده لقيت نفسي بمشي ناحية الباب، صحيح الرعب بيخلي الدماغ تفكر بطريقة عجيبة، بيعمل يخلل في التفكير…
قصة مفترق احمر
أمين المكتبة قاعد مكانه ولا كأن، منتهى الهدوء، بيراقبني في صمت…
وصلت قدام الباب مباشرة، ولا حاجة، ولا حركة ولا صوت، راح فين الجندي الألباني؟ لحد… الباب فضل يخبط بعنف، مشيت خطوات لورا وعيني مش بتحيد عن الباب، الدموع مليتها من الرعب، أمين المكتبة قال لي بصوت رخيم هادي:
-حاولت أمنعك!
وأخيرًا الباب اتكسر….
اتكعبلت، وقعت على ضهري واتشليت وانا براقب الراجل جي ناحيتي بخطواته العنيفة، حاولت أتحرك، أرجع لورا، كأني بجدف بمجداف مكسور وطبعًا وصل لي…
بضهر البندقية الضخمة ضربني على راسي، دماغي، حاسه أن جمجمتي اتكسرت، وجع رهيب، مسكني من شعري وجرني لمسافة كبيرة، مقدرتش أصرخ أو أخرج أي صوت، الألم منعني من ده…
لحد ما وصلت لعمود خشب، جسمي مسنود عليه، رفعت راسي ببص ليه، ال.دم غرق عيني، الرؤية مبقتش واضحة، بس أدركت بوعيي المحدود الللي بيحصل، وجه بندقيته ناحيتي وضرب رصاص!….
يتبع
قصة مفترق احمر

“الجزء الثاني والأخير”

شهقت أول ما فتحت عيني، بصيت لأمين المكتبة اللي لسه قاعد على الكرسي وقلتله:
-إنتي إزاي متحركتش، إزاي ما تحاولش تنقذني؟
-عشان أنتي مفيكيش حاجة!
-أنا اتضرب عليا رصاص!
-بجد؟ طب إزاي لسه عايشة وفين الرصاص ده، فين أثره في جسمك؟؟
بصيت على جسمي، مفيش أثر للطلقات والجندي الألباني مش موجود، والباب زي ما هو متكسرش، الحاجة الوحيدة اللي لسه موجودة هي الصداع الرهيب.
-متهيألي أنتي دلوقتي أدركتي إننا لازم نكمل الحكاية.
-عشان أنت فتحت بوابة لعوالم تانية لما بدأت تحكي، والبوابة مش هتتقفل غير لما الحكاية تخلص، مش كده؟
-حاجة زي كده!
-وفي حاجة تانية أنت مخبيها..
-يا خبر بفلوس…

عملت مجهود عشان أقدر أقوم من غير ما أفقد الاتزان ، مشيت في خطوط معووجة ، لحد ما وصلت للكرسي بتاعي وقعدت.
-الجنود شافوا “ميلاء” و”آصف” و”دياب”؟
-لأ، كانوا على بعد خطوات منهم، المفروض كانوا يشوفوهم بس هما كانوا مشغولين بدبح الناس اللي حواليهم…وده إدى وقت ليهم عشان يهربوا، لحظات كانوا لازم يستغلوها قبل ما ييجي عليهم الدور، أول ما خرجوا من المحل، وقبل ما ينطلقوا حاجة وقفت “آصف”، واحد شد جلابيته، راجل ممدد عالأرض، جنبه وبطنه بينزفوا، ثقوب كتير من الرصاص، جسمه بيتصفى، كان بيستنجد بيه، “آصف” وقف، اتشل في مكانه كأنه بيتفرج على لوحة فنية، مش مشهد حقيقي، وده كان أقصى حاجة قدر يعملها، يبقى متفرج صامت، لحد ما “ميلاء” شدته من غير كلام، نبهته عشان يفوق، لازم يسيبه، الراجل ده زي اللي بيغرق و هيغرق اللي يحاول ينشله من الغرق ، “آصف” مد إيده وزق الراجل… وبعدها جريوا بأقصى سرعة لحد أول مفترق، دخلوا شارع جانبي…سابوا كل حاجة، كل تاريخهم، مصدر رزقهم، ذكرياتهم وهويتهم، سابوا كل ده عشان ينجوا بحياتهم، دلوقتي أو بعد شوية، المحل هيتنهب، أو هيتكسر أو الاتنين، كده كده المحل انتهى، المرحلة دي انتهت، من هنا وجاي هيبدأ التيه….

قصة مفترق احمر

هدفهم كان البعد، على قد ما يقدروا لازم يبعدوا عن الأحياء القريبة من القلعة، يدوبوا في الناس اللي بره، يخرجوا من نطاق الهستيريا، وزي أمواج التسونامي، ممكن تلمحها من بعيد، ممكن تتحرك بسرعة وتسبقها، بس مش هتقدر بكل حال من الأحوال تهرب منها، عشان سرعتها أكبر بكتير منك ومن إمكانياتك ، ومش مجرد هتلحقك، دي هتحاوطك من كل جهة وهتبلعك!
صوت الصرخات ما بقاش بعيد، عمال يزحف ويزحف، المدابح وسعت وقربت منهم، كان لازم يلاقوا مخبأ، الجري والهروب مبقوش كفاية…دخلوا جوه بيت غريب، أهله مش موجودين، صالة وأوض وباب صغير لمخزن، هو ده المكان المقصود، أول ما فتحوا الباب لقوا راجل جوه، صاحب البيت، فكر زيهم، اختار المكان ده عشان يستخبى فيه…التلاتة دخلوا من غير استئذان، المخزن داق عليهم وبالعافية قدروا يقفلوا الباب

“خطوات، فجأة سمعت خطوات جوه المكتبة، ما بين الممرات، مش شخص واحد، دول كذه حد، واحد فيهم بدأ يصفر، نغمة عصفور كناري، المفروض تكون مريحة، بس دبت فيا الخوف، عشان في الحقيقة كانت نغمة الجلاد، شايلة معاها ريحة الموت…
لقيت نفسي بقول:
-وصلوا، الجنود هنا!
أمين المكتبة إبتسم ، هز راسه بيأكد على كلامي ورد:
-وصلوا……
سكت شوية وكمل:
-“آصف” رفع راسه، انتبه لقرب الجنود، مش عشان سمعهم، خطواتهم لسه مكانتش مسموعة، بس حد نبهه، الحكاية المرة دي اختلفت في تفصيلة صغير عن المرة اللي فاتت، المرة دي حد نبهه لقرب الجنود…
-المرة دي؟ قصدك ايه؟
-لوحدك هتفهمي، أنتي بدأتي فعلًا تفهمي، الحقيقة بتنساب واحدة واحدة لحد ما الصورة تكمل، قطع بتتجمع، وأنتي قادرة تجمعيها…..”آصف” سرح، بص في ناحية معينة وقال: “في جنود جايين”، صاحب البيت رد “مش سامع حاجة”…وأمه أكدت “ولا أنا”….
بعديها بثواني سمعوا صوت خطوات، وراها خطوات، زحمة أصوات، الجنود وصلوا قدام البيت … أعلى صوت في البيت كان صوت أنفاسهم السريعة، لحد ما صرخة كسرت حلقة السكوت…صاحب البيت قجأة زعق بعلو صوته : “هنا…هنا، في مماليك هنا، خونة مستخبيين ف بيتي، هنا”… وقف ورا “ميلاء” ولف دراعه حوالين رقبتها….

“حسيت نفسي بيتكتم، رقبتي، وجع رهيب، زي ما يكون…دراع حد ملفوف حواليها! قمت مذعورة، حركتي وقعت الكرسي…أمين المكتبة قال:
-اتنفسي…اتنفسي، اهربي من قبضته..

قصة مفترق احمر
“غمضت عيني، تخيلت نفسي بشيل إيده من عليا ، مبقاش في تقل، وقدرت أتنفس من تاني…بهدوء رجعت، عدلت الكرسي وقعدت عليه…سألته: -إيه اللي حصل بعد كده؟”
– كمل زعيق “هنا…هنا!”…”آصف” همس في ذعر : “أنت بتعمل ايه؟!”…….. الراجل رد: “لو بلغتهم بوجودكم، أكيد هيعتبروني صديق، ولائي ليهم، هسيبوني ف حالي”…. “ميلاء” قالت بصوت مخنوق “غبي!”
خبطة جامدة على راسه، ميعرفش جت منين، الراجل بص وراه لقى “آصف” ماسك شمعدان عليه دمه بعد ما ضربه بيه! الدنيا لفت حواليه، فلت “ميلاء” ووقع عالأرض…

“جايين على هنا، هنعمل إيه؟ سألهم “دياب” بصوت مهزوز…
“ميلاء” لمحت باب خلفي للمخزن، شاورتلهم عليه، فتحوه بسرعة وخرجوا…
صاحب البيت زحف لحد باب المخزن، قام بصعوبة وفتحه، الجنود كانوا دخلوا البيت، مشي وهو بيترنح لحد ما قابلهم في ساحة الضيافة….
“أنا صاحب البيت، في مماليك كانوا مستخبيين عندي، جوه…جوه في المخزن، أنا بدين بالولاء ليكم، أنا منكم”……….”وإحنا مقدرين”
ده كان مباشرة قبل ما الجندي ينحر رقبته بالخنجر اللي معاه…الجنود دخلوا جوه المخزن بس مكانش ليهم أثر، ما فاتش كتير عبال ما أدركوا اللي حصل وشافوا الباب الخلفي للمخزن….

الشمس بدأت تغيب، يوم طويل، طوبل أوي، زي ما يكون دهر بحاله، وبرغم أنه كان سريع ومرعب من وقت ما بدأ، إلا أن غياب الشمس زود جرعة الرعب في قلوبهم ، أصل أي مفترس بيحب الضلمة، بتبقى حليف ليه، على عكس الفريسة اللي بتضعف بشباك الضلمة وفخاخها….
التلاتة بدأوا يتعبوا، هيفضلوا هيهربوا لحد إمتي، وفين تخلص منطقة المعركة؟مفيش بيت هيستقبلهم ولا زقاق هيداريهم ، كله مكشوف، ريحة الدم والعفن فاحت، وده كان عنصر كافي يحبطهم أكتر…لحد ما “دياب” وقف وشاور على اتجاه….
قصة مفترق احمر
“حمام عام”…هو ده الملجأ الوحيد، اللي ممكن يكون آمن…… مبدئيًا مفيش حد من السكان أكيد هيبقى رايق ويدخل يستحمى في الأجواء دي، الناس براه بتستحمى بدمها ، والجنود من المستبعد يفكروا يدخلوه ويفتشوا، في كوم لحم في الأزقة والطرق يكفوا الألبان عشان يمارسوا هواية الصيد ويحققوا أرقام قياسية…

اتجهوا فعلًا للحمام، وقتها الضلمة زحفت، وقبل ما يدخلوا بخطوات “ميلاء” وقفت تبص في السما…
“قاطعته، كنت باصة من شباك المكتبة لما لقيت حاجة لفتت إنتباهي، قلت:
-شافت قمر دموي!
الليل جه وأنا لسه قاعدة في المكتبة ومش فارق معايا، كل اللي فارق معايا هي الحكاية، لازم أعرف آخرها، لازم أعرف حصل لهم إيه، لون الدم صبغ القمر وكنت عارفه أنه نفس القمر اللي كان موجود في سما الليلة دي، القمر اللي “ميلاء” شافته…
أمين المكتبة كمل كلامه:
-“آصف” شدها، كان فاهم بالظبط اللي بيدور في بالها، القمر ده مبيظهرش إلا نادرًا وجت الليلة دي عشان يظهر فيها! كانوا عاملين زي الفار في مصيدة، فاكر نفسه بيهرب، وهو محبوس جوه مسارات هتخلص وبرده هيلاقي نفسه لسه محبوس…

دخلوا وقفلوا على نفسهم، عتمة، مفيش أي مصدر للضوء، مفيش غير النور الضعيف الأحمر بتاع القمر اللي اتسلل من فتحات الإزاز الملون في السقف….
وقت كبير عدى ومفيش ولا كلمة، كل واحد فيهم باصص في الفراغ قدامه، مشاهد اليوم من أوله بتدور قدامه، مفيش حاجة شدت إنتباههم وقطعت الشرود، غير الباب اللي اتفتح وحركة الجندي اللي فتحه!
التلاتة اتحركوا بسرعة، وقفوا في ركن من أركان أوضة المغطس، نسمة باردة فجأة حلت، لزقوا في بعض عشان يتدفوا ويطمنوا بوجود بعض… الجندي قرر يدخل أوضة المغطس… دخل وهو مركز على المغطس وقلع هدومه…. حطهم مع البندقية على حرفه، ونزل جوه الميه….

أي حركة غلط معناها موتهم، أي نفس عالي….
الجندي نزل بجسمه كله في المغطس، الميه غطته، اللون الشفاف اتلون بالأحمر، الدم المتكتل عليه داب جوه الميه….
ولما طلع وقرر أخيرًا يفتح عينيه لمحهم…
في سرعة رهيبة “ميلاء” جريت ناحيته، عايزه تلحقه قبل ما يخرج من المغطس ويشد البندقية، وفي سرعة رهيبة كان قام من مكانه وشد البندقية، طلقة خرجت منها في الوقت اللي “ميلاء” كانت بتمد ايديها الاتنين عشان تغرقه، بأقصى قوة مسكت راسه ونزلتها في الميه، فضل يعافر من تحت…بصت لولادها وصرخت : “يالا”…
قصة مفترق احمر
الاتنين نزلوا ، مدوا أيديهم معاها…. فضل يعافر ويعافر، راجل عفي، هد حيلهم هما التلاتة، لحد ما حركته بدأت تقل ،بطل يقاوم، صوته هدي وجسمه وقف تمامًا عن الحركة… ومع ذلك دراعاتهم فضلت مفرودة، مش راضيين يسيبوه، مش مصدقين أنه فعلًا مات… “آصف” أول واحد ايديه ارتخت وفلت الجثة، بعديه “دياب” و”ميلاء”…
التلاتة ابتسموا لبعض، بس ابتسامة “دياب” ضاقت بعد ما شاف حاجة في الميه، شاور وقال : “إيه ده؟!….”
بركة من الدم وسط الميه، مش بقع الدم الصغيرة اللي كانت على جسم الجندي، لأ ده دم جديد، شلال اتفجر جوه الميه، “ميلاء” بصت تحت ، لمصدر الدم، بطنها! …الطلقة اللي انطلقت من بندقية الجندي قبل ما يغرقوه، “ميلاء” انشغلت بهدفها، أنها تخرج روحه قبل ما يأذيهم، لدرجة إنها ماخدتش بالها الطلقة راحت فين، كانت بتموت وهي مش مدركة، حلاوة روح، حلاوة رغبة في النجاة…
“إمشوا…إمشوا، أكيد سمعوا الطلقة”

الاتنين جادلوها وهما بيبكوا، مكانوش راضيين يسيبوها لحد ما صرخت فيهم: “إهربووووا”
جريوا، مبصوش وراهم، لكن سمعوا جسمها وهو بيقع ويخبط في الميه…
انهي اتجاه؟ يختاروا أنهي اتجاه، أنهي مفترق وأنهي مسار، النجاة فين؟
عدوا جنب زقاق، تخطوه ومشيوا…
“شميت ريحة بشعة… سألت أمين المكتبة: ايه الريحة دي؟…. قمت من الكرسي، مشيت ناحية المصدر، كل أما أقرب الريحة تفوح أكتر، تتركز، بدأت أكح، رفعت إيدي وغطيت مناخيري وبوقي، وصلت لممر من ممرات المكتبة، لقيت جثث كتير متكتلة جنب وفوق بعض… قلت:
-الزقاق ده، عشان كده مرضوش يدخلوا فيه…عشان الجثث اللي ملته.
-مظبوط.
-بالعكس، المفروض يرجعوا ويستخبوا وسط الجثث، الألبان فاكرين أنهم قتلوا الناس كلهم هنا، مش هيرجعوا، مش هييجي ف بالهم أن في أحياء…
أمين المكتبة رد:
-قوليلهم بنفسك!
في نهاية الممر الناحية التانية لمحت ولدين، مراهق وطفل، ماشيين ببطء ، رايحين لممر تاني في المكتية… زعقت:
-إرجعوا، إستخبوا وسط الجثث، إرجعوا!
دي كانت أول مرة أشوف وش أمين المكتبة فرحان كده، ملامحه اتغيرت…. قال:
-بعد ما كانوا اتخطوا الزقاق ومشيوا فجأة ، وقفوا، أصلهم شافوا حد واقف من بعيد، واحدة ست، شكلها غريب، لبسها وهيئتها، “دياب” سأل “آصف”: مين دي…. “آصف” رد: معرفش، بس سمعت اللي قالته؟……..”ايوه، غريبة، برغم إنها بعيدة، بس سمعتها بوضوح بتقول استخبوا وسط الجثث!”……
وفعلًا رجعوا بسرعة، ودخلوا المقبرة الجماعية…
قصة مفترق احمر
بعد ما دخلوا الزقاق بلحظات، ظهر كام جندي في نفس الطريق اللي كانوا فيه، يعني كانوا أكيد شافوهم وقتلوهم لولا إنهم غيروا المسار ودخلوا الزقاق… أهو ده برده أول مرة يحصل…
الأرض كانت مفروشة بالجثث والأشلاء ، التربة مش باينة من تحتيهم، “آصف” و”دياب” فضلوا ماشيين لحد نص الزقاق، وبعدين مددوا، مسكوا إيد بعض وفضلوا ساكتين، غريبة أوي، الراحة والأمان اللي حسوا بيه، عمرهم ما تخيلوا إنهم هيحسوا بالسلام ده والطمأنينة وهما في مقبرة، الموت كان الحارس بتاعهم من الأحياء….

فاتت أكتر من ساعة وهما على وضعهم، وبعدين “آصف” قرر يتحرك، “دياب” كان عنده رأي تاني، قال إنهم المفروض يستنوا شوية كمان، بس “آصف” أصر، كان متأكد أن الجنود كلهم مشيوا من المنطقة دي، خلصوا مهمتهم هنا…

قاموا ومشيوا للمكان اللي دخلوا منه، “آصف” كان عنده حق، مكانش في أثر للجنود، نجيوا من المعركة، من النار اللي التهمت الناس اللي كانوا في محيطها، نار النزاع على السلطان وتخليص الحسابات…
خيوط الفجر اخترقت السما، شعاع نور في بحر عتمة….
قصة مفترق احمر
ابتسامة “آصف” لأخوه كانت مضيئة أكتر من نور شموس كتير متجمعة….
“آصف” كان عنده حق، مكانش في أثر للجنود، على حد علمهم!
سهم الغدر اخترق درع الأمل، مع اتساع ابتسامة “آصف”، “دياب” اتفاجأ بنصل رمح في صدر أخوه، جندي غرز رمح في ضهر “آصف” لحد ما اخترق صدره….
صرخة “دياب” هزت الشوارع… “آصف” شاورله أنه يهرب…

في محاولة بائسة “دياب” جري ، في خطوط مش مستقيمة، شوية يمين شوية شمال…. جندي ظهر قدامه وجندي وراه وجندي جنبه وجندي من الناحية التانية، الموت حاوطه من كل جهة….
“الدموع نزلت من عيني ، غرقت وشي… لقيت نفسي بكمل الحكاية:
-“دياب” وقع، طلقات الغدر صابت جسمه الصغير، بالنسبة لهم مكانش طفل ولا حتى بني آدم، مجرد فريسة، طير في السما أو غزالة ف غابة، عشان الهيستيريا، هما كمان مبقوش بني آدمين، اتحولوا لوحوش، اتصابوا بالوباء، هيستيريا الدم….
قصة مفترق احمر
رد عليا:
-الحكاية خلصت…وهتبتدي من تاني…
ضحكت في وسط ما انا ببكي وقلت:
-الحكاية هتتحكي من تاني…
-أنتي اللي هتحكيها، بالتفاصيل اللي زودتيها، وعلى حسب اللي هتحكيله، يمكن المرة اللي جايه تكون ليهم فرصة أكبر، فرصة للنجاة…التاريخ أصله احتمالات، ممكن نفس الحكاية يكون ليها كذه نسخة مختلفة….

“أول مرة أشوف المشهد واضح كده، ظهرت قدامي “ميلاء”، كانت جثة ممدة على الأرض، في فجوة في بطنها مكان الرصاصة ودمها ناشف، بس مكانتش في المغطس ولا حتى الحمام، كانت….. جوه المحل بتاعها، محل الجلاليب والسراويل، فجأة فتحت عينيها وشهقت، قامت ووقفت في نفس الحته اللي كانت واقفة فيها قبل ما يظهر ولادها ويبلغوها باللي حصل في القلعة…..”آصف” كان عنده فجوة كبيرة في ضهره وصدره ، بس كان واقف ساكت من غير حركة في مكان تاني غير اللي اتقتل فيه، قرب بوابة القلعة، مشي خطوات كأنه إنسان آلي لحد الحتة اللي وقف فيها لما كان مستني ظهور موكب الجنود و”دياب” ظهر في مكان قريب منه، مشي لحد ما بقى جنب أخوه، بقوا في نفس وضعيتهم بالظبط، قبل ما البوابة تتفتح….”دياب” بص لأخوه ، بوشه الأصفر وشفايفه الزرقا وقال له : “دي مش أول نموت فيها صح؟”………”لأ يا “دياب” مش أول مرة!”……..”إيه اللي بيحصل؟”…….”معرفش”…….”إحنا في فجوة زمنية ولا البرزخ؟”………”كل اللي أعرفه أن الحكاية بتتعاد، بنصحى بعد ما نموت، ونتحرك أول ما الحكاية تتحكي من أول وجديد”.,,,,…”طيب بنفتكر؟”……..”لأ، شوية وهننسى كل ده ، أو ما تبدأ الحكاية هنعيشها تاني وهننسى كل اللي حصل”………”ممكن نعيش في نسخة من النسخ، ممكن مرة ننجي؟”…….”ممكن”…

“عرفت أن الوقت جه، مهمة أمين المكتبة خلصت، ووجودي مبقاش ليه مغزى، من نفسي روحت في اتجاه باب المكتبة، فتحته ومشيت….
قصة مفترق احمر
بعد كذه خطوة، بصيت ورايا، كان عندي فضول أشوف باب المكتبة للمرة الأخيرة…بس لقيته إتغير! قدم أوي، بقى دايب والتراب عليه أشبار، والمبنى متهالك، مكانش كده! فضلت باصة ليه، مشلولة مكاني لحد ما جه راجل سألني إذا كنت محتاجة أو بدور على حاجة…. قلتله: المكتبة…رد:
-ياااه، مكتبة “مروان الأمين” ، من وقتها المبنى متسكنش.
-من وقتها؟
-بعد ما مات، من أكتر من 30 سنة، بس انتي ازاي عرفتي بموضوع المكتبة ده؟ دي من عمرك، تقريبا الأمين مات في السنة اللي اتولدتي فيها أو بالكتير لما كان عندك سنة أو اتنين…

سبت الراجل وهو بيكمل كلامه ومشيت ، دماغي اتزحمت بأفكار كتير، مكنتش قادرة أسمع زيادة عن كده، موبايلي رن، كان واحد من صحابي…قعد يزعق ويسألني عن مكاني، بقالي 8 ساعات مختفية! كانوا بيحاولوا يوصلولي مش لاقينني ف أي شارع قريب ولا برد عليهم… وقفت مكاني لحد ما جم عشان ياخدوني ….في وسط عتابهم وزعيقهم قلتلهم:
-عندي حكاية ليكم، لازم تسمعوها….

“بعد ما “آصف” و”دياب” كانوا واقفين وحدهم قدام باب القلعة، أجسامهم باردة، حواليهم أرض خالية والرياح بتضرب في التربة والتراب محاوطهم، الأرض اتزحمت ناس، الجروح في أجسامهم التأمت، وملامحهم اتحركت بعد جمودها، عينيهم لمعت وابتسامتهم اترسمت على وشوشهم، استعدوا لخروج الجنود، مستنيين بفارغ الصبر، واضح أن الناس اللي ورا السور إتلهوا في حفلتهم واستحلوا الضيافة والاستقبال…….”

“تمت”
ياسمين_رحمي

قصة مفترق احمر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى